كأس الجزائر لكرة القدم سيدات : برنامج مباريات الدور ثمن النهائي    تحضيرات رمضان: التكفل بجميع طلبات رخص التوطين البنكي لمستوردي عدة مواد غذائية    الأمم المتحدة: دخول أكثر من 900 شاحنة مساعدات إنسانية لغزة    الفريق أول السعيد شنڨريحة يستقبل رئيس قوات الدفاع الشعبية الأوغندية لتعزيز التعاون العسكري    كأس افريقيا للأمم 2025: عملية القرعة تجرى يوم 27 يناير الجاري    المجلس الشعبي الوطني: التوقيع على اتفاقيتين في مجال الرقمنة    شايب يتباحث مع الوزيرة المحافظة السامية للرقمنة حول سبل تفعيل آليات عصرنة ورقمنة الخدمات القنصلية    بوغرارة: وقف إطلاق النار هو بداية مسار جديد للقضية الفلسطينية    مجلس الأمن: عطاف يترأس اجتماعا رفيع المستوى حول مكافحة الإرهاب في إفريقيا    بصفته مبعوثا خاصا لرئيس الجمهورية: سايحي يستقبل بأنتاناناريفو من قبل رئيس مدغشقر    شرفة يترأس لقاءا تنسيقيا مع أعضاء الفدرالية الوطنية لمربي الدواجن    مجلس الأمة: وزيرة التضامن تعرض نص قانون حماية الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة وترقيتهم    الآلية الإفريقية لمراجعة النظراء: منصوري بجوهانسبرغ لترأس أشغال اجتماع لجنة توجيه ومتابعة نقاط الاتصال    شايب يلتقي المحافظة السامية للرقمنة    وزير الأشغال العمومية والمنشآت القاعدية في زيارة عمل وتفقد إلى ولايتي سطيف وجيجل    وزير التجارة الداخلية و ظبط السوق الوطنية "الطيب زيتوني" تعبئة كافة الإمكانيات لضمان استقرار السوق الوطنية خلال رمضان    إصابة عدد من الفلسطينيين في هجوم للمستوطنين على منازل ومنشآت تجارية ومركبات شرق قلقيلية بالضفة الغربية    العدوان الصهيوني على غزة: انتشال جثامين 58 شهيدا من مدينة رفح جنوب القطاع    عطاف يترأس اجتماعا وزاريا لمجلس الأمن حول القضية الفلسطينية    ضرورة أن تخلص الجلسات الوطنية للسينما إلى مخرجات وتوصيات    هل فلتت منا صناعة التاريخ..؟!    رئيس الجمهورية ينهي مهام والي بشار    سوسطارة في الصدارة    الجزائر لا ترضخ للمساومات والابتزاز    بوجمعة يجتمع ببن مولود    الجزائر ملتزمة بدعم تحقيق أهداف الطاقة النظيفة إقليميا ودوليا    دومينيك دي فيلبان ينتقد بشدة الحكومة الفرنسية    الاحتلال المغربي يطرد ثلاثة إسبان من مدينة الداخلة المحتلة    الرئيس تبون يواصل سنّة التشاور السياسي تمهيدا للحوار الوطني    مواقف شجاعة في مناهضة الفكر الاستعماري    كرة اليد الجزائرية "مريضة" منذ سنوات    استشارة الأبناء تأسيسٌ لأسرة متوازنة    الدرك الوطني.. انتشار في الميدان لفك الاختناق وتأمين السياح    ارتفاع في منسوب المياه الجوفية والأودية والينابيع    أولياء تلاميذ متوسطة "جعبوب" بقسنطينة يناشدون الوزير التدخل    "الكناري" لتعزيز الصدارة وبلوزداد للتصالح مع الأنصار    توقع داربي جزائري ومواجهة بين المولودية وبلايلي    تعزيز آليات التمويل وترقية الإطار التنظيمي والرقمنة والتكوين أهم توصيات الجلسات الوطنية للسينما    العاب القوى/ البطولة الافريقية 2025 لأقل من 18 و20 سنة : مدينة وهران مرشحة لاحتضان الحدث