عاشت البلاد على وقع فضائح ومطبّات كثيرة تسبب فيها مسؤولون كبار، لكن أيا من هؤلاء المسؤولين لم يتحمل تبعات فشله وقرر رمي المنشفة، بل إن منهم حتى من عمّروا في وزاراتهم، بشكل بدا وكأن في الأمر تحد للرأي العام. في الدول الديمقراطية مثلا، وفاة رضيع بمستشفى أو حادث قطار أو سقوط طائرة، أو إخفاق لمنظومة قطاع ما، يتحمله المسؤول الأول على القطاع من خلال تقديم استقالته، لكن عندنا المسؤولين الصغار هم من يدفع الثمن دوما. فلماذا لا يستقيل المسؤولون عندنا عندما يفشلون في أداء مهامهم؟ وما هي المعايير التي على أساسها يقال مسؤولونا؟ ومتى تترسخ ثقافة الاستقالة عند ساستنا ومسؤولينا فتتجسد الحكمة الخالدة "المسؤولية تكليف وليس تشريف"؟
الاستقالة... بين الموقف والمناورة السياسية كشفت إقالة أو استقالة كل من مدير ديوان الحج السابق، الشيخ بربارة، والمدير العام لبريد الجزائر، محند العيد محلول، عن وجود خلل ما في منظومة السلطة. فبينما أكد مثلا الشيخ بربارة أنه استقال، رد وزير الشؤون الدينية، مؤكدا بأنه أقيل ومن طرف الرئيس بوتفليقة. وليست هي المرة الأولى التي تحدث حالات من هذا القبيل، فلو عدنا مثلا إلى الوراء وبالضبط إلى بداية التسعينيات، نجد أن البلاد قد عاشت حادثة مشابهة، لكنها اختلفت من حيث الحجم والتداعيات، وهي إقالة أو استقالة الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد من منصب رئيس الجمهورية. كل المحللين والمتابعين ممن عايشوا تلك الحادثة، أكدوا أن الشاذلي أجبر على الاستقالة حتى لا تتاح الفرصة للجبهة الإسلامية للإنقاذ كي تصل إلى السلطة، غير أن من يعتقد أنهم يقفون وراء تلك الحادثة نفوا احتمال الإقالة وأكدوا الاستقالة الإرادية. وبين الحادثتين فرق شاسع، فالاعتراف بإقالة رئيس منتخب يعني أن ما حدث كان انقلابا، وهذا قد تنجر عنه تداعيات داخلية وخارجية، لا يتمنى أي نظام الوقوع تحت طائلتها، أما إقالة وزير أول أو وزير أو حتى مدير مؤسسة، فذلك من الصلاحيات الدستورية لمن عيّنه. عندما لا يستقيل المسؤولون في الجزائر، يجد المتابع نفسه أمام جملة من التساؤلات المشروعة، لعل أبرزها: هل هؤلاء المسؤولون لا يملكون حق الاستقالة، أم أنهم يرفضونها تشبثا بالمنصب وما يدره عليهم من امتيازات مادية ومعنوية، ولو كان ذلك على حساب أخلاقهم ومبادئهم وحتى على حساب المصلحة العامة إن كانوا يعيرون هذا البعد اهتماما؟ وهنا يبرز تساؤل آخر، هل المسؤول عندنا يملك السيادة الحقيقية على القطاع الذي يسيره وله هامش المبادرة، أم أنه مجرد موظف عند المسؤول الأعلى منه؟ في الحالة الثانية وهي الأرجح، يبدو غياب ثقافة الاستقالة السياسية في الجزائر أكثر من مبرر، لأن المسيّر تسقط عنه المسؤولية، ولعل هذا ما يفسر استمرار وزراء في مناصبهم بالرغم من الفضائح والكوارث التي سببوها لقطاعاتهم. غير أن هناك معطى آخر وفد إلى الممارسة السياسية، وهو تحول الاستقالة إلى أداة من أجل المناورة، وقد وقفت أوساط على مستوى دوائر معينة، كيف أن هناك مسؤولين قرروا الاستقالة، غير أنه تم الالتفاف عليهم، وأقنعوا بالتراجع عنها، قبل أن