بقدوم الدكتور محمد عيسى وزيرا للشؤون الدينية والأوقاف قبل سنة تقريبا استبشر جموع الأئمة الأفاضل بمختلف رتبهم والموظفون بالقطاع، استبشارا فيه بصيص أمل وشعاع نور انتشر وسط ضباب طال انتظار انقشاعه. هذا الاستبشار الذي ارتكز على ثلاثة مرتكزات نرى فيها دعائم قوية لنهوض حقيقي بقطاع ينبض بالحياة منذ عقود من الزمن، وهي: المرتكز الأول: المعرفة العميقة لكواليس القطاع ودواليب تسييره من خلال معرفة كلمة السر للمرور إلى الأبواب الخاصة المؤدية إلى الكهوف العجيبة في القطاع. فهو الذي عمر فيه لمدة زمنية تقارب العقدين من الزمن، فمن مديرية التوجيه الديني والتعليم القرآني، مديرا فرعيا فيها ثم مديراعليها -وهي التي تمثل إحدى أركان الوزارة- ثم إلى المفتشية العامة مفتشفا عاما، وهذه المجالات تسمح بالتغلغل في الوزارة تغلغل الماء في الشقوق، فضلا على أن معاليه كما يظهر لكثير من المتتبعين للشأن الديني، أنه كان صاحب الرأي والمشورة في القضايا الكبيرة والصغيرة للوزير السابق، وكان المهندس القدير في مشاريع أسالت الحبر الكثير وأوقعت أحيانا الحمل الثقيل على الأئمة ولا تزال. المرتكز الثاني: وهو التخصص في المجال الذي هو لب القطاع، فمعاليه متحصل على الدكتوراه في العلوم الإسلامية تخصص الفقه وأصوله، ما سمح له أن يكون أستاذا بمعهد أصول الدين سابقا كلية الشريعة حاليا في جامعة الجزائر، مدرسا لمادة القواعد الفقهية التي تضبط أبواب الفقه في قواعد تسهيلا للإلمام بالفقه، وما أحوج وزارتنا إلى تأسيس قواعد تلم شتات الفتوى، والمرجعية الدينية التي نبحث عنها. ليكون بعد ذلك مديرا للدراسات في نفس الكلية لمدة عقد من الزمن، فكان أيضا صاحب الرأي والمشورة لعميد الكلية في الإقدام الجريء والمغامر على مشاريع جديدة منها إنشاء تخصص الشريعة والقانون دون قانون. المرتكز الثالث: وهو السن، فمعاليه هو الوزير الشاب الذي لم يتجاوز الأربعين إلا بقليل، هذا السن الذي يستلزم الشكر والعمل الصالح، ويعطي له القدرة على إدارة ومعالجة الملفات الثقيلة، واكتساح الألغام المزروعة هنا وهناك وذلك بالقفز العالي تارة، وبالمراوغة الذكية تارة أخرى دون أن يتملكه خوفٌ أو تردد أو تعطل. إذن هي مرتكزات ثلاثة ينقصها مرتكز رابع لتكون أركانا لأرضية صلبة يقوم عليها البناء الشامخ شموخ منارات المساجد الشمّاء، ذاك المرتكز الناقص هو البطانة الصالحة التي ترشده إلى ما فيه خير العباد والبلاد، والتي يختارها بنفسه أو تفرض عليه ، فإن وفّق في الاختيار كان خيرا له ولنا، وإلا تصدعت المرتكزات كل المرتكزات.. فهل سيكتفي بالبطانة المفروضة أم سينشئ فضاءات جديدة تمثل البطانة الصادقة؟ ما نريده من وزير الشؤون الدينية هو: أن يكون وزيرا للشؤون الدينية والأوقاف في هذا البلد الذي فتحه الأخيار من الصحابة والتابعين الأبرار عليهم الرضوان، ودافع عنه الرجال الأبطال الأطهار دفاعاً لا يقبل الذل والانكسار، ليكون بلدا طيبا في توجهاته العامة والخاصة، في تشريعاته وحراكه كله. ولا يكون وزير الشؤون الدينية والأوقاف وزيرا للشؤون الدينية والأوقاف إلا: أولا: إذا عمل على أن تكون وزارته هي القلب النابض لهذا الوطن الذي يضخ الدماء الطاهرة غير الملوّثة في شرايين الأمة لتنتعش الأعضاء والأركان والمفاصل، وكيف لا تكون كذلك وهي التي قامت عليها الدولة الحديثة التي أسسها الأمير عبد القادر رحمه الله وسار على دربه شهداؤنا عليهم رحمة الله عندما كتبوا بيان أول نوفمبر وعبّروا فيه بكل وضوح أن قيامها يكون على المبادئ الإسلامية، فمن لهذه المبادئ يحرسها ويدافع عنها بعد الله عز وجل إلا وزارة الشؤون الدينية والأوقاف؟ من حق الوزير أن يضرب يده على طاولة الحكومة مبرزا السيادة التي يجب أن تعطى لوزارته، فهي التي استطاعت بمساجدها وأئمّتها ومديرياتها والمحسنين الدائرين في فلكها أن توفر على الخزينة العمومية ملايير الدينارات التي من المفروض أن تصرف في بناء هياكل الوزارة في الولايات كما هو الشأن بالنسبة للوزارات السيادية وحتى غير السيادية منها، وعلى سبيل المثال ما صرف في سنوات سابقة على وزارة الشباب والرياضة في بناء هياكلها مثل دور الشباب بلغ 34352001000.00 دج في حين صرف على وزارة الشؤون الدينية والأوقاف مبلغ 23302271000.00 دج. وما تقدمه وزارتنا كمساعدات للعائلات المعوزة من زكاة القوت وقفة رمضان وزكاة الفطر والذي بلغ إلى غاية 2014 ما قيمته 9812533112.08 دج فاق المساعدات التي تقدمها وزارة متخصصة في هذا المجال، وما تؤطره مساجدنا ومدارسنا القرآنية من أقسام التحضيري الذي بلغ 511256 تلميذ يفوق ما تؤطره أيضا وزارة متخصصة في المجال نفسه، وما نؤطره في أقسام محو الأمية أيضا يفوق ما تؤطره مؤسساتٌ متخصصة في ذلك. كيف لا تكون وزارته سيادية وهي القادرة دون غيرها من الوزارات على تعبئة شعبية متميزة كل أسبوع يحضر فيها ما يقارب 17 مليون مواطن من مختلف الشرائح والمشارب والمستويات، كل ذلك في التوقيت نفسه وعلى مدار الدهر، بحيث لا ينكر عاقلٌ ما لها من فضل في تقويم العقول وتهذيب النفوس بالموعظة الحسنة، مما يجنب الخزينة العمومية الأموال الطائلة التي تصرفها وزارات متخصصة في ردع المجرمين والمنحرفين. ألا يشفع كل هذا لمعاليه ليعمل على ترقية وزارته إلى مصاف الوزارات السيادية التي لا يُشق لها غبار في إثبات ما تقدمه للمجتمع وفي أن تكون صاحبة القرار فيما يخص الشأن الديني في الجزائر، وعندئذ يقترب معاليه من أن يكون وزيرا للشؤون الدينية والأوقاف. ثانيا: ولا يكون معاليه وزيرا للشؤون الدينية إلا إذا وضع بصمة المرتكزات المذكورة آنفا في استرجاع الحق المهضوم، والمكانة المسلوبة، والهيبة المفقودة للأئمة بمختلف رتبهم والتي كثيرا ما تسبّبت فيها وزارته عن قصد أو عن غير قصد، من خلال السكوت عن قانون تجريم الإمام، ومن خلال القانون الأساسي للموظفين الذي عبث فيه العابثون، فجاء مخيبا للآمال، ومن خلال النظام التعويضي السقيم الذي لا عوض فيه إلا الفتات الذي يلقى بعد الشبع ليلتقمه النمل، ومن خلال تعيين مديرين ولائيين فاشلين، وإطارات مركزية فارغة إلا من رحم الله، كان المعيار في تعيينهم كل شيء إلا الكفاءة والنزاهة. فهل يقدر الوزير أن يعيد للعلم الشرعي مكانته ويعيد لحملته من الأئمة عزهم ومكانتهم ويحطّم الحاجز المصطنع بين الإمام وإدارته، ويخرج القطاع من عالم التنويم والدروشة إلى عالم العلم والعمل ويعطي للأئمة الفرصة التي إن أتيحت لهم صنعوا التغيير والتغيير الإيجابي النافع؟ عندئذ يكون الوزير وزيرا للشؤون الدينية والأوقاف. ولكل ما ذكرنا، إذا كان ولابد من استحداث منصب جديد في الحكومة يكون له الكلمة الأولى والأخيرة ضمن صلاحيته، يسمى نائب رئيس الجمهورية فليكن هو وزير الشؤون الدينية والأوقاف.
* رئيس المجلس الوطني المستقل للأئمة وموظفي الشؤون الدينية والأوقاف