القاري    بورصة الجزائر: انطلاق عملية فتح رأسمال بنك التنمية المحلية ببيع 44.2 مليون سهم جديد    الحماية المدنية: اجتماع اللجنة الثنائية المشتركة الجزائرية-تونسية بولاية الوادي    صحبي: خطاب رئيس الجمهورية التاريخي في الجلسات الوطنية للسينما يؤسس لثورة ثقافية حقيقية للفن السابع    الجوية الجزائرية: على المسافرين نحو السعودية تقديم شهادة تلقي لقاح الحمى الشوكية رباعي التكافؤ بدءا من ال10 فيفري    عرقاب يشارك هذا الثلاثاء بروما في اجتماع وزراء الطاقة المعنيين بمشروع ممر الهيدروجين الجنوبي    الجوية الجزائرية: المسافرون نحو السعودية ملزمون بتقديم شهادة تلقي لقاح الحمى الشوكية رباعي التكافؤ بداية من 10 فبراير    الجزائر تخسر أمام تونس    الجزائر تشهد حركة تنموية رائدة    رئيس الجمهورية: كل رموز المقاومة والثورة التحريرية المجيدة يجب أن ينالوا حقهم من الأعمال السينمائية    سينمائيون يشيدون بعناية رئيس الجمهورية لقطاع السينما    صحافيون وحقوقيون يتبرّؤون ويجدّدون دعمهم للقضية الصحراوية    وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ    بلمهدي: هذا موعد أولى رحلات الحج    رقمنة 90 % من ملفات المرضى    المتحور XEC سريع الانتشار والإجراءات الوقائية ضرورة    كيف تستعد لرمضان من رجب؟    ثلاث أسباب تكتب لك التوفيق والنجاح في عملك    نحو طبع كتاب الأربعين النووية بلغة البرايل    انطلاق قراءة كتاب صحيح البخاري وموطأ الإمام مالك عبر مساجد الوطن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماسياس فنان "كامومبار".. وهذه حكاية اليهود مع "الصباط المسيرج" ؟
"الشروق" تقتحم "معاقل" اليهود بقسنطينة وتفتح علبهم السوداء:

اليهود الذين حلّوا بقسنطينة بعد سقوط الأندلس فارّين من جحيم المسيحيين، عاشوا أحرار إلى فترة بسبب الاستعمار الفرنسي الذي فتح لهم الباب واسعا لممارسة طقوسهم وشعائرهم الدينية، بينما اكتفى بمعاقبة الجزائريين على كلّ صغيرة وكبيرة قد تطال اليهود من قبلهم، ووجودهم في المدينة ترك آثار لامست جوانب متعددة على مستوى الفن والموسيقى والكتابة وكذا العمران الذي يختلف عن الهندسة المعمارية الجزائرية الإسلامية في نقاط كثيرة.
اليهود والأقدام السوداء.. وجهان لعملة واحد
بغية كشف حقيقة ما كان عليه اليهود بقسنطينة، اقتحمت "الشروق" معاقلهم ونقلت كيف كانت علاقتهم بالسكان المحليين الذين عوملوا بقسوة من طرف الساكنة اليهودية التي "اغتصبت" أرضهم عن طريق مساعدة فرنسا الاستعمارية، وبالرغم من أنّ اليهود في الظاهر اختفوا من أماكن المدينة، إلا أنّه في السرّ قد يوجد بعضهم وهم قلّة قليلة، لا تبدي ديانتها علنا خوفا من ردّة فعل سكان قسنطينة، لكن على مستوى البنايات اليهودية التي اتسمت بالكثرة في عهد الاستعمار تبدو قليلة اليوم وما بقي منها مجرد أطلال وخراب، باستثناء تلك المساكن أو المعابد التي تحوّلت إلى مساكن رممّها الجزائريون واستغلوها للإيواء لاسيما في ظلّ الأزمة السكنية التي تشهدها الجزائر بكل ولاياتها، فضلا عن أخرى يعود زمنها إلى القرن ال14 وال16 حوّلت إلى محلات تجارية.