يفاجأوا بالإقالة من الأطراف التي أقنعتهم بالعدول عنها، ولعل أبرز مثل على هذا، ما حدث مع وزير اتصال سابق. وتخفي هذه الممارسة حسابات سياسية فيها شيء من الإمتهان للآخر، وهو أسلوب برز بشكل لافت مع وصول الرئيس بوتفليقة للسلطة، غير أن هذه الممارسة لا يمكن أن تجد طريقها للتجسيد على جميع أصناف البشر، فهناك من الخلق من هو مهيأ للقيام بدور من هذا القبيل، وهؤلاء يتم اختيارهم بعناية. وهنا يمكن الاستلهام من تجربة رئيس الديوان برئاسة الجمهورية، أحمد أويحيى ورئيس الحكومة الأسبق، عبد العزيز بلخادم.. فالرجلان ظلا يتناوبان على تولي المسؤوليات السامية في الدولة وفي حزبيهما المحسوبين على السلطة، غير أن المقصلة طالتهما فجأة بشكل جلب لهما حتى الشفقة من خصومهم السياسيين، لكنهما عندما دعيا مجددا لتولي المسؤولية من ذات الجهة، استجابا من دون شروط.
رئيس الحكومة الأسبق أحمد بن بيتور: "مادامت المسؤولية أداة لتحقيق المزايا فالاستقالة تبقى مغيّبة" أكد رئيس الحكومة الأسبق، أحمد بن بيتور، أنه فضل الاستقالة من منصبه على البقاء في الحكومة دون تطبيق أهدافه وبرنامجه، مبرزا أنه استقال لتعارض برامجه مع برنامج الرئيس، ولأنه رفض الإخلال بالقوانين والتشريع بالأوامر لتهميش القانون والبرلمان. ويعتبر أحمد بن بيتور من الحالات الشاذة في الجزائر لمسؤولين استقالوا من منصبهم، ولم ينتظروا إقالتهم. وفي هذا السياق، قال: "إذا لم يستطع المسؤول أن يحقق الأهداف المرجوة من تقلده لمنصب معين ومسؤولية ما، فما الفائدة من بقائه في منصبه؟ مشيرا إلى أنه استقال من منصب رئيس للحكومة لأنه يؤمن بأنه إذا لم يحقق المسؤول الأهداف المرجوة منه فبقاؤه في منصبه لا جدوى منه. وأضاف عضو تنسيقية الانتقال الديمقراطي: "أنا شخصيا قدمت استقالتي لأن الظروف لم تكن ملائمة لأداء مهامي رئيسا للحكومة". وأردف قائلا: "رفضت حينها تهميش البرلمان والحكومة من خلال إعطاء الصلاحيات أكثر للتشريع بالأوامر، وبصفتي مسؤولا في الحكومة تشبثت بموقفي ورفضت التخلي عن مبادئي والعمل ضدها". وبخصوص غياب ثقافة الاستقالة في الجزائر وسط المسؤولين الذين يتشبثون بالمنصب إلى غاية تنحيتهم وإقالتهم، صرح بن بيتور: "ثقافة الاستقالة في الجزائر غير موجودة لأن معايير الكفاءة غير مفعّلة في كيفية الوصول إلى المناصب"، مشيرا إلى أن هذا "يرجع إلى طبيعة نظام الحكم وطريقة التعيينات بالمحسوبية، ما يجعل المسؤولين- حسبه- يرون في المنصب فرصة ذهبية للاستفادة من المزايا والاغتناء، ولا يعتبرون الهدف منه (المنصب) العمل. وأضاف المتحدث ذاته بأنه يجب أن يكون هناك نظام ديمقراطي حقيقي ويشعر المسؤول بثقل المسؤولية وأنه سيحاسب على أداء مهامه وعمله، مشيرا إلى أنه "لما تتوفر برامج العمل الحقيقية فالمسؤول سيشعر بقيمة المسؤولية ويبادر من نفسه إلى الاستقالة إذا عجز عن إتمامها على أكمل وجه"، لكن - يضيف بن بيتور- مادام النظام الحالي قائما ونحن نعيش في دولة قمعية القرارات وتعتمد على المحسوبية لا الكفاءات، فثقافة الاستقالة تبقى بعيدة كل البعد ومن الصعب الوصل إليها دون تغيير نظام الحكم.
