هل يمكن أن يبدأ التغيير في الدول العربية من المملكة العربية السعودية؟ راودني هذا السؤال وأنا استمع لإجابات الباحث السعودي الدكتور" أحمد العيسى" مدير جامعة اليمامة الأهلية بالرياض والخبير في قضايا تطوير التعليم، خلال حوار أجريته معه لتلفزيون أبوظبي، بل إنه مثل هاجسا بالنسبة لي وأنا استمتع إليه وهو يلقي محاضرة تحت عنوان: "إحياء تراث المدرسة العقلانية الإسلامية" في مجلس الفريق أول الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة لدولة الإمارات العربية المتحدة ضمن الأمسيات الرمضانية. * من الناحية المرجعية علي أن اعترف أن خلفية السؤال السابق تعود إلى ربع قرن من الزمن، ذلك أني في سنة 1984 حين أنهيت السنة التمهيدية للماجستير في كلية الآداب، قسم علم الإحتماع جامعة القاهرة، وقبل أن أختار موضوع الرسالة، أردت أن اشغل وقتي بإجراء حوارات مع عناصر النخبة المصرية، حول مسألة التغيير في الوطن العربي، ومن الذي تفضلوا بقبول إجراء حوار معي الدكتور "محمد أحمد خلف الله"، رحمه الله، رئيس مجلة »اليقظة« في ذلك الوقت وكانت تصدر عن حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي في مصر، ومؤلف كتب كثيرة منها: "القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة"، و"الفن القصصي في القرآن الكريم". * المهم أن الدكتور خلف الله قال لي يوم ذاك: "أن التغيير في الوطن العربي، سيأتي من منطقتين، إما من السعودية أو الجزائر، وحين سألته لماذا السعودية أو الجزائر بالتحديد؟ أجابني بالقول: التغيير الفاعل يعتمد على مرجعية مؤثرة تراكمت عبر الزمن، والسعودية تملك هذا، ففيها بعثت رسالة التغيير للبشرية كلها وليس العرب، والجزائر قامت بأكبر ثورة في العصر الحديث، ونتج عن تلك الثورة قيما فاعلة ومؤثرة في تاريخ البشرية. * أتصور أن توقع الدكتور خلف الله قد عاد اليوم إلى الساحة من جديد، ولن أتحدث هنا على التراجع الذي تشهده الجزائر، وخروجها من دائرة التغيير على المستوى الجمعي وبقائها على المستوى الفردي، فذاك سأتناوله في المستقبل بإذن الله، إنما سأركز هنا على التجربة السعودية من خلال الأفكار التي طرحها الدكتور أحمد العيسى، لكن قبل طرحها علينا بالإشارة إلى ما يلي: * أولا، هناك حراك ثقافي سعودي بشكل خاص وخليجي بشكل عام، بات من الضروري قراءته والاهتمام به، لأنه سيؤدي إلى تغيير في الوطن العربي حلال العقود الثلاثة القادمة. * ثانيا، تشهد منطقتنا العربية تغيرا في مواقع المركز والأطراف، لجهة المكانة والدور والوظيفة، والسعودية وباقي الدول الخليجية الأخرى مؤهلة لاستعادة موقع المركز، وإلى دور تغييري واسع لما تكنزه من نخب مختلفة وإن بدت متصارعة اليوم وعلينا الاستعداد لهذا، ما يؤيد هذه الفكرة اعتبار الدكتور العيسى تجربة أبوظبي، من خلال ما حققته من إنجازات على المستوى المعرفي والثقافي وتوفير الإمكانيات لذلك، مركز إشعاع حضاري على غرار التجربة العربية في بغداد وقرطبة في عصر الازدهار. * ثالثا، كشفت تجارب الرفض من محمد عبد الوهاب إلى أسامه بن لادن، أن التغيير سواء أكان سببه الجهل والتخلف أو قمع السلطة أو حتى تواجد الآخر الخارجي في المنطقة، هو أهم ما يميز المنطقة وإن بدت في الغالب هادئة مطمئنة. * رابعا، أدركت عناصر النخبة وإن جاء ذلك في وقت متأخر أن تصدير الأفكار والآراء ذات الصبغة الدينية لتيارات بعينها، وكذلك الحال بالنسبة للمواقف السياسية لصانع القرار في المملكة العربية السعودية، لا تنفع للتصدير وغير قابلة للتطبيق في المجتمعات العربية الأخرى، بل إنها قد تحولت في بعض الأوقات إلى محل شك واستفهام، من ذلك مثلا الموقف من الأحداث الإرهابية في الجزائر، والموقف من الحرب على العرق وما بعدها حين لم تضع أوزراها، والموقف من الخلاف السياسي اللبناني اللبناني، والموقف من المقاومة في فلسطين، والتخلي عن الحيادية في كثير من القضايا العربية المختلفة، ومحاولة قيادة دول الخليج دون التخلي عن البرغماتية