توقيف القصف الإسرائيلي على غزة لا يعني أن الحرب متوقفة؛ بل هي مستمرة وبأشكال مختلفة. إسرائيل تريد فرض تسويات تناسبها في الظرف الحالي وليس حلا نهائيا للصراع. حماس تبقى في وضع اللاعب المحاصر من كل الجهات، والقادة العرب عادوا ليستأنفوا سباتهم في ظل انقسام غير مسبوق. أما الجماهير فلا حول لها ولا قوة. * * * * الوقائع على الأرض بعد العدوان الإسرائيلي على غزة لا تؤشر على وجود فرص جدية لحل سلمي في الشرق الأوسط، وأساسا، الأمل في إنهاء المعاناة الطويلة للشعب الفلسطيني. الشغل الشاغل لإسرائيل اليوم هو الاستمرار في إضعاف حماس، بافتكاك ترتيبات أمنية دولية لمنع تسلحها من جديد انطلاقا من الأراضي المصرية، وبالإبقاء على الحصار والتضييق في أقسى أشكاله على الفلسطينيين. وبهذا يمكنها أن تنهي القلاقل في الجنوب ويظهر المبادرون بالحرب الأخيرة في تل أبيب (ليفني، نتنياهو، وباراك) أن حملتهم العسكرية حققت نتائج، وبالتالي سيحصلون على ثقة الإسرائيليين في الانتخابات القادمة. * وفي هذه الأثناء، تراجع مطلب إنهاء حصار فلسطينيي غزة وفتح المعابر إلى مرتبة دنيا. وحتى على المستوى الدولي، والأمريكي على الخصوص، يجري الحديث في العادة على أمن إسرائيل ثم إيصال الماء والغذاء والدواء للفلسطينيين! وحتى حماس التي تحتفظ بسيطرتها على غزة، رغم الحرب التي استهدفت إضعافها، تبقى غير قادرة على إنهاء حصار غزة وعلى القبول بها كطرف أساسي في أي ترتيب يتم في المنطقة مهما كان شكله. المحصلة النهائية لهذا الوضع هي إطالة الكارثة الإنسانية في غزة، وانسداد سياسي يعيق أية محاولة لإحياء مسار التفاوض الفلسطيني الإسرائيلي حول القضايا الأساسية. * وما يزيد الأمر تعقيدا هو الانقسام الفلسطيني الذي يبدو في أقصى صوره، سيما لما نرى مسؤولي حماس وفتح غارقين في التراشق الإعلامي وتبادل التهم رغم أن الحرب المدمرة على غزة كانت درسا لهم جميعا. ما سيغذي الصراع بين الفريقين أموال إعادة إعمار غزة. وواضح أن الانقسام الفلسطيني، الذي ساهمت السياسات الإسرائيلية في خلقه وتحرص على تغذيته باستمرار، يستخدم لمحاولة تبرير تنصل إسرائيل من التسليم بحقوق الفلسطينيين بالقول أنه ليس هناك طرف فلسطيني ذا مصداقية يمكن التوصل معه إلى اتفاق سلام دائم، وهو ما عناه مؤخرا صحفي إسرائيلي في حوار مع قناة "الحرة" الأمريكية عندما قال: "إحنا مع من نحكي، مع عباس أو مع هنية أو مشعل.." في محاولة لتبرير رفض إسرائيل الاعتراف بحقوق الفلسطينيين بانقسام هؤلاء. * لكن إسرائيل تعطي الصورة نفسها والانقسام الحاصل فيها جدي ومن شأنه أن يعرقل عملية السلام من أساسها. فليس هناك تسليم إسرائيلي بحل الدولتين، زيادة على انعدام توافق إسرائيلي داخلي على صيغة هذا الحل، رغم التصريحات الدبلوماسية التي يطلقها المسؤولون في تل أبيب حتى يبدون انسجاما مع موقف المجموعة الدولية ويضعون أنفسهم في خانة الراغبين في السلام ويلقون باللائمة على الفلسطينيين. فميدانيا، تعمل إسرائيل منذ مدة على خلق الظروف التي تجعل حل الصراع مستحيلا. وببساطة، يمكن