الوزير السباق عبد الرشيد بوكرزازة "النظام يرفض الاستقالة لأنه يعتبرها موقفا بطوليا" قال القيادي في الأفلان والوزير السابق عبد الرشيد بوكرزازة، إن غياب ثقافة الاستقالة لدى المسؤولين الجزائريين، له أسباب وخلفيات تاريخية، على الأقل وسط المسؤولين المنحدرين من حزب جبهة التحرير الوطني، وهذا بسبب مقولة شهيرة كانت منتشرة في أوساط الحزب تخوّن من يطلب المسؤولية ومن يتهرب منها، وأكد على أن النظام القائم في الجزائر يرفض الاستقالة كونه يعتبرها "موقفا بطوليا رجوليا لا يحق للراغب فيه أن يناله". وبحسب بوركزارة فإنه ورغم انتقال البلاد إلى عهد التعددية والمحاسبة، إلا أن فكرة تجنب الاستقالة بقيت مسيطرة على أذهان المسؤولين الجزائريين، واعتبر أنه في السنوات الأخيرة تلك المبررات زالت ولا يجب أن تبقى قائمة، لان المسؤول عليه تحمل مسؤوليته والاستقالة تكون كنوع من العقاب الذاتي، لأن الاستقالة هي أول خطوة في طريق الاعتراف بالخطأ والحساب، وذكر في هذا الإطار انتظار الإقالة أحيانا محاولة لتحميل المسؤولية لمسؤولين أدنى منه". ويؤكد عبد الرشيد بوكرزازة انه في نظامنا الممارس في الجزائر الاستقالة أصلا غير مقبولة، لأنها "تعتبر كموقف رجولي وبطولي للراغب فيها، والنظام لا يمنحك الفرصة لتكون في هذا الموقف البطولي الرجولي". ويرى بوكرزازة أننا في الجزائر سنصل إلى ثقافة استقالة المسؤول في اليوم الذي تلعب فيه المؤسسات الرقابية في البلاد وعلى اختلافها، تلعب دورها بشكل حقيقي، ولا تبقى التقارير مجرد حبر على ورق دون أي متابعة، بل تقوم بدورها بكل صرامة واستقلالية وحرية، خاصة وأن النصوص لدينا بالقناطير، ويومها يضيف محدثنا "المسؤول سيتحمل مسؤوليته"، وهذا شريطة أن نمارس ديمقراطية حقيقية، الغالبية التي تحكم تتحمل المسؤولية الجماعية والفردية في المسؤول الذين قامت بتعيينه.
وزير الاتصال الأسبق يروي قصة إقالته رحابي: أقلت من الحكومة بتهمة فتح التلفزيون للمعارضة يروي وزير الاتصال الأسبق عبد العزيز رحابي الطريقة التي استوزر بها، وكيف قرر الاستقالة بعد أن تمت معاقبته من قبل السلطة، لأنه خرج عن الخط المرسوم له، عندما كان مسؤولا، فيقول أنه كان سفيرا بإسبانيا عام 1997 عندما تم استدعاءه لشغل منصب وزير، من قبل وزير الخارجية أنذاك أحمد عطاف: "اتصل بي في أكتوبر 1998 وقال لي أنت منتظر عند رئيس الجمهورية من دون أن يحدد لي تفاصيل هذا اللقاء". ويضيف: "ذهبت، حيث التقيت اليامين زروال، وقال لي أقترح عليك أن تكون وزيرا للاتصال والثقافة والناطق الرسمي للحكومة، ومنحني الوقت للتفكير، كون التعيين الرسمي للحكومة كان في ديسمبر، وبقيت الأمور بيني وبين الوزير عطاف والرئيس زروال". ويتابع: "قمت بتشخيص الوضع ورفعت الحظر على 34 عنوانا صحافيا كان مجمدا ورفع الحظر عن مؤسسة الإشهار، واقتراح قانون حول سبر الآراء والإشهار، وكذا رفع الحظر عن منع الأغنية القبائلية في التلفزيون". كما تحدث عن تنحيته من المنصب، وقال إن ذلك كان عندما تحدث لأول مرة مع مديرية حملة الرئيس بوتفليقة عام 1999 "عندما كلمني الجنرال العربي بلخير الذي عاتبني على فتح التلفزيون للشتم، وعندما وصل بوتفليقة إلى الرئاسة أقالني من وزارة الاتصال، وقال في مجلس الوزراء "تفهموا سيدي أن أكون أنا الناطق الوحيد باسم الحكومة"، قبل أن يعينه وزيرا مستشارا مكلفا بالثقافة، وهو المنصب الذي لم يشغله رحابي الذي طلب إجازة قام فيها بالتدريس في اسبانيا، معتبرا أن المنصب كان بمثابة الدحرجة من المنصب، قبل أن يستقيل من منصب الوزير يوم 19 ديسمبر 1999.
