عرف المفكر الجزائري حمودة بن ساعي مصيرا تعيسا، فرغم أنه درس في جامعة السوربون في العشرينيات من القرن الماضي، وكان صديقا وأستاذا للمفكر مالك بن نبي باعتراف هذا الأخير في مذكراته وبعض مؤلفاته الأخرى، إلا أن الأوضاع المتأزمة التي مر بها انتهت به إلى جحيم التهميش ودائرة النسيان. وتوفي حمودة بن ساعي عام 1998 عن عمر يناهز 96 سنة (من مواليد 1902) دون منزل يؤويه رغم أنه كان مثقفا مزدوج اللغة، وفضل أن يوظف اللغة الفرنسية كغنيمة حرب، كما يملك معرفة عميقة في الثقافتين الإسلامية والغربية، وحاضر في فرنسا ونادي الترقي بالجزائر العاصمة، وهو ما جعل العلامة عبد الحميد بن باديس سفه على انه من أفضل شباب وتلامذة جمعية العلماء المسلمين الذين درسوا في فرنسا. ويجمع العديد من المهتمين بفكر بن ساعي أنه كان يؤمن بالفعل الثقافي، وبفضيلة الحوار، وكان يعطي أهمية قصوى لدور النخب، لكنه مات في عزلة بعيدا عن الأضواء، حيث ترك عددا من المقالات والمؤلفات، إضافة إلى مذكراته التي لم تنشر، وهو ما جعله أحد المفكرين الذين لم تستفد منهم الجزائر رغم أنه لفت الانتباه مطلع القرن الماضي طالبا ومفكرا، فقد شد الرحال إلى فرنسا بعد أن أنهى دراسته في قسنطينة، وحصل على شهادة في الفلسفة من جامعة السوربون، وهناك تعرف على عدة مفكرين، وتوطدت أواصر الصداقة مع أندري جيد. وكان بمقدور بن ساعي الذهاب بعيدا في مساره الفكري والفلسفي، لكنه ذهب ضحية التهميش حتى من بعض مقربيه، مثلما تشير العديد من الكتابات التي أجمعت على زهده وسعة آفاقه التي لم تجد من يبلورها، أو يخرجه على الأقل من دائرة التهميش والحقرة والنسيان، وعانى حمودة بن ساعي قد عانى من ويلات التعذيب الجسدي على يد الاستعمار الفرنسي، ما تسبب له في عاهة على مستوى ظهره لتزيد متاعبه أكثر عقب الاستقلال، حين عاش معزولا دون منزل يؤويه مكتفيا بمهنة كاتب عمومي بإحدى المقاهي الشعبية لضمان مصروف الجيب، في الوقت الذي تحركت في السنوات الأخيرة بعض الأقلام التي حاولت تسليط الضوء على بعض أعماله غير المنشورة، وفي مقدمة ذلك الأستاذ نورالدين خندودي الذي نفض عليه الغبار في كتاب جمع العديد من أفكار بن ساعي وشهادات من عرفه عن قرب، في الوقت الذي تجاهله الحقل الثقافي بشكل غير مفهوم، رغم أن الكثير يعترف بكفاءته العلمية، بدليل أنه ناقش مستشرقين فرنسيين أمثال ماسينيون، وكان صديقا حميما ل "أندري جيد"، وكان من أقرب المقربين لمالك بن نبي الذي يصفه هذا الأخير ب "أستاذي وصديقي حمودة بن ساعي"، وأهدى له خصيصا كتابه المعنون ب "الظاهرة القرآنية".
