بعد اللقاء الذي تم في الدوحة بين الفرقاء اللبنانيين، بإشراف دولة قطر وجامعة الدول العربية، أي بإشراف قطر ثم قطر وإحدى وعشرين دولة عربية أخرى، وأسفر عن اتفاقٍ كان في مقدور الساسة من اللبنانيين أن يقوموا به في بلادهم منذ سنةٍ ونصف، بات مطروحاً على الساحة السياسية العربية اسئلة من مثل: هل العلاقات الدولية تقوم على أمرين هما العلاقات العامة والمال؟ وتبعاً لهذا يطرح سؤال آخر: هل من جدوى لسياسة تقوم على المباديء؟ ما أفق العلاقة بين الدول العربية الظاهرة على السطح. * وتلك الأخرى الكامنة بعد تراجعها عن أداء دورها؟ وهل نتجه نحو ظهور دولٍ فاعلة على الصعيد العربي وجدت بقوة الآخرين وتستمد شرعيتها من دفاعهم؟ وهل باتت العلاقة مع إسرائيل والولايات المتحدةالأمريكية المدخل الحقيقي للاعتراف بالوجود والنجاة من الحرب الأهلية؟ * لسنا هنا بصدد الإجابة عن تلك الأسئلة كلها، غير اننا نرتكز في تحليلنا هنا على حل الأزمة اللبنانية لمعرفة طبيعة الصراع في المنطقة، لذا يمكن القول إن الذي حدث بين اللبنانيين في الدوحة إنجاز بكل المقاييس، وقد بات واضحاً قبل ذلك وبعده أن قطر تتمتع بعلاقات متميزة مع كل الاطراف، وهي تجاهر بما تقوم به حتى لو كان في غير الصالح العام، فما بالك وقد أشرفت على حل مشكلةٍ أعجزت الأطراف الدولية الفاعلة، وأعادت رسم خريطة التحالفات العربية - الإقليمية والدولية. * بناءً عليه، فإن ملخص ما حدث يعني بوضوحٍ أن العلاقات القائمة على المصالح هي أكثر جدوى من تلك القائمة على الأخوة والمبادئ، وإن كانت قطر - باعتراف اللبنانيين أنفسهم - قد قدمت الأخوة عما سواها في الحرب الأخيرة، مع استمرار علاقتها مع إسرائيل، فهل يكفي هذا وحده؟ * بالطبع لا، إذ يجدر بنا هنا أن نكشف ذلك الضعف العربي المتراكم لسنوات بسبب الوضع في العراق، حيث أن تقاطع المصالح الدولية حال دون الوصول إلى توقيف الفتنة والدم فيه، صحيح أنه من غير المجدي إجراء مقارنة بين الوضع في لبنان والعراق، لكن الذي ندركه جيداً أن الأزمة في لبنان حُلت -ولو بصفةٍ مؤقتة- على حساب فلسطين والعراق وغيرهما، الأمر الذي يعني أن العرب لا يقودون العربة ولكن يركبون قاطرة الآخرين التي توصلهم إلى أهداف أصحابها، دليلنا في ذلك أن التضخيم الإعلامي الذي صاحب ما يعرف باتفاق الدوحة بدا كأنه محاولة جادة وواعية للتغطية على الأحداث المأساوية، إضافةً إلى أن الجامعة العربية التي واجهت الفشل بعد الفشل منذ احتلال العراق نراها اليوم تعود إلى الواجهة بشراكةٍ قطرية. * لن نكون هنا في صف أولئك الذين يشككون في أي نجاحٍ يحققه العرب مجتمعين أو متفرقين، غير أن هذا لا يحول دون الجهر بالقول: أن كل المحاولات التي يبذلها العرب خفيةً أو علانية ترتبط بموقف الدول القوية في المنطقة والتي تحدد خط السير للعرب، أي أن اتفاق الدوحة مثلاً ما كان ليحدث لولا تلاقي المصالح الإيرانية الأمريكية من جهة، وخفض التوتر على المستوى السياسي بين سوريا والسعودية من جهةٍ ثانية، والأكثر من هذا أن المعارضة فرضت واقعاً جديداً، كاد أن يجعل الأكثرية أقليةً باطلة وغير مؤثرةٍ بالدرجة التي كانت عليها في السابق، وواضح أن الدول المؤيدة لما يعرف بالموالاة اكتشفت ضعف هذه الأخيرة وتراجعها وعجزها عن المواجهة، وبالتالي قلة حيلتها وضعفها في الدفاع عن مصالحها التي تتقاطع أو تنوب أحياناً عن مصالح الآخرين. * لقد جاء صخب الأيام الماضية إعلامياً ليبعدنا عن قضيتنا الأساسية وهي الصراع مع أمريكا لجهة رفض مشروعها الشرق أوسطي، حيث لم تجدِ الفوضى الخلاقة في لبنان ولا تغيرت المعادلة لصالح المدافعين والمؤيدين للمشروع الامريكي، وقد كان "نبيه بري" محقاً في كلمته حين شكر أمريكا على اعترافها -الضمني- بعدم استمرار مشروعها لا ولادةً ولا مخاضاً في المنطقة انطلاقاً من لبنان، وبالطبع ستؤول الأمور إلى نفس الحال في العراق رغم أن كل المعطيات الراهنة تشير إلى عكس ذلك. * في التجربة الراهنة سواءً أشاركت فيها الدول العربية الكبرى أو المعتدلة أو الصغيرة أو حتى تلك التي تدعي الحياد، فإن قيام العلاقات الدولية على المتغيرات بدل الثوابت، بحجةٍ واهية هي أن هناك مصالح بين الدول تتغير حسب الظروف يجعل العرب بعيدين عن المشاركة في تحقيق مستقبلهم، بحيث سيكونون تابعين في أفعالهم للآخرين، وكلما اختل التوازن أو حصل تناقض دفعوا الثمن، ولهم في ذلك تراث سياسي منذ الحرب العالمية الثانية، حيث نجد درجة الإيمان بنوايا الآخر الطيبة أدت بهم في الغالب إلى عدم التربص والحيطة والحذر. * إن العرب اليوم يكررون التجربة نفسها مع العراق، لهذا ولغيره تنتاب المراقب الحيادي مشاعر متناقضة بين الفرحة باقتراب اللبنانيين من بعضهم وبين الحزن والتشاؤم على الحالة التي آل إليها العراق حيث الابتعاد الكلي عن العرب في علاقات جزرٍ اختلفت عن سابقاتها التي ذهبت بعيداً في المد قبل الاحتلال وقبل سنوات الحصار، وتلك هي معاناتنا الحقيقية، فمتى نسعى للخروج منها واضعين في الحساب أن الانشغال بالقضايا الصغرى وإن بدت كبيرة لا يلهينا عن قضايانا الكبرى ولو عملنا متعمدين أو متجاهلين على تصغيرها، وباختصار متى سنرى العرب في العراق، أو مجتمعين مع أهله بصدقٍ خارجه، وهدفهم الصادق والواعد توقيف الإبادة وتوحيده وجمع شتات أهله؟