لا يخفى على المتأمل في الساحة الثقافة اليوم، أن المجتمعات الاسلامية والعربية - وبصرف النظر عن هوياتها العقدية سنية كانت أم شيعية أم غير ذلك- يطفو على سطحها نموذجان عقائديان، نموذج مغلق ونموذج منفتح، وما يهمني في النهاية هو أن أصل إلى معرفة موقع الجزائر الثقافي بين الانغلاق والانفتاح مقارنة مع غيرها من التجارب العربية والإسلامية، باعتبار أن تجربة الجزائر ما هي إلا امتداد للتجارب العربية والإسلامية وحتى تجارب الأمم الأخرى التي دخلت في تكوين الثقافة العربية والإسلامية - والجزائرية معهما- بفعل الوسائط الإعلامية المعاصرة وما أتاحته من سهولة في التواصل والاطلاع على منجزات الآخر بكل تجلياته الحضارية وغير الحضارية وأيضا بفعل الهشاشة الذاتية التي خلقت فراغا رهيبا تم ملؤه باستعارات من الآخر وهذا ما يتجلى في الولع بالتقليد، كما عبر عن ذلك ابن خلدون حين قال: «المغلوب مولع بتقليد الغالب»، وإضافة إلى ذلك فقد لعبت الأحداث السياسية والاجتماعية -على الأقل بعد نكسة 1967- في تشكل وعي جديد لدى شعوب الأمة العربية التي انقسمت على نفسها بين الانغلاق المذموم والانفتاح اللامسؤول والعشوائي، وبناء عليه هنالك أسئلة جديرة بالطرح: أي من النموذجين (المغلق والمنفتح) يشكل الغلبة الساحقة اليوم في الفضاء الثقافي العربي والجزائري؟ وما هو شرط الاعتدال بينهما؟ في الحقيقة لطالما كان النموذجان المنفتح والمنغلق حاضرين على مدار التاريخ الاسلامي، مع وجود توازن واعتدال ظرفي في بعض الوقت وغلبة ساحقة للنموذج المغلق في أغلب الوقت، لكن لم يكن يطرح موضوع الانغلاق على الذات الإسلامية مثلما يطرح اليوم وبهذه الخطورة، ولعل المتتبع للشأن الثقافي يلحظ بجلاء ذلك الحظور القوي الذي يتمتع به النموذج المغلق والذي يتمثل في التعصب الديني الذي يشكل آفة الآفات الثقافية وأم المشاكل كلها، ذلك أنه لا شيء يؤثر في وجدان الناس ويتجلى في انفعالاتهم أكثر مما يفعل الدين الذي يشكل منظومة أخلاقية بالأساس قبل أن يكون عقيدة، وهو يتوغل في أحاسيس الناس ووجدانياتهم إلى أبسط إنسان ممكن فقد تجد التدين عند أستاذ جامعي مثقف، كما تجده عند شخص عامي لا يقرأ ولا يكتب، ولكن الحضور الديني جلي في سلوك الاثنين معا وفي تفكيرهما، وقد يكون فهمهما واحدا ومتطابقا. هل الدين افيون الشعوب؟ وعليه فإن أي عطب يصيب هذه المنظومة الأخلاقية يؤدي إلى نزيف حاد ينتج عن الاستاذ الجامعي المثقف كما عن العامي البسيط مثلا بمثل، وقد ينقلب الى فساد عظيم وشر مستطير يأتي على الاخضر واليابس ويضر باستقرار أي مجتمع، مثلما حدث ويحدث في بعض البلاد العربية، ذلك أن الدين «أفيون الشعوب» مثلما عبر عنه «كارل ماركس»، وأن أي خطاب ديني يصدر عن عالم أو مؤسسة افتائية أو حتى عن إمام بسيط يكون بالنسبة للشخص المتدين أمرا نهائيا ومفصولا فيه باليقين المطلق حتى وإن كان يبدو خرافيا، والسبب هو أن الخطاب الفقهي عندنا صار قلعة من الحجر واختراقها يعد عملا جنونيا بل عملا يؤدي بصاحبة الى اتهمامه بالهرطقة والزندقة والكفر البواح، تماما مثلما حدث مع المفكر المصري «نصر حامد ابو زيد» مثلا الذي أثارت كتاباته وبحوثه ضجة كبيرة واتهم بالارتداد عن الاسلام والدخول في الالحاد وبذلك لوحق قضائيا وعانى كثيرا من الاضطهاد والقهر وانتهت محاكمته بالفصل بينه وبين زوجته قسرا بحجة أنه لا يجوز للمرأة المسلمة الزواج من غير المسلم، وبرغم أن نصر حامد ابو زيد دافع مرارا عن نفسه مفندا الاتهامات الموجهة إليه إلا أنه ظل ملاحقا ومنبوذا مما أدى به إلى الهجرة والعيش في هولندا بعيدا عن مجتمعه اين تربى ونشأ وتعلم، وقبل وفاته بأسبوعين عاد إلى بلده مصر ليفارق الحياة هناك ويدفن حيث تربي بمدينة «طنطا». هذه الصورة الدرامية البائسة تعكس البطش والقبضة الحديدية والحضور القوي للنموذج المغلق ونصر حامد ابو زيد ليس الا عينة بسيطة ذلك ان اشكال العنف والقهر باسم الدين لا تمس فقط الباحثين والطبقة المثقفة انما تمس ايضا وبشكل اكثر رعبا ابسط الناس وهم الضحايا الأكثر غالبا. النموذج المغلق والمفتوح في التجارب السالفة والراهنة والمشكلة أن هذا النموذج يسيطر على الحياة العقلية والحياة الشعورية للإنسان المسلم وبصورة ضمنية لا واعية وهنا تكمن الخطورة لأن هذا المتعصب لا يرى نفسه إلا على أنه على الحق المبين. لكن الخطورة الأدهى والأمر - وقد تكون أيضا سبيلا للخروج من الازمة!