دخول معاقل "اليهود" لم يكن سهلا البتّة بالنظر إلى عديد العوامل أبرزها أنّ سكناتهم باتت مأهولة وما تبقى فهو خراب وأطلال يقع بمناطق شتّى بالمدينة، ومن يعرفها فهم القاطنة فقط، وما على الباحث أو الزائر من غير المدينة أن يستقصي ويبحث، لكن الوصول إلى مصادر أمنة تطلعك على حقيقة اليهود أمر صعب للغاية، نظرا لحساسية الموضوع، إلى جانب ارتباط عديدهم بالأقدام السوداء التي غادرت الجزائر بعد الاستقلال، بحيث أشارت تقارير بأنّ عدد اليهود في الجزائر قبل الثورة بلغ 40 ألف يهودي، لكن المعركة التي وقعت في زمن الشيخ ابن باديس قبل اندلاع الثورة بقرابة عشرين عاما، عجلت برحيلهم بعد الاستقلال عن مدينة كانوا يعتقدون أنّها موطنهم الأصلي.
حكاية النفق الذي تسترت عليه السلطات
الرحلة التي قادتنا إلى قسنطينة في إطار تظاهرة عاصمة الثقافة العربية أريد من ورائها كشف أسرار وجوانب خفية من حياة هذه الفئة من الناس وهذه الطائفة التي ما فتئت تزرع الفتنة بين أهالي الصخر العتيق، فكيف كانت تتعامل معم وماذا تملك وكيف تسمى الشوارع الخاصة بها، و..، هي أسئلة كثيرة يكشفها هذا الروبورتاج الذي ينقل بالصورة والحرف جوانب من حياة اليهود بسيرتا. وبعد وصولنا إلى قسنطينة بيومين شرعنا في تنفيذ خطة العمل والسؤال الذي يشغلنا كيف نقتحم "كازمات اليهود" الحقيقية بالنظر إلى تداخل بناياتهم مع بنايات سكان سيرتا، لكن بعد إجراء اتصالات نجحنا في العثور على دليل موثوق، في ساعة متأخرة من الليل ساعدنا في إيجاده عبد الحميد بوحالة النائب المكلف بالإعلام بالديوان الوطني للثقافة والإعلام، هذا الأخير طلب من "ماكس" مدير الفندق الذي قضينا فيه ليلتنا، مساعدتنا في إعداد الريبورتاج، ودون أي تردد وبقلب واسع رحبّ "ماكس" بالشروق أيمّا ترحيب، وفور علمه بما نريد أن نسعى إليه، اتصل بعمي الصالح دليل موثوق عمل خلال السنوات الأخيرة سائقا في إحدى الوكالات السياحية بقسنطينة وتعامل مع عديد الوفود الأجنبية، حتّى أنّ بعض السياح الأجانب كان يعتبرونه خبيرا سياحيا ودليلا ممتازا وليس سائقا بالنظر إلى إطلاعه على خبايا قسنطينة التراثية وحيازته على معلوماته وافرة حولها، مثلما أخبرنا به دليلنا عمي الصالح أثناء لقائنا به عقب عشاء جميل رفقة حميد وجعفر المصوّر وماكس الذي اتصل بعمي الصالح رجل مرح في الستين من العمر أبيض البشرة وطويل القامة التقيناه ونحن نسدّ رمقنا من الجوع في حدود منتصف الليل، تجاذبنا أطراف الدردشة التي قادتنا الى الحديث عن اليهود، وهنا وجدنا عمي الصالح يعلم الكثير عن اليهود وطقوسهم وأماكن لقاءاتهم إبان الاستعمار، فاتفقنا على تنظيم زيارة ل"معاقلهم" فوافق دون تردد على أخذنا إلى وجهتنا رغم انشغاله بالأمور التجارية ل"الفندق"، بحيث كان يفترض أن يسافر في صبيحة اليوم الموالي باكرا إلى مدينة سطيف لشراء بعض الأغراض للفندق، لكن أجلّ العملية إلى منتصف اليوم ذاته حتّى يكون رفيقنا ومرشدنا، وفعلا في الصبيحة انتظرنا صديقنا الجديد عمي الصالح في بهو الفندق، الواقع بمدينة الخروب، لننطلق مباشرة في تنفيذ البرنامج، فأقلّنا في سيارته الخاصة لمسافة حوالي ساعة من الخروب إلى "البلاد" التي تعني قلب المدينة مارّين عبر طريق مزدوجة "مليئة" بالحواجز الأمنية لا لشيء سوى أنّها خطّة اتخذتها المديرية العامة للأمن الوطني للحفاظ على الصيرورة الحسنة للأمن والأمان في إطار تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية. وخلال