بن نبي أهدى له "الظاهرة القرآنية" ويصفه ب"صديقي وأستاذي بن ساعي" وتحدث مالك بن نبي مطولا في مذكراته عن حمودة بن ساعي مطولا، بسبب الصداقة التي تربط الرجلين فقط، إضافة إلى ممارسات الأمن الفرنسي الذي كان يقتفي آثار المثقفين الجزائريين المناهضين للاستعمار، وهو ما ألحق الكثير من الأذى للرجلين اللذين ناهضا أفكار ماسينيون الاستشراقية في جامعة السوربون، ورغم هذا كان ماسينيون يكن الكثير من الاحترام لبن ساعي الذي كتب له رسالة سنة 1946 ينتقد فيها أفكاره، مشيرا أن ماسينيون أوهمه بإمكانية قيام صداقة بين فرنساوالجزائر، وهو الأمر الذي آلمه كثيرا، وجاءت رسالة بن ساعي كرد فعل على الجرائم التي ارتكبتها السلطات الاستعمارية ضد الجزائريين يوم 8 ماي 1945. وحسب الأستاذ نورالدين خندودي في تصريحات سابقة، فإن فكر حمودة بن ساعي يقع بين أطروحات الشيخ بن باديس ومصالي الحاج، فهو وطني من طراز خاص، وكان يحمل أفكارا مستنيرة حول النهضة في الجزائر، فقد تأثر حسبه بأفكار الأمير خالد، ثم بأفكار نجم شمال إفريقيا. وتشير الكثير من الكتابات أن مالك بن نبي لم يتنكر لزميله وأستاذه ورفيق دربه حمودة بن ساعي، مثلما أشارت إليه مجلة الرواسي الصادرة بباتنة مطلع السبعينيات التي تضمنت عدة شهادات على بعض الشهادات أو الكتب التي ألفها مالك بن نبي، حيث قدم له إهداء في أكتوبر 1946، بمناسبة تأليف الكتاب القيم "الظاهرة القرآنية" كتب فيه: "إلى صديقي وأستاذي حمودة بن ساعي الذي عانى كثيرا من تحالف القوى الاستعمارية الشرسة التي جعلته مهمشا في الساحة مثل آخرين"، وتلقى إهداء مماثلا من الدكتور عبد العزيز الخالدي في سنة 1848 إحدى مؤلفاته وتضمن العبارات التالية: "إلى الذي وجه جيلا من المثقفين الجزائريين وجهة ربانية...عزيزنا محمد بن ساعي" وبالعودة إلى رفيق دربه مالك بن نبي، فنجد أن كتابه المعنون ب "مذكرات شاهد للقرن، طبعة دار الفكر فقد تضمنت العلاقة الوطيدة بين مالك بن نبي وحمودة بن ساعي، ففي ص 35 نقف على إشادة واضحة لهذا الأخير "أدين لحمودة بن ساعي باتجاهي ككاتب متخصص في شؤون العالم الإسلامي..."، وفي ص 236 يقول مالك بن نبي "زاد هذا النشاط في تفاقم الأمر بالنسبة لدراستي، ولكنه لم يعطل شيئا من مناقشاتي مع حمودة بن ساعي، كان يزورني في بيتي كل جمعة في المساء، يصطحبه أحيانا أخوه صالح الذي التحق بدوره بباريس، فنتناول العشاء سويا...ولم يكن موضوع المناقشة محددا من قبل، وغالبا ما تحدده الورقة الصغيرة التي يخرجها حمودة بن ساعي من جيبه، وقد تكون أحيانا ملاحظة له أثناء مطالعته في الأسبوع أو مجرد مقال مقتطع من جريدة...كانت المناقشة متنوعة، علمية أحيانا وسياسة أخرى ودينية واجتماعية غالبا...". وأشار في ص 304 إلى طموحهما المشترك في تولي جمعية العلماء المسلمين واختلافهما في وجهة النظر مع مثقفين آخرين "وبما لم يكن توفي من هذه الناحية نزيها كل النزاهة، إذا كان لي غرض يشاركني فيه حمودة بن ساعي، هو أن نكون نحن الاثنان الوارثين لجمعية العلماء المسلمين بعد دراستنا، لأننا نظن في أنفسنا الجدارة لخوض المعركة السياسة مع المحافظة على الخط الإصلاحي ونتائجه في الوطن، الأمر الذي جعنا نختلف فيه تماما مع المثقفين الآخرين"، وفي ص 324 يقول "...ويستولي على أحيانا الحنين إلى أصدقائي خاصة حمودة بن ساعي فأسافر إلى باريس"، وفي ص 325: "...وكنت أتجاذب الحديث مع حمودة بن ساعي عن الوضع في الجزائر وعن كتاب ماسينيون عن (الحلاج) الذي كان موضوع الأخذ والرد في تلك الفترة" وغيرها من العبارات التي تضمنتها مؤلفات أخرى.