فهم دوافع ذلك لأن عدة قادة في الدولة العبرية يعتقدون أنهم في موقع أكثر قوة من الماضي (سواء القوة العسكرية، أو الدعم الأمريكي والأوروبي، أو استغلال ظرف الحرب على الارهاب)، وبالتالي يستطيعون السطو على مزيد من الأرض وطرد الفلسطينيين وتوسيع رقعة كيانهم غير معروف الحدود إلى غاية اليوم. * * التسويات والترتيبات. * يكفي أن نسمع تصريحات بنيامين نتنياهو، الوزير الأول الإسرائيلي السابق والمرشح للفوز بالانتخابات العامة المقبلة، خلال الأسبوع الأخير عندما التقى المبعوث الأمريكي للمنطقة السيناتور السابق جورج ميتشل، حيث قال إن حزبه (الليكود) لن يلتزم بتعهدات قالت صحيفة إسرائيلية إن رئيس الوزراء إيهود أولمرت نقلها إلى المبعوث الأمريكي "تشمل الانسحاب من أغلب أراضي الضفة الغربية، للوصول إلى حل دائم مع الفلسطينيين". ونقلت "هآرتس" عن نتنياهو قوله "لن أحترم تعهدات أولمرت بالانسحاب"، وهو ما يعزز أكثر المخاوف من احتمال فوز نتنياهو بالانتخابات المقبلة. وكل شيء يبقى معلقا على الدور الذي يمكن أن تلعبه الإدارة الأمريكيةالجديدة، الذي أبدى اهتماما بملف السلام في الشرق الأوسط منذ اليوم الثاني في البيت الأبيض. أكيد أن أوباما سيكون مختلفا عن جورج بوش لكن اهتمامه منصب في الظرف الحالي على الملف الاقتصادي حيث تجاوز كل المؤشرات الخط الأحمر، زيادة على قدرته على ترجيح كفة أنصار السلام في دواليب النظام الذي انتجه. * هناك انقسام فلسطيني يقابله انقسام إسرائيلي، وأيضا انقسام دولي حول الحوار مع حماس من عدمه، يضاف لهذا كله انقسام عربي غير مسبوق. فالقادة العرب غارقون في حسابات قطرية وفي الحرص فقط على أجندات ضيقة تعني مستقبل أنظمة الحكم المغلقة. فمثلا، مصر التي يفترض أن تلعب دورا في الملف الفلسطيني يبدو أن اهتمامها تقلص لتأمين حدودها مع غزة من القلاقل التي تثيرها الأنفاق التي تهرب حماس عبرها الأسلحة ومن المخاطر التي يشكلها كيان إسلامي على حدودها (نظام حماس) على استقرارها الداخلي، أي معركتها مع الإخوان المسلمين والتنظيمات الإسلامية الأخرى. * وتبقى الدول العربية الأخرى غير قادرة على الدفع سياسيا ودبلوماسيا كي تفرض شيء على الفاعلين الحقيقيين في ساحة الصراع. فقد فشلت قطر واليمن وقبلهم السعودية في الصلح بين فتح وحماس. وبقيت السعودية تنفض الغبار كل عام عن مبادرة الأمير عبد الله آنذاك أو المبادرة العربية. وهكذا يطل الطرف الفلسطيني، وهو الأهم في حلبة الصراع والأضعف حلقة من حلقاته، فاقدا للسند العربي على الأقل، وهو ما يعني دفعه للتنازل مجددا، أو جعله في وضع لا يمكنه من كسب حد أدنى من حقوقه الوطنية المشروعة. * وهكذا تبدو أوضاع الشرق الأوسط غير مطمئنة أكثر من أي وقت مضى؛ فالانقسامات التي تمت الإشارة إليها، زيادة على أنها تعاكس التغيير الإيجابي الذي حصل عند أحد اللاعبين الأساسيين في الصراع أي واشنطن، فهي تبقي المنطقة بأسرها مفتوحة على اليأس واحتمالات الحروب كالتي شهدناها قبل أيام في غزة، لأن الأوضاع الحالية هي بصدد إعادة إنتاج الحرب القادمة. *