طريقنا إلى الوجهة المقصودة سرنا بالمحاذاة على محطة السكك الحديدة، حيث ذكرنّا عمي الصالح بأنّه قبل سنة أو سنتين خلال إنجاز طريق مزدوجة بعين المكان، استحدثت آلات الحفر ثقبا كبيرا في وسط الطريق ليتبين أنّ ما في الأسفل ممرّ بطول 10 كيلومترات مؤدي إلى غابة "جبل الوحش" الواقعة في الجهة الشرقية من المدينة، حيث وجدت بداخل السرداب كتب قديمة وهياكل لا يعلم زمنها أو أهلها، لأنّ السلطات العسكرية والمدنية تكتمت على العملية وكأنّ شيئا لم يحدث، واصلنا الحديث عن اليهود ومساكنهم وعن أماكن تواجدها إلى أن اقتربنا من قنطرة الحبال فذكر لنا المرافق "لاسيتي غايار" الواقعة على مقربة من قنطرة "الحبال" وأسفل مستشفى عبد الحميد ابن باديس وهي حيّ سكنه اليهود في العهد الاستعماري وسميت بهذا الاسم نسبة إلى المعمر الفرنسي غايار، لا تزال بناياتها واضحة المعالم إلى غاية اليوم لكنّها غير مأهولة بل مغلقة بسبب تحطم بعض أجزاء سكناتها.
الأوساخ والأعشاب تسكن منازل اليهود
ونحن هناك بدأنا نقترب أكثر من أكبر المعاقل اليهودية حسب عمي الصالح الذي لم يتوان في تقديم الشروحات لنا، وقبل ترجلنا من السيارة مررنا بنهج "الشارع" يهودي بامتياز، ووقفنا نتأمل شكل وحال البنايات المكونة هناك من طابق إلى أربعة طوابق، والتي كانت تعجّ باليهود يوما ما، لكن اليوم لا ترى سوى الجدران والأعشاب تلتف حول البيوت المنهارة أو المتضررة، فضلا عن الأوساخ التي تحاصرها من كلّ جهة، أو الكتابات الحائطية التي تتغنى بفريق مولودية قسنطينة، ناهيك عن عديد الهوائيات التي تنتصب في سطح كل بيت ما يزال يحافظ على أجزائه.
وفي شارع "سيدي الجليس"، هذا الأخير حسب روايات أهل المنطقة فإنّه كان وليا صالحا لكن ضريحه اختفى اليوم ولا أثر له ويحمل صبغة تجارية قبل وبعد الاستقلال من خلال دكاكين الحلويات وأشهرها حلوى "المندرين" نوع من البرتقال صغيرة الحجم، بحيث تتصل بعود رقيق من الخشب ويشكلّ الإثنان معا حلوى، كما تشبه أيضا الصدفة أو "الكوكياج". وغير بعيد عن الشارع "بنك التنمية المحلية" الذي كان في السابق يطلق عليه اسم "الرهينة"، وهو مكان ارتبط باليهود، واستغلته السلطات المحلية بعد الاستقلال، حيث حولته إلى "بنك" لا تزال جدرانه شاهدة على عمران اليهود، من خلال تشكيلها المعماري القديم، إلا أنّ ترميمه أعطى له وجها آخر وحافظ على انهياره، تجولنا في عديد الأحياء المجاورة لهذا الشارع العريق الذي يغوص في الخراب والدمار وكأنّه خرج من توه من حرب مدمرة، باعتبار أنّ أغلب البيوت القديمة والجدران التي تقع في قلب هذه الأزقة الضيقة والواسعة الأرجاء أحيانا تعاني الإهمال ما يفضح عمليات الترميم التي انطلقت فيها وزارة الثقافة بالتنسيق مع ولاية قسنطينة، مثلما يحدث في شارع سيدي الجليس الذي كان يسكنه اليهود حيث رصدنا وضعه الحالي ونقلنا صورا مخيفة لما آل إليه اليوم، فالطابع العمراني اليهودي الذي يعود عمره إلى أزيد من 200 سنة حسب مرافقنا، تآكل جراء العوامل الطبيعية والبشرية التي لم تحافظ عليه إلا في بعض أجزائه، وهي الصور التي تتجسد في طريقة التسقيف والتي تعتمد بشكل أساسي على مواد بناء طبيعية وتقليدية مثل الحجر الخاص في بناء الجدران والقرمود والخشب اللذين يستعملان في السقف، بينما الطين يستخدم في تماسك حجارة الجدران، إنّها بنايات هجرها السكان اليهود بعد الاستقلال وعاشوا فيها لسنوات طويلة إن لم نقل قرونا محافظين على تقاليدهم وعاداتهم.
