أتساءل بيني وبين ونفسي منذ أكثر من أربعة عقود (1977-2019م) هذه الأسئلة المركزية: (لماذا لم نبنِ جامعة علمية مصنفة عالميا طيلة العقود الستة الماضية؟)، و(هل بالفعل نملك جامعة أكاديمية مصنفة تقوم بأداء وظيفتها التي وُجدتْ من أجلها، أم أنها مجرد روضة تسلية وتلهية للأطفال الكبار؟)، و(هل بالفعل الجامعة التي عرفتها أكثر من أربعة عقود مجرد مؤسسة شكلية لا تؤدي وظيفتها المطلوبة؟)، و(هل الأموال والميزانيات الضخمة التي تُخصَّص لها تعود بالنفع على الأمة، أم تعود على الثلة المقربة من رئيس الجامعة وأسياده وأذنابه؟)، وغيرها من الأسئلة المحرجة والمربكة والمثبِّطة والمدمرة.. نختزلها في السؤالين التاليين: (لماذا فشلنا في بناء جامعة مصنفة عالميا؟) و(لماذا فشلنا في البناء ونحن نملك كل مقومات البناء الحضاري المتكامل المادي والمعنوي والبشري؟). وقبل أن ألج بملاحظاتي العلمية المقصودة وفرضياتي وتحليلاتي واستقراءاتي واستبياناتي في عمق هذه الإشكالية البحثية، التي هي أشبه بالمأساة الغائرةِ الجروحِ في جسد الأمة الجزائرية المثخَنة بالطعنات القاتلة من أبنائها العاقين المتمردين الناكرين لعقد الولاء للوطن المقدس، أود أن أضبط معايير التصنيف العالمية للجامعات، تلك المقاييس التي تُشكل إطارا مرجعيا للتصنيف والتفضيل بين جامعة وأخرى، لتكون لنا سبيلا ومنهجا نستنير به في سائر عملياتنا وقراءاتنا التحليلية، ونعود إليه في تقييم أوضاعنا الهزيلة جدا، لأن نقد الأوضاع الجامعية أمرٌ قد مللنا منه من جهة، وقرفنا من الحديث عنه من جهة أخرى، وترفعنا عن الخوض والغوص في بركه الموحلة الآسنة ومستنقعاته المعدية العفنة، لعدم وجود نية حقيقية وإرادة سليمة من قبل السلطة لتغيير أوضاع الجامعة المتردية جدا، ونقلها نحو الأفضل، المتمثل في أداء وظيفتها الثلاثية الأبعاد، ولأنه لا سبيل لإصلاحها أو تعديلها أو الرفع من مكانتها بوجود هذه النوعيات البشرية الرديئة جدا التي تدير المشهد الجامعي الصوري، والتي تزاحم وتحاصر الفضيلة والعقل والكلمة العلمية الرصينة والبحث العلمي والمنهجي والأخلاق المهنية الفاضلة، وغيرها من القيم الجامعية الثلاثية الأبعاد.. بالطرق اللئيمة جدا، والأساليب المجَّة جدا، والوسائل القذرة والمنكرة جدا، والتي تشبه حال عصابات اللصوص والمنحرفين وجماعات الأشرار.. كتكوين العصبات الضاغطة لنيل بعض المكاسب المادية التافهة من أموال الأمة، أو تحقيق بعض الامتيازات الآنية الرخيصة من قوت الأمة، أو التسرب لاعتلاء بعض المناصب التي لها قدرها ومكانتها لدى الجامعات المصنفة، أو غيرها من المنافع الآثمة والمحرمة دينيا والممنوعة قانونيا.. معايير التصنيف العالمية: وتتلخص معايير التصنيف الجامعية العالمية وتختزل في الاكتشاف العلمي الدقيق، والإنتاج المعرفي الإنساني المتميز، والابتكار التكنولوجي الميكني الدقيق، وكثرة ونوعية براءات الاختراع في سائر مجالات الحياة التكنولوجية والصناعية والزراعية… والقدرة على سد حاجات القُطر من ما يحتاجه من الناحية العلمية والمعرفية الحية: (الطلبة، الأساتذة)، والصلبة: (الكتب والمؤلفات)، والإلكترونية: (معارف الشبكة الإلكترونية الجديدة والمتميزة)، والتي تتم فيها عمليات الخروج والقفز من مرحلة تعليم وإكساب المعرفة والعلم فقط، إلى مرحلة التسخير والقدرة والسيطرة على قوى الطبيعة في (أعماق البر والبحر وأعالي الجو والفضاء).. فضلا عن خدمة وقيادة المجتمع، وتوجيه ورسم المعالم الكبرى للنظام السياسي العام، فضلا عن تغطية مصاريفها من مداخيلها ومواردها. أيٌّ من جامعاتنا كان لها فضل اكتشاف فك شيفرة ADN؟ وأي من جامعاتنا كان لها فضل تفكيك الذرة إلكترونيا عبر الأجهزة الحاسوبية؟ وأي من جامعاتنا كان لها الفضل في إجراء سائر العمليات العلمية داخل الحواسيب الحساسة؟ وأي من جامعاتنا كان لها الفضل في تمكيننا من ثرواتنا الباطنية؟ وأي من جامعتنا حررتنا من قاعدة (49/51) التي تحمل شعار الراحل (مالك بني نبي 1905-1973م) القابلية للاستعمار، والتي يريد المفسدون اليوم أن يرفعوها ليُطمئنوا سادتهم المستعمرين الكبار الجدد، والتي مفادها: تعالوا أيها الأقوياء الأغنياء الأذكياء استعمرونا مجددا فنحن لسنا رجالا لحكم وإدارة هذا الوطن؟ وأي من جامعاتنا من حررت حوضنا المنجمي المقدر مساحته بمليون وسبعمائة ألف كيلو متر مربع (1700000) كلم؛ أي ما يعادل مساحة إسبانيا والبرتغال وفرنسا وإيطاليا معا؟ وأي من جامعاتنا حررتنا من مقولة لسان حالنا ومقالنا: نحن لسنا رجالا لاستخراج ثرواتنا المنجمية فتعالوا واستخرجوها وخذوا نصفها لأننا نحبّ العبودية والرّفاه والتمرّغ في أحضان العبودية معا؟ الجواب تعرفونه جميعا، بأنها لم يكن لها دورٌ، ولن يكون لها دور، إن بقيت على هذه الشاكلة المؤسفة، فقد كان دورُها منحصرا في التصفيق لنظام الحكم الدكتاتوري السائد في العالمين العربي والإسلامي، ودورها اليوم مجرد واجهات وهمية وشكلية يتباهى بها النظام في المحافل الدولية، ليخبرهم بلسان الهياكل العملاقة عن وجود مثقفين ونخب جامعية يجرون أبحاثا في مخابر تستهلك مئات المليارات من دون نتائج، وهي كلها وهمية وفارغة وكاذبة وطرق قانونية للسرقة والسطو على المال العام.. وإلا لماذا لم نر أي أثر يُذكر لنخبنا الجامعية العبقرية في هذا الحَراك الشعبي بما يتناسب مع مكانتهم وقدرهم وعلمهم ومكانتهم، وبما يتناسب والأموال الطائلة والباهظة التي يتقاضونها والرحلات السياحية التي يقومون بها إلى الخارج كل عام من مال الأمة المقهورة؟ لماذا لم نر المقالات والدراسات والأبحاث والمؤلفات والندوات والمؤتمرات وتلاخيص الكتب وعروض وشروح نظريات التغيير والصعود والسقوط والانهيار الحضاري، التي كُتبت فيها المئات من الكتب والدراسات والأبحاث، والتي كان من الواجب أن تُنوِّر بها النخب الجامعية الحَراك؟ للأسف الشديد لم نر سوى الفراغ والصراخ، حتى تساوى الجامعي مع عامة الناس في الصهيل الأرعن في المسيرات، حيث مسيرات النخب الجامعية في محاضن المعرفة والعلم والتنوير ومقاعد البحث والدراسة.. وعِوَضَ أن تتجه الأنظار إلى الجامعات وما دار فيها من نقاش، أو ما حيا فيها من مؤتمرات وندوات تدرس هذه الظاهرة الحَراكية، صار الناس يديرون رقابهم لوسائل الإعلام التقليدية وللوسائط الحديثة العاجة بالهبوط والغثاء غير الأحوى ممن يزيد الجاهل جهلا.. ونتساءل قائلين: هل تغطي جامعاتنا مصاريفها ونفقاتها من مداخيلها؟ هل تُعين الدولة والشعب وتساهم في ميزانية الدولة؟ هل تجبر العاملين بها على أن يُدخلوا الأموال إلى خزينة الجامعة، كما هي الجامعات الأوربية والأمريكية والآسيوية والتركية والماليزية وغيرها؟ أين جامعاتنا من هذه المعايير؟ السؤال المركزي الذي يجب طرحه دائما: أين جامعاتنا من هذه المعايير؟ وأين هو موقعها من الشارع الجزائري؟ أين هذا من ذاك؟ وهي عاجّةٌ بالملتقيات والندوات والمنشورات والمجلات والرحلات والأساتذة والطالبات والطلبة الغادين والرائحين وفي آذانهم السماعات الإلكترونية.. جواب ذلك كله تجده في حوانيت الطباعة الورقية المنتشرة بكثافة أمام الجامعات، والتي صارت تُدرّ ثروة كبيرة على أصحابها ومالكيها ومستأجريها.. والتي تُنبيك عن قيمة المطبوعات الورقية الهزيلة والمسروقة التي يقدِّمها هؤلاء البائسون الجامعيون لطلبتهم، والتي هي في معظمها فصول كتب لأساتذة غير جزائريين، وللأسف الشديد ثمة من لا يتعدى عدد أوراقها عشرة أوراق لتغطية (مساق، مقياس) علمي أُلفتْ فيه المئات من الكتب التي تعاني من غبار الزمن والنسيان والهجران. جواب ذلك في كشوفات التأخر والغياب والشهادات المَرضية والطبية الكاذبة واقتطاع نصف الحصة بحجة تلقي هاتف مهمّ، وفي عملية التآمر الرخيص بين البائسين الجامعيين (الأستاذ والطالب) في التواطؤ على عدم الحضور، أو في التواطؤ على حذف ثلاثة أرباع البرنامج، أو في الإبقاء على مطبوعة واحدة، أو في الاكتفاء بحفظ رُبع حزب عوض سبعة أحزاب في كل سنة، أوفي الحصص التطبيقية التي تُملأ بالهراء والفراغ والحكايات والعروض والأبحاث المسروقة من الشبكة المعلوماتية، وفي المحاضرات التي يعبث الطلابُ فيها بأجهزتهم النقالة طيلة الحصة، أو في غيرها من المساخر والمهازل الكثيرة، أو في المكتبات الفارغة من القراء.. وبعد هذه النتف المؤلمة من المشهد الجامعي الكئيب أنا أدعوكم من منبري الشروقي هذا على أن تتوقفوا وتبصروا حال جامعاتنا وأساتذتها وطلابها وإدارتها، لنقول بصوت مرتفع وصادق: إن الجامعات لا تكوِّن، ولا تُعلّمْ، ولا تثقف، ولا تعجّ بالنخب، ولا تنتج المعرفة، ولا تقود مجتمعا، ولا تخيف نظاما، فهي مؤسسات يجب غلقُها حفاظا على المال الذي تهدره من دم الأمة المقهورة.. وأحب أن أختم هذه اللمعات المؤلمة بتقديم رؤيتي وفلسفتي للجامعة مذ دخلتها إلى اليوم، لعلَّها تنير طريقا أو تهدي حائرا أو تنبِّه غافلا أو عاقلا.. رؤيتي وفلسفتي للجامعة: دخلتُ الجامعة الجزائرية شهر أكتوبر من سنة 1977م طالبا بمعهد الآداب والثقافة العربية بجامعة عنابة، ومررتُ بمحن وملاحقات ومتابعات ومؤامرات.. كثيرة وكبيرة ومازلت–والحمد لله- عاملا في الجامعة حتى كتابة هذه السطور شهر اكتوبر 2019م، وتعني هذه الجملة بلغة الأرقام: ما مجموعه اثنين وأربعين سنة كاملة. ويمكنني أن أختزل العقود الأربعة التي أمضيتها في الجامعة طالبا وأستاذا بعبارة، شتان بين من دخلها وهو يبحث عن دنيا أو شهادة أو منصب أو مكانة مرموقة أو وضيعة يصيبها وينالها، ومن دخلها كمعبر مهم لخدمة أمته، وبناء حضارتها ومكانتها بين الأمم. وهذا بيت القصيد، فالكثير من الهمل ممن دلف إلى الجامعة وقبع فيها عقودا لا يعرف منها سوى تلبية شهواته، وإشباع غرائزه، وإشفاء أسقامه النفسية، وإرواء عقده وعلله الباطنية، ومص دمائها، وتعويق وتحطيم وتبديد طاقاتها، وصرف أموالها ومحق إمكاناتها.. وهذا هو الصنف الذي يعشعش في المشهد الجامعي الحزين ويديره.. فإن كانت السلطة جادة في بناء جامعة مصنفة عالمية، جواب ذلك: ليس بهذه النوعية السمجة والقبيحة جدا، التي لا تنتج شيئا، إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، اللهم اشهد أني بلّغت. وللألم الجامعي قصة مبكية، وللعلم وللنخب حكاية دامية.. لها حلقاتها القادمة إن شاء الله.