المسؤول السابق بالتلفزيون العمومي حفيظ دراجي "قدمت استقالتي لما طلبت مني رغم أني تقدمت بها عدة مرات" اعترف مدير الأخبار السابق بمؤسسة التلفزيون الجزائري، حفيظ دراجي، بأن ثقافة الاستقالة في الجزائر مغيبة تماما لأن النظام الحالي نفسه "لا يقبل أن يستقيل معه أحد" وقال بأنه حتى "ثقافة الإقالة" غائبة لأن الشخص الذي يقال في الجزائر حتما سيهان وسيتعرض للمضايقات. وعاد حفيظ دراجي إلى قضية إقالته من التلفزيون الجزائري كمدير للأخبار ليقول "تقدمت باستقالتي مرات عديدة شفويا لكنها رفضت" وأضاف "في الأخير تقدمت بالاستقالة لما طلب مني ذلك لظروف معينة" ليكشف محدثنا عن الوجه الآخر للنظام والذي يرفض الاعتراف بالفشل - حسبه - ولا يقبل أن يستقيل المسؤولون فيه، لكن بالمقابل تتم إقالة وتنحية كل من يعارض وبطريقة مهينة مثلما حصل مع "بلخادم". وقال دراجي "نادرا ما يوجد أشخاص يستقيلون في حالة فشلهم في مهمتهم لأنهم يفكرون في الجزائر ألف مرة في ما بعد الاستقالة وما سيحصل لهم من مضايقات ومشاكل والنماذج عندنا كثيرة" وأضاف "أصلا المسؤولية في الجزائر لمن لا يعرفها صعبة جدا ومصيبة كبيرة في إطار النظام الحالي". وأشار دراجي إلى أن ثقافة الإقالة وتقاليدها هي الأخرى غائبة وليس فقط الاستقالة، لأن الشخص الذي تتم تنحيته في الجزائر أكيد سيتعرض للمضايقات وسيتم التشهير به واحتقاره، فما بالك إن تقدم هو باستقالته، وضرب مثالا بالفريق العماري الذي تقدم باستقالته لكنها رفضت لتتم تنحيته عبر الجريدة الرسمية لأن النظام ببساطة لا يقبل الاستقالة.