اليهود بنوا جدار الفصل في قسنطينة
خطواتنا حطّت الرحال بيت الحاجة "مباركة" بالمكان المسمى "الشارع" وبعد ترحيبها في منزلها سمحت لنا رفقة ولدها وابنتها بالتقاط صور العمارة من داخل منزلها بعد أن أخبرها "عمي الصالح" بأننا صحافة جزائرية ونريد أن نلتقط صورا للعمارة والسكن اليهودي بمدينة قسنطينة، دخلنا المنزل، حيث كانت الساعة تشير إلى ال10 صباحا، فأخبرتنا الحاجة "مباركة" صاحبة 63 سنة، ولدت قبل الثورة بسنة، أنّ المنزل ليس ملكها بل استأجرته وأنّ عمره أزيد من قرنين، كانت ملكيته للعرب وليس لليهود، لكن يقع بالقرب من منازل يهودية، حيث يوما ما كان الفاصل بينهما جدار أشبه بجدار "العزل الإسرائيلي" لتقسيم الأراضي الفلسطينية، بهدف منع الاختلاط والتعامل مع العرب، ناهيك عن الضغوطات التي يمارسها اليهود على العرب، في صورة السخرية والتهكم وغيرها من التصرفات التي تحتقرهم وتهينهم بمساعدة من البوليس الفرنسي.
منزل الحاجة "مباركة" ليس بالواسع، لكن تتتشابه غرفه وشكله وهندسته ببنايات اليهود التي رأيناها في "الشارع"، بحيث تجد وسط الدار ويسمى "المجلس"، بجانبه المطبخ أو "قلب الدكانّة" كما يسمى في الماضي، عبارة عن شكل دائري إلى حدّ بعيد، إضافة إلى بعض الغرف الصغيرة ذات نوافذ خشبية عمرها زهاء 200 سنة، وما تزال تحافظ الغرف والمنزل بصورة عامة على شكله العتيق عبر الخشب المستعمل في السقف وخشب باب المدخل الرئيسي، أو الطين والحجارة الصغيرة ذات اللون الأحمر والتي تميز طبيعة البناء، ونحن في الداخل رؤية تلك المشاهد التي يفوح منها عبق التاريخ تجعلك مندهشا للهندسة الرائجة في ذاك الوقت.