- تكمن في تشكل وعي جديد وخطير لم يتم الحديث بشأنه مثلما يقع اليوم الا في العشرينيات من القرن الماضي حين قضى «كمال اتاتورك» -وكان يمثل الوجه السلبي للنموذج المنفتح انذاك- على اخر تنظيم سياسي للجماعة الاسلامية، هذا الوعي الجديد اصبح يشكل جزء من البيئة السياسية العامة فيما يعرف «بالاسلام السياسي» الذي تنامي الشعور بأهميته بفعل كتابات العديد من المنظرين للفكر الاسلامي -الذين أيقظوا همم الاسلاميين من أجل رص صفوفهم- أمثال سيد قطب وأبو الأعلى المودودي وتقي الدين النبهاني وغيرهم، ولاحقا مثلت الثورة الايرانية «1979»، ذروة الانجاز السياسي للحركات الاسلامية. لكن يبدو ان حركات الاسلام السياسي -وبرغم أن بعض منظريها كانوا من اهل العلم والثقافة- لم تستطيع ان تضع لها قدما في الخارطة السياسية العربية والاسلامية -باستثناء ايران- وظلت خارج اطار التاريخ! لأن الذي غلب عليها هو العاطفة والتعصب الديني بدل الحنكة والدبلوماسية السياسية التي تستوجب المرونة وطول النفس، وكانت النتائج تبعا لذلك فظيعة، وهنا تقفز الى ذهني بكثير من المرارة والاسى تجربة الجزائر الأليمة التي عكست اكثر صور الراديكالية الاسلامية بشاعة. وموازاة مع هذا الحضور القوي للنموذج المغلق كان حضور النموذج المنفتح باهتا بعض الشيء خاصة على المستوى الشعبي، فهذا النموذج ظل يتشكل غالبيته من الطبقة التي تمتلك شيئا من الثقافة والاطلاع على الآخر وبالذات على منجزات الغرب الحضاري وهذا لم يكن مؤاتيا دائما وبالأخص في فترة ما بعد الستينيات والى غاية انهيار الاتحاد السوفياتي، وبالرغم من أن أغلب البلدان العربية والاسلامية كانت تتبنى الاشتراكية كنموذج سياسي انعكس ايضا على المستوى الاجتماعي، ظل حضور النموذج المغلق بها قويا، ومع الانفتاح الباهت الذي لم يكن يشكل الطريقة المثلى -التي كانت ينبغي أن تكون- ظلت البلاد العربية والاسلامية تعاني التخلف والجهل والاستبداد والدليل أن تمكن بعض مؤيدي الانفتاح من دواليب السلطة السياسية جعلهم يبطشون بشعوبهم وكأنهم لم يأخذوا من الغرب كله الا افكار «ميكيافيلي» و»توماس هوبز» وأنظمة الفكر الاستبدادي، الشيوعي والنازي والفاشي! ولعل تجربة «الاخوان المسلمين» في مصر مع «جمال عبد الناصر» دليل على بعض سلبيات هذا النموذج المنفتح. وفي الجزائر التي لم تكن تجربتها تختلف كثيرا عن تجارب بعض البلدان العربية والاسلامية كان ولازال حضور النموذج المغلق حاضرا وبقوة والعشرية السوداء دليل قاطع على هذا، وبالرغم من ان بعض التقارير من هنا وهناك تصنف الجزائر وكأنها دولة علمانية بالنظر الى الدستور الجزائري وطبيعة النظام السياسي القائم بها، غير أن الحقيقة يجب أن تؤخذ من الشارع حيث تتلاطم الجماهير كأمواج البحر الهادر، هناك في الأسواق الشعبية وفي المقاهي وفي الخطابات المسجدية نستطيع أن نميز أي النموذجين حاضر وبقوة. والحقيقة أنه لا سبيل للخروج من الأزمة الثقافية للمجتمعات العربية والاسلامية الا بفهم وتفكيك بنية النموذج المغلق التي تعتمد الترسانة التراثية الاسلامية المثقلة قاعدة لها ضاربة بذلك قوانين التاريخ والصيرورة عرض الحائط، ولعل انفتاح بعض شبابنا اليوم على علوم الغرب الحديثة وعلوم الانسان والمجتمع ومناهجهما ووجود فراغات وثغرات تركها ممثلوا النموذج المغلق هو ما جعل بعض الشبيبة تشذ عن الركب فظهر الالحاد والتشيع وطائفة الأحمدية التي صارت هذه الأيام حديث العام والخاص في الجزائر.