طرح د. لويس مارتينيز الخبير في القضايا الأمنية بمعهد الدراسات السياسية بباريس إشكالية الأمن في حوض المتوسط التي تثير الجدل الساخن في هذه الفترة الحاسمة من التطور الذي تعيشها المنطقة الجيواستراتيجية ملتقى الحضارات والصراع الدولي المتواصل بين مختلف القوى المتحكمة في القرار. وأثار الخبير الذي يهتم بالشؤون الأمنية في الاتحاد الأوروبي تساؤلات كثيرة عن مسألة الأمن في هذا الحوض الذي كان في وقت مضى ولسنوات طويلة فضاء للصراع بين الشرق والغرب أيام الحرب الباردة. وكان في قلب اهتمامات صانعي القرار والإستراتيجية بالاتحاد السوفياتي سابقا والولاياتالمتحدة اعتمادا على قاعدة راسخة أن من يسيطر على المتوسط يتحكم في العالم على اعتبار أن الحوض ممر دائم للتموين بالطاقة وعبور للأساطيل البحرية العملاقة وفتحة مطلة على القارات الثلاثة إفريقيا أوروبا واسيا. وأكد مارتينيز في تشريحه للإشكالية الأمنية بالبحر المتوسط، أن المسالة تزداد اتساعا ببروز تعقيدات جديدة وتحديات غير مسبوقة عكس ما طغى على المنطقة أيام الحرب الباردة حيث كان التدافع من أجل وضع موطئ قدم في أي جهة من هذه المعمورة تأمينا للمصالح وحماية الدول التي تدور في الفلك والمدرجة ضمن النفوذ والمجال الحيوي فكانت الغلبة من نصيب الولاياتالمتحدة التي ظلت بارجات أسطولها السادس تجوب المتوسط طولا وعرضا في وقت انحصر فيه النفوذ السوفياتي في رقعة جغرافية ضيقة لا تسمح بتأدية الوظيفة الإستراتيجية الشاملة آنذاك. لقد انقلب الوضع رأسا على عقب وظهرت معطيات جديدة للأمن في حوض المتوسط، وبرزت حسابات أخرى جعلت النظرة تختلف وتتباين بين وحدات المنطقة السياسية منها الإرهاب والهجرة غير الشرعية والجرائم المنظمة كتجارة المحذرات وتهريب الأموال وغسيلها، وهي ملفات بالرغم من سخونتها وخطورتها على الأمن في أوسع مداه وأبعاده، لم ينظر إليها بعيون واحدة ولم تتخذ بشأنها سياسة مشتركة، بل وحتى يفتح حوار جاد مجدي للخروج بنتائج عملية تواجهه الخطر الداهم العابر للأوطان والحدود من أساسه بعد تحديد المصطلح والمفهوم الذي يشكل إطار التحرك الجماعي بعيدا عن قاعدة ''تخطي راسي''. من هنا تكشف لماذا الانتقائية في معالجة هذه الملفات توقف عندها مارتيناز وقال أن الدول الأوروبية لم تكن على نفس درجة مواجهة الإرهاب، والهجرة غير الشرعية والجريمة المنظمة بحكم موقع كل طرف ومصلحته وتأثيرات الخطر وتداعياته. ولهذا ليس من الغرابة في شيء أن تلجا الدول إلى اتفاقات ثنائية من اجل مواجهة الخطر المشترك الذي يشغل البال ويؤرق ضمير صانعي القرار والإستراتيجية، والمثل تعطيه فرنسا واسبانيا في مواجهة ما تسميه بالإرهاب الباسكي رغم أن الجماعات التي تنشط في هذا الحقل تصف نفسها بأنها حركات تحرر تسعى لاستعادة السيادة والانتماء والهوية. ليس بغريب في شيء أن يتعزز التعاون الفرنسي الاسباني ويذهب إلى الأبعد في اقتلاع جذور الحركة الباسكية الناشطة والنائمة عبر مداهمات خفية بعد تلقي معلومات استخبارية عن تنقلاتها وجرت مقاضاة رؤوس الحركة الباسكية بعد تسليمها لبلدها الأصلي المطالب إياها بناء على عقود واتفاقات قضائية. وبهذه الطريقة تواجه أوروبا خطر الجماعات الإرهابية التي تسللت إليها عبر قنوات متعددة واستقرت فيها وبرزت فرنسا واسبانيا وايطاليا وألمانيا أكثر الدول اهتماما بهذه القضية عكس الدول الأخرى التي كانت تغض الطرف ما لم يقع أي اعتداء عليها ولم يمس ترابها. حدث هذا مع بريطانيا التي كانت تاوي أكثر الشبكات الإرهابية ولا تحرك ساكنا تجاه حملاتها ودعواتها لاشعال فتيل العنف في دولها الأصلية. ولم تعدل بريطانيا عن موقفها سوى بعد الاعتداءات التي مستها في الصميم. فانحازت إلى الموقف الفرنسي والاسباني وغيرها من المواقف الأخرى التي لا ترى تسامحا مع الإرهاب المعتدي على الجميع ، المداهم للأعراف والقوانين و أقدس حقوق الإنسان وحرياته في صدارتها الحق في الحياة. ولم تكن الصورة مغايرة لدى دول الضفة الجنوبية التي تعاملت وتتعامل مع الإرهاب بدرجات متفاوتة حسب المصلحة والحسابات الآنية والآتية، وهي نفس النظرة تجاه تعقيدات أخرى تشكل محورا أساسيا في أمن المتوسط منها الهجرة غير الشرعية التي يحاول القيام بها سنويا عبر محور الساحل الإفريقي 30 ألف ''حراق'' في اتجاه ''الالدورادو الأوربي'' غير عابئين بأخطار البحر وهيجان أمواجه العاتية، لكن الكثير منهم يهلكون غرقا. وما تبقى يقع فريسة الحاجز المتحرك الذي أقامته أوروبا على طول المتوسط لسد بوابات التسلل إليها حتى باستعمال السلاح مؤكدة بالملموس أن أمنها ليس بالمرة أمن الدول الأخرى في الضفة الجنوبية التي لم تتوقف لحظة عن المطالبة بالتساوي في المعاملة وتطبيق المبدأ الأساسي في مسار برشلونة قبل الاتحاد من أجل المتوسط حول حرية تنقل الأفراد والسلع وترك جانبا الانتقائية التي خلطت الأمور وعقدتها وولدت اللاثقة في المعاملات، وعجلت بالسؤال المحير أي سياسة أمنية مشتركة في المتوسط الذي بقدر ما هو وحد الأمم أحدث انشقاقا وتمزقا وصار كل واحد يجري وراء مصلحته الضيقة دون أدنى اعتبار للآخر الذي يعيش معه نفس الهموم والتعقيدات ويطلع لمرحلة جديدة من تقاسم المنافع والإستراتيجية إلى ابعد الحدود.