مالك فقيرات: مفتاح أسرار اليهود
خرجنا من بيت الحاجة "مباركة" التي دلّتنا على بيت في وسط الشارع على اليسار صاحبه يعرف كلّ شيء عن تاريخ قسنطينة واليهود إنّه الفنان مالك فقيرات، قصدنا منزله لكنه لم يفتح الباب دغم أننا رننا الجرس كم مرّة، ربما كان يغوص في نوم عميق أو خرج لقضاء بعض حاجياته، لأنّ مرافقنا قال بأنّ مالك فقيرات يحب النوم كثيرا ويمكن أنّه لم يسمع الجرس يرّن، ومقابل منزل مالك فقيرات رفضت صاحبة منزل أنّ تتحدث إلينا بحجة أنّها في زيارة فقط وليس مالكة البيت الحقيقية ولا تعرف شيئا عن تاريخ المكان، لكن سمحت لنا بأخذ صور منزلها الذي سكنه اليهود يوما ومكثوا به إلى غاية مغادرتهم أرض الجزائر، بحيث يتراءى لك الباب عاديا من الوهلة الأولى، لكن لمّا تقف عند عتبته تبدو ركائز حطبية جلية واضحة تقف عموديا كدعامة السقف والجدران لحمايتهما من السقوط، فشكلها يوحي أنّها جديدة، لكن عمرها سنوات طويلة، وحفاظها على بريقها الحالي ورونقها بفضل صيانتها وترميمها من قبل سكان البيت الذين تعاقبوا عليه بدءا من اليهود إلى غاية المرأة المستأجرة له، ويعلوها سقف من "الجبس" تتخله أعمدة من حديد، فالمدخل عبارة عن رواق يؤدي بك إلى فضاء المنزل الكبير، ترتسم على حائطه لوحة جميلة منقوشة بالبسملة، لتذكر من يهمّ بالدخول أن يذكر اسم الله ويرجح أنّ لوحة "البسملة" أنجزها المسلمون بعد رحيل اليهود بهذا المنزل، فضلا عن مدرج صغير بجانب الجدار الأيمن يستعمل للجلوس أثناء سهرات الصيف أو لأغراض أخرى.
حظر التجول بعد العصر على العرب
وبنحو 20 مترا، هناك فضاء فسيح مليء تتعالى فيه أصوات المارّة والباعة، إنّه "المارشي" أو "سوق سيد جليس"، مكان يختزل حكايات قسنطينة وقصص تجارها وكبار القوم، لأنّه يعتبر المقصد الوحيد لتجار الولايات المجاورة وأولّ سوق يقصده الباعة والزبائن، فكان السفر إليه بواسطة "الدواب" لبيع اللبن والتمر والخضر، وكلّ منتجات المدينة تباع في هذه السوق التي تفتح صباحا إلى غاية منتصف النهار، وبقربها أسواق "الدلالة" و"الحرف التقليدية" و"اللويز"، إذ تواجدت بالمكان في تلك الفترة 7 دكاكين خاصة ببيع "الحلوى" وهذه هي تسميتها الأصلية، حسب تواتي صانع حلوى وعمر محلّه 5 قرون. هذا الأخير أوضح لنا بأنّ "سيدي الجليس" سكنه اليهود العرب وليس اليهود العجم، الذين كانوا يسكنون "الروتيار" و"القصبة"، و"المنظر الجميل" و"سيدي مبروك"، وبأوامر من فرنسا لا يسمح اليهود للعرب بدخول أحيائهم ولو للضرورة إثر عملية الغلق التي تطال طريق السوق بعد العصر وهي عملية أشبه بحظر التجوال.
هذه قصة أنريكو ماسياس مع "الكاموبمار" و"الكلب"
الجولة التي قادتنا إلى البحث عن يهود قسنطينة، كان لا بدّ من أن تعرّج على أهمّ شخصية يهودية، إنّه الفنان أنريكو ماسياس، فالبحث عن منزله وأمكنة جولاته صعبة للغاية بحكم أنّ مرافقنا الذي يعرف منزله تركنا لانشغاله، وقبل مغادرته طلب من أحد السكان أن يدلّنا على المكان لكن ظهر أنّ الرجل لا يعرف لا مكانه رغم أنّه دلّنّا على معبد يهودي حولّه السكان إلى منزل، لكن وبعد أسئلة كثيرة وصلنا إلى "رأس الخيط" من خلال شياد مصطفى رئيس جمعية "رودوفرنس"، فرافقنا ودلّنا على بيت كان يظنّه أنّه بيت "ماسياس" لكن تبّين أنّه منزل يجتمع فيه ماسياس رفقة أبناء حيّه وأصدقائه للسمر والعزف على الغيتارة. وهو ما كشفه بعض ممن التقيناهم قرب المنزل الذي يشبه دار "السبيطار"، حيث قال أحدهم: "ماسياس كان يغنّي هنا، ويتجوّل ب "بوتي كور" مرفوقا بكلبه كلّ عشية، وكنا نعيره ونسخر منه بوصفه ب"كامومبار" "نوع من الأجبان"، قرأ ودرس في مدرسة بحي القصبة".
