المجتمع الفرنسي براغماتي وعاقب الأحزاب التقليدية بطريقته الخاصة أكد أستاذ التاريخ والمختص في العلاقات الجزائرية - الفرنسية الدكتور محمد الأمين بلغيث، أن الرغبة الجامحة في التغيير لدى المجتمع الفرنسي، هي التي صنعت نتيجة الدور الأول من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وقال أن ماكرون لم يحسم الأمور لصالحه لأن المفاجأة في الدور الثاني قابلة للحدوث. مستعبدا في ذات الوقت قدرة المرشح الفائز على الخلاص من التقاليد المتعارف عليها في إدارة شؤون الرئاسة في فرنسا. التفاصيل في هذا الحوار مع «الشعب». «الشعب»: مثلما توقعت مراكز سبر الآراء قبل أسابيع، تمكن المرشحين إيمانويل ماكرون ومارين لوبان من المرور إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وبالتالي لم تحدث المفاجأة التي تحدث عنها الاعلام الفرنسي مطولا؟ د.محمد الأمين بلغيث: فعلا المفاجأة لم تحدث، والنسبة التي فاز بها كل من ماكرون ولوبان طبيعية جدا، وبدا واضحا منذ البداية أن جيل التغيير من فئة الشباب خاصة أنه راهن على ماكرون، هذا الأخير استثمر أيضا في العداء الشديد القائم بين المهاجرين من العرب والمسلمين وبين اليمين المتطرف. فحسب الأصداء الأولوية، فإن نسبة معتبرة من حوالي 3 ملايين ناخب من المهاجرين صوّتوا لصالح المرشح الشاب ماكرون، بينما تصاعد اليمين المتطرف في مختلف أنحاء أوروبا في السنوات القليلة الماضية ما سمح لمارين لوبان في أن تحل ثانية لقدرة العنصريين على صناعة التوزان بين مختلف الأطياف السياسية. إضافة إلى هذا يحظى اليمين المتطرف بتشجيع ودعم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مختلف البلدان الأوروبية وليس فرنسا فقط، لأن الخطاب الشعبوي وجد صدى كبيرا. الجميع صار يتحدث عن «ظاهرة ماكرون»، كيف استطاع هذا الشاب (39 سنة)، بناء صورة سياسية لامعة لنفسه في ظرف وجيز؟ بالتدقيق في مسار كل مترشح، سنجد أن إيمانويل ماكرون هو أنظف المرشحين، وهو يجسد صورة التيار الديغولي (اليميني الوسطي) وأظهر قدرات عالية في قراءة التاريخ والعواطف، بدليل أنه لعب على وتر الاعتذار عن جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، والاعتذار كلمة كبيرة جدا أحدثت صدى واسعا في العالم كله. لأنه لم يسبق أن تجرأ سياسي على نعت تاريخ بلاده الاستعماري بالجريمة ضد الإنسانية والعمل الوحشي، لأن الغالبية تروّج للاستعمار كسلوك حضاري نقل الدول المحتلة من التخلف إلى المدنية والثقافة. ثم إن ماكرون يحظى بدعم ورعاية من اللوبي اليهودي المسيطر على وسائل الإعلام وكذا أصحاب المؤسسات الكبرى (البنوك)، وإلى جانب هذا كله، انخرط في صفه جيل من الشباب المثقف الذي لا يتهم بالصراعات القديمة وشغله الشاغل هو تحسين ظروفه الحياتية كالحفاظ على المدرسة العمومية وخلق مناصب الشغل وإيجاد حلول مقنعة لمعضلة الأمن والإرهاب. المؤكد أن الخاسر الأكبر في هذه الانتخابات، هما الحزبين التقليديين (اليمين واليسار)، ماهي الأسباب الكامنة وراء هذه الخسارة التي وصفتها الصحافة الفرنسية «بالانفجار الكبير»؟ المجتمع الفرنسي والأوروبي بصفة عام، غالبا ما يبحث عن التغيير، ويرى ذلك في الطاقات الشابة، بغض النظر عن التراكمات العنصرية والصور النمطية عن العرب والمسلمين والأفارقة والإسلاموفوبيا. وهو مجتمع براغماتي يحسن اختيار المرشحين جيدا، ولا يغفر لفئتين «اللصوص والذين يدوسون على تقاليده المحافظة». فلو ننظر إلى اليسار نجد أن الرئيس فرنسوا هولاند يعد الأسوأ في تاريخ الرئاسة الفرنسية، حيث كانت فترته مليئة بالفضائح وظهر أنه شخص مغامر وغير متزن في حياته الخاصة، وهذا ما لا يتقبله المجتمع الفرنسي، ومثل اليمين فرنسوا فيون الغارق في فضائح فساد، وبالرغم من الآلة الإعلامية والدعاية لا يتأثر الناخب الفرنسي كثيرا ويحسن الاختيار. - صعود الوسط المعتدل بقيادة ماكرون ومارين لوبان عن اليمين المتطرف إلى الدور الثاني، وسقوط الأحزاب التقليدية، هل يمكن أن يعني أن فرنسا وضعت خطوة أولى على عهد سياسي جديد؟ يمكن أن تكون هناك طفرة أو موضة مثلما حدث في بعض البلدان الأوروبية كاليونان وبلغاريا، حيث فاز مرشحون شباب بالانتخابات ولكن في النهاية سيقوم الفائز بخدمة الدولة الفرنسية وفقط، ولن يستطيع تجسيد كافة الوعود غير المألوفة التي طرحها في حملته الانتخابية، وسيعود إلى بيت الطاعة وسيتصرف كما اليسار التقليدي واليمين التقليدي في النهاية، لأنه لا يمكن التخلص من ضغوط اللوبيات والمؤسسات القوية والفاعلة. - دعت أغلب الوجوه السياسية المعروفة في فرنسا ومرشحا اليمين واليسار، إلى التصويت لصالح ماكرون في الدور الثاني، هل يمكن القول، إن النتيجة حسمت لصالح المرشح الشاب؟ هناك توقعات تشير إلى فوز ماكرون بنسبة 55 بالمائة في الدور الثاني، ولكن لا شيء يضمن وصوله بهذه السهولة إلى الإليزيه، وعلينا أن نلتفت إلى ما جرى في الانتخابات الأمريكية التي فاز بها دونالد ترامب وبالتالي لا يمكن التفاؤل بنتيجة معينة قبل الآون، ومهما حدث يظلّ الفرنسيون ملة واحدة من ديغول إلى اليوم. ماهي آفاق العلاقات الجزائرية - الفرنسية خلال السنوات الخمس المقبلة إذا ما سلمنا بفرضية فوز المرشح الأوفر حظا إيمانويل ماكرون؟ ماكرون المرشح الوحيد الذي زار الجزائر، وفعل ما يتجرأ على فعله سابقوه حين تحدث عن الاعتذار فيما يخص مسألة الذاكرة، وهي كلما قلت كلمة كبيرة جدا فعلت فعلتها وكسر كل الأعراف والتقاليد، ومكّنته من حصد الكثير من الأصوات. لكن ومهما يمكن، لدي اعتقاد راسخ أن الجزائر دائما تعطي فرنسا أكثر مما تحصل منها، وبالتالي علينا ألا ننتظر منه الكثير والفرنسيون كلهم سواء عندما يتعلّق الأمر بالجزائر، بل مازلت لدى فئة واسعة منهم ثقافة الاعتقاد بجميل بلادهم علينا، وبالتالي من الصعب عليه هو أو غير إعادة النظر في كثير من الأمور خاصة ما تعلّق بالمصالح الاقتصادية الكبرى للشركات الفرنسية.