أغلب المسؤولين ينتظرون قرار الإقالة الاستقالة.. هروب من المسؤولية أم رمي للمنشفة؟ عندما نبحث في تاريخ استقالات المسؤولين الكبار في الجزائر، نكاد لا نجد ما يكتب في هذه الصفحة من التاريخ، ونكتشف حقيقة واحدة لا ثاني لها، أن ثقافة الاستقالة غائبة تماما في قاموس المسؤولية في الجزائر، رغم أنها أحد المعايير الأساسية حتى لا نقول الوحيد لقياس نسبة احترام الناس لأنفسهم وقدرهم في تحمل المسؤولية وما ينجر عنها، ومقياس لمدى الالتزام الأخلاقي بالوظيفة وقيمة المسؤولية الأدبية تجاه الآخرين، وعندما نبحث في نماذج المسؤولين الذين يحتكمون لهذا المعيار في ضبط علاقاتهم مع المسؤولية نكاد لا نجد سوى حالات تعد على أصابع اليد الواحدة، وحتى من أبدى الرغبة في الاستقالة فلن يكون له هذا الشرف. تاريخ الاستقالة في الجزائر الذي أصبح من مترادفات الإقالة، عوض أن يكون من أضدادها سجل لعدد صغير جدا من الرجال مواقف شجاعة في تطليق الكراسي والمناصب المعلقة قلوبهم بها، وبعيدا عن المرض والقوة القاهرة وهم في صورة تعكس قاعدة احترام المسؤول لنفسه وقدره، وتكشف معادن الرجال وما يتشبعون به من قيم وأخلاق، حتى كانت الرؤية غير واضحة وإن وأخواتها حاضرة ضمن هذه الاستقالات فقد سجل تاريخ الجزائر للرئيس الراحل "الشاذلي بن جديد" استقالته حتى وإن كانت بعض الكتابات أكدت أنها كانت تحت الضغط، إلا أنها تحسب للرجل. وغير بعيد عن الظروف التي دفعت بالشاذلي نحو الاستقالة، نجد استقالة أخرى لرئيس من رؤساء الجزائر هو اليمين زروال الذي رمى المنشفة، ومازال غاضبا إلى اليوم معتكفا ببيته رافضا المشاركة في أفراح وأحزان الجزائر، وحتى في تشييع جنائزها، وإن كان الأمر عما عليه في الصف الأول من المسؤولية، ففي الصف الثاني من المسؤولية لم يسجل في تاريخ الجزائر استقالة رئيس حكومة ولا وزير أول، عدا استقالة أحمد بن بيتور التي نشرتها الصحافة يومها وقالت إنها كانت رد فعل على "تمرد" وزراء بوتفليقة عليه، وعلى نقيض بن بيتور ظهر علي بن فليس في مظهر "الحاز في نفسه" إبعاده من الحكومة وقال ذات يوم من شهر ماي 2003 أنه أٌقيل ولم يستقل، ورغم أنه فضح نفسه عندما قال يومها إنني لم أوقع مرسوما تنفيذيا طيلة 33 شهرا التي قدت فيها الحكومة، إلا أنه بدا متمسكا بالمنصب وعمد إلى التشهير بأنه أقيل ولم يستقيل وكانت دوافعه سياسية محضة ذات علاقة برئاسيات 2004، وإن كان التاريخ يذكر له أنه استقال من وزارة العدل مطلع عام 1992 بعدما رفض التوقيع على فتح ما سمته السلطة القائمة آنذاك "المعتقلات الإدارية" التي اعتقل فيها مناضلون وقياديون ومتعاطفون مع الحزب المحل . وعدا بن بيتور فكل رؤساء الحكومات أقيلوا ولم يستقيلوا، وفي صف الوزراء نجد من طلب إبعاده لدواع صحية، مثلما حدث مع وزير النقل الراحل محمد مغلاوي، ووزير المالية السابق كريم جودي، ومع ذلك لم يبرحوا مناصبهم إلا عبر تعديلات حكومية، أما علي بن محمد فاستقال من منصبه كوزير للتربية الوطنية استقالة نقية لم تشبها شائبة بسبب الفضيحة التي عرفها قطاعه، كما أكد أيضا وزير الاتصال الأسبق عبد العزيز رحابي أنه حرم من شرف الاستقالة بعد أن رفضها الرئيس وعاد بعدها واستغنى عن خدماته. وفي مستوى ثالث استقال المحامي مقران آيت العربي من مجلس الأمة، واستقال كذلك من المجلس الشعبي الوطني النائب عثمان رحمان، واستقال المحامي والحقوقي مصطفى بوشاشي من نيابة البرلمان، وتحت دواع سياسية كذلك طلب أبو جرة سلطاني رئيس حركة حمس السابق إعفاءه