على تربة عمرها 2000 سنة يقع منزل "ماسياس" للسمر والسهر، رفقة أصدقائه وأبناء حيّه أشبه بدار السبيطار" في الهندسة المعمارية "1837 ويطلق عليه "دار الزنقة"، فالشكل الخارجي يكشف لك بابا من حطب ونوافذ على اليمين واليسار، كما أنه يوجد على يمين ويسار كل نافذة خشبية عتيقة رأسان منحوتان لشخص واحد يفترض أنّه يعبرّ عن شخصية يهودية مرموقة، إلى أن تأتي إلى المدخل الشبيه بالرواق، بابه أصفر اللون يعلوه بناء على شكل قوس، وعلى يمينه سلالم حجرية دائرية ضيقة، غير أنّه وأنت أمام هذا الزخم التاريخي تأسف لحالته بعد تعرضه لخربشات كلامها قاس، أزاح بريقه وأفلت جماله.
ووسط باحته، الدار نافورة، ماء يجتمع حولها الرفاق للغناء والعزف، أرضيتها من حجارة ورخام وتحيط بها من الجوانب الأربعة غرف مأهولة بالسكان اليوم، لكن حالتها يرثى لها كونها آيلة للسقوط في أي وقت إذا لم تتدخل السلطات وترممها قبل فوات الأوان، لاسيما وأنّ مواد البناء من طين وخشب رثّة وبالية فعمرها حسب قاطني هذه الدار الكبيرة المكونة من طابقين يعود إلى نحو 300 سنة ورغم هذا فنوافذ وحجارة البناء تحافظ على هندستها. بالمقابل الدكاكين التي كانت ملك "ماسياس" فقد تغيرّت ملامحها وحولها أصحابها إلى محلات عصرية لبيع أشياء مختلفة.
ماسياس عاش مع والديه في "فيلا" ودرس في مدرسة "الغزالي"
المنزل الحقيقي لأنريكو ماسياس يقع غير بعيد عن قصر أحمد باي في شارع "بولكلاب" تسميته الحديثة، بينما يسمى سابقا شارع "بيسكارا" نسبة إلى معمرّ فرنسي، هنا بهذا المنزل الذي سكنه جزائري سنة 1956 عاش ماسياس رفقة والده وأمّه، وهي فيلاّ مشكلة من ثلاثة طوابق وطابق أرضي، تتخذها اليوم مجموعة من العائلات القسنطينية مسكنا لها في ظلّ أزمة السكن بالمدينة، كما درس أنريكو ماسياس مقابل منزله بالمدرسة الابتدائية "الشيخ محمد الغزالي" حاليا، لكن في الماضي تحمل تسمية أجنبية "مونتيسكيو" وهي تحت الترميم في الفترة الحالية.
إحذر اليهودي يعرفك من "سيراج""صباطك" وتذكر: داليدا قسنطينية
غادرنا الأحياء اليهودية على أنغام المالوف وعقولنا محملة بقصص حقيقية عن اليهود الذين يعرفونك إذا دخلت حيّهم من لمّاع "سيراج"حذائك ومظهرك بشكل عام، وألغاز "جسر الشيطان" وقبريّ اليهوديين المدفونين في أسفله، و"مقعد الحوت" ملتقى البحّارة والحواتين اليهود، و"الغار" الذي كان ملجأ اليهود في عهد صالح باي إذا شعروا بالخطر، و"الزليقة" ودرب "الأربعون شريف" (40 وليّ)، و"السويقة"، ومعلم "روت دي شوفالي" و"التمثال" الذي بناه الشيخ ريمون، وأطلال المغنية الفرنسية داليدا أبوها يهودي إيطالي وأمها قسنطينية، وقد قيل لنا إنّ منزلها قاب قوسين من الانهيار، ما يفتح الجدل مجددا حول الأصول الحقيقية للمغنية الشهيرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.