النفعية البالغة الحدة، والتي تتضارب أحيانا مع المصالح المشتركة لتلك الدول. * هذه الصور والمشاهد جميعا لابد أن تكون مكشوفة للقارئ ليس فقط لأن كثيرين يجهلون التغيير القادم من السعودية ولكن لأن معظم عناصر النخبة على مستوى الوطن العربي كله تجهل ما يحدث هناك، فشبه الجزيرة العربية ليست دعوة إبراهيم عليه السلام فقط ولا الكعبة ولا البترول، ولكنها بشر يتحركون لصناعة التاريخ في المستقبل المنظور، فلنبصر بهم ولنسمع لما يطرحون، حتى لو اختلفنا مع آراء بعضهم، وما الدعوة إلى إحياء تراث المدرسة العقلانية الإسلامية من طرف الدكتور العيسى وغيره إلا دليلا وبشرى على أن التغيير أصبح قريبا وإن رآه غيري بعيدا. * بعد هذا كلّه لنعد إلى أفكار العيسى، فهو يؤسس لطرح جديد يمتلك أداوته، ويعرف دهاليزه ويتوقع المواجهة فيه على نطاق واسع، وأهم ما في مشروعه الفكري، إن جاز لنا تسميته بذلك، هو تحركه ضمن فضاء الإسلام وهم ما يزعج الآخرين. * يقول العيسى: "في حياتنا العربية العاصرة نواجه تحديات، وثقافتنا تواجه تحديات بشكل عام، فلذلك نشهد إرهاصات منذ فترة طويلة وتجاذبات عديدة في العالم العربي بين تيارات أصولية تحاول أن تستحوذ على الحقيقة والفكر وتطرح رؤيتها على أنها الحل الوحيد، وبين تيارات علمانية تتحدث أحيانا عن فكرة استبعاد الدين والقيم، لهذا نحن في الوقت الحاضر في حاجة إلى إحياء المدرسة الإسلامية العقلانية لنتعامل مع التراث، ونسعى إلى ما يمكن أن نعتبره بمثابة انطلاقة جديدة، وفي نفس الوقت نتعامل مع ثقافات معاصرة بثقة وانفتاح وقادرة على الأخذ والعطاء..". * الدكتور العيسى هنا لا يطرح فكرته من علية التنظير أو الترف الفكري، ولكنه يؤسس لرؤية معاصرة مبنية على شواهد من التاريخ.. هو في هذه الحالة يفتك التراث من عقول تيارات استحوذت عليه لعقود، ليصرح ضمنا: "إننا شركاء في هذا الميراث المعرفي، غير أن لكل فريق قراءته واجتهاده، ولنذهب إلى كلمة سواء، بحيث ألا نحتكم إلا للتطور والتقدم والتغيير".. لتتابع قوله في الفقرة التالية: * "لامناص أمامنا اليوم بعد كل النكسات التي مرت بنا من السعي إلى إعادة إحياء جزء من تراثنا الإسلامي المتمثل في المدرسة العقلانية، التي نرى شواهد منها على مر التاريخ.. هذه الشواهد أعطت للعقل دورا كبيرا في الفكر، وأعطتنا أيضا القدرة على التجديد والنظر في الموجودات وفي متطلبات الحياة.. نحن اليوم أمام حياة جديدة.. أمام جيل جديد، وما لم نعط هذا الجيل الفرصة لمواجهة التحديات ومواجهة كل الأفكار المطروحة على الساحة لا نستطيع مواجهة المشكلات، ويتم هذا من خلال تغيير فلسفة التعليم.." لكن لماذا التغيير في فلسفة التعليم؟ * لأسباب كثيرة أهمها في رأي الدكتور العيسى: "الشعور بالإحباط من النظام التعليمي في السعودية بشكل خاص وفي الدول العربية الأخرى بشكل عام، فالأجيال الجديدة التي تتخرج من مؤسسات التعليم لا تملك القدرات التي تحتاجها الحياة المعاصرة بالنسبة لسوق العمل أو على المستوى الشخصي أو على المستوى الثقافي بشكل عام.. الأجيال الحالية لديها مشكلات حقيقية في الفكر والثقافة وتحمل المسؤولية والتفكير المنطقي والتعامل مع المعطيات والقدرة على حل المشكلات، لهذا أعتقد أن هناك شعورا بضرورة تغيير في مجال التعليم ، و إن شاء الله سيؤدي بنا إلى تلمس طريق صحيح لإصلاح التعليم.. حتى تتمكن الأجيال القادمة من الإبداع". * هناك شعور عام بضرورة التغيير في مجال التعليم، وليس واضحا بعد على المستوى العربي، إن كان القصد منه إحداث تغيير على نطاق واسع يدفعنا إلى التقدم والمشاركة في الحضارة العالمية كما يرى الدكتور العيسى، أم هو محاولة لتطويع نظمنا التعليمية لصالح شروط الغرب، حتى يقبل بنا وقد آتيناه طائعين كما ترى جماعات الرفض.. الحكم الفصل في الموضوع هو موقفنا من الدين، إن كنا نريده ديكورا وثقافة مقابر، أم نود أم يكون فاعلا في حياتنا على اعتبار أنا كنا قبله أمواتا، فأحيانا لله به.. نحن والبشر جميعا؟!