بن باديس وصفه ب"خيرة شبابنا الذين درسوا بفرنسا" والإبراهيمي نصحه بالمغادرة وكان الفيلسوف حمودة بن ساعي محل إشادة خيرة الشيوخ والعلماء والمثقفين الذين اعترفوا بقيم وأخلاق وإمكاناته بدليل المقولات التي أدلوا بها في عدة مناسبات في مقدمتهم الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي قال عن حمودة بن ساعي ما يلي: "...إنه من خيرة شبابنا الذين درسوا بفرنسا". وأثناء زيارة الشيخ البشير الإبراهيمي لمدينة باتنة في 20 مارس 1950 وقال لحمودة بن ساعي "قلبك مملوء بالوطنية الصادقة، وحالتك تبكيني فاخرج من هذا الوطن الموبوء..."، وفي 30 أوت 1964 قام بزيارة للبشير الإبراهيمي الذي كان تحت الإقامة الجبرية فقال له وهو يعانقه العناق الأخير "الله يبقي عليك الستر"، كان ذلك قبل وفاته ب 9 أشهر، وقال عنه رابح وزناتي صاحب مجلة "صوت الأهالي" ما يلي: "أيها الشاب إنك تعالج المواضيع بمنهجية كاملة، وهذا في عام 1928 بعدما قرأ له مقالا مطولا نشر له في إحدى المجلات، وقال أيضا: "أنه يشبه ابن رشد في عطائه". وكتب عنه سيد احمد الميلي عام 1932 في "الجريدة الحرة": "المستقبل يعيد لنا في حمودة لن ساعي الرجل النخبوي الذي يشرف الفكر الإسلامي". وفي جانفي 1935 في جمعية "الوحدة في سبيل الحق" قال عنه الكاتب الفرنسي الشهير أندري جيد: "زارني شاب مسلم –يقصد حمودة بن ساعي- حيث أقرّ أنه أدهشني بأفكاره".
بن ساعي.. تنشئة تعيسة وعراقيل بالجملة يعد محمود بن ساعي أو حمودة كما يعرفه الكثير بهذه التسمية من مواليد 1902 بمدينة باتنة، من عائلة محافظة، حيث استهل دراسته في الكتاتيب قبل أن يلتحق بدروس الشيح عبد الحميد بن باديس بقسنطينة رفقة أخيه صالح الذي يعد حسب بعض الشهادات أول مهندس زراعي في الجزائر، وتعد هذه القفزة نقطة مهمة في حياة حمودة بن ساعي الذي أبان عن ميول كبيرة نحو الإصلاح ناهيك عن مقدرته الفكرية والمعرفية وهذا باعتراف الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس نفسه ما سمح له بربط علاقات مع رفقاء الدرب والدراسة الذين كان لهم شأن كبير فيما بعد على غرار مالك بن نبي خاصة، كان يحمل هما فكريا مستقبليا حفزه على مواصلة الدراسة في فرنسا. وأحدث الفقيد حمودة بن ساعي وثبة أولية بتنقله إلى العاصمة الفرنسية باريس للدراسة في جامعة السوربون بعدما أبان عن فكر موسوعي يجمع بين الثقافة العربية الإسلامية والاطلاع بحذر على الثقافة الغربية، مع تركيزه على التوجه الإصلاحي المحافظ، وسجل بن ساعي في قسم الفلسفة، حيث استغل تواجده هناك للم شمل الطلبة المغاربة والمساهمة في توعيتهم وتثقيفهم والاستثمار في الفكر الإصلاحي الذي تأثر به خلال فترة دراسته بقسنطينة، وتزامن ذلك مع تواجد رفيق دربه مالك بن نبي، وهو الأمر الذي أثار حفيظة القوات الأمنية الفرنسية التي بدت متحفظة من تحركاته خاصة بعد صعود التيار الوطني بقيادة مصالي الحاج والأمين خالد الجزائري، ورغم طموحات حمودة بن ساعي إلا أنه لم يوفق في الحصول على شهادته وعجز عن مناقشة أطروحته بسبب ضغوط من دوائر استعمارية في مقدمتهم المستشرق لويس ماسينيون الذي قيل أنه أحد اكبر المعرقلين لمسيرة بن ساعي في حياته العلمية ما خلف صدمة نفسية كبيرة كان لها آثار سلبية طيلة ما تبقى من حياته.
دائرة التهميش أزّمت وضعيته بعد عودته إلى أرض الوطن بعد الاستقلال عاد حمودة بن ساعي إلى الجزائر، واستقر بمسقط رأسه باتنة، لتزيد متاعبه في ظل الإهمال ناهيك عن موجة التعذيب التي تعرض لها من قبل الاستعمار ما تسبب في آثار نفسية وأخرى جسدية مستديمة على مستوى الظهر بقيت آثارها إلى غاية وفاته، وبسبب المصير التعيس والمأساوي الذي عرفه المثقفون، وركن للصمت إلى غاية سنة 1981، حيث ألف كتابا حول أستاذه الشيخ عبد الحميد بن باديس. وخلف التهميش الذي تعرض له حمودة بن ساعي موجة استياء من عديد المفكرين والعلماء، على غرار الشيخ البشير الإبراهيمي الذي كان قد زاره بداية الخمسينيات وتفاجأ لوضعيته بعدما تحول إلى مجرد كاتب عمومي مغمور في إحدى المقاهي الشعبية يكتفي بدراهم معدودة لا تسد حتى رمق العيش والأنفة والكرامة، بدليل أن هذه المهنة لم تمكنه حتى من تلبية حوائجه البسيطة سواء اليومية أو المعرفية، ما جعله يفتقد إلى مسكن يؤويه طيلة الفترة التي عاشها بعد الاستقلال. ويعترف بعض الدارسين لفكر حمودة بن ساعي أن له أسلوب متميز، فهو يجيد اللغة الفرنسية التي وظفها كغنيمة، كما تأثر بالتيار الإصلاحي الذي كان يقوده الشيخ عبد الحميد بن باديس، ويجمع الكثير من المتتبعين والمهتمين على تميز أسلوبه في الكتابة وترجمة أفكاره ومتاعب شعبه وقال في هذا الشأن "لم استطع أن أكون اسما أدبيا لأن الاستعمار منعني من ذلك وأراد لي حياة البؤس"، ورغم التهميش الذي حرم باتنةوالجزائر من فيلسوف كبير على خطى رفيق دربه مالك بن نبي إلا أنه لم يبق كتوف الأيدي وكان يطمح في نشر عديد الكتب التي يكون قد ألفها على غرار "في خدمة الجزائر"، "في خدمة الإسلام" إضافة إلى كتاب بعنوان "كتابات حول ذكريات الشباب" وآخر هو "مذكرات رجل عانى الكثير".
بن ساعي مات قبل أن يولد وتشبه حياة محمد حمودة بن ساعي، حياة عدد من المثقفين الجزائريين الذين عانوا الإقصاء والتهميش، فهو مثقف غير معروف لدى عامة الناس، بل حتى في أوساط المثقفين، رغم أن مالك بن نبي اعتبره في مذكراته التي صدرت بعنوان "العفن" بمثابة أستاذه وأهداه كتابه الشهير "الظاهرة القرآنية". وقد تنبأ له الشيخ الإبراهيمي بهذا المصير التعيس، فقال له سنة 1950 حين التقى به في باتنة "إنك عالم، لكن ينقصك فن التصرف مثل الشيطان" فنصحه بمغادرة الجزائر. والواضح أن حمودة بن ساعي ولد في ظروف لم تخلف له سوى المتاعب والمأساة، فرغم احتكاكه بخيرة علماء الأمة، على غرار عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي ومالك بن نبي، وتعرفه على فلاسفة وأسماء ثقافية وسياسية ثقيلة في الجزائر وخارج الوطن، إلا أن حمودة بن ساعي عاش مغمورا ومعزولا في بلد تنكر كثيرا لعلمائه وأعلامه، بدليل نهايته المأساوية، فقد مات دون أن يحقق أمنيته في الحصول على مسكن اجتماعي، ولا على منصب عمل يحفظ له كرامته ويعزز مكانته الفكرية والاجتماعية، لتختفي مجمل مخطوطاته وكتاباته التي لم تعرف طريقها إلى النشر رغم الوعود المقدمة له من بعض الأطراف، وهو أمر طبيعي لرجل تناسوه في حياته ونسوه تماما منذ وفاته عام 1998، وهو نفس المصير الذي عرفه شقيقه صالح بن ساعي الذي يعد أول مهندس زراعي في الجزائر، وأول من تنبأ بجفاف دول الساحل، لكنه مات في صمت بمدينة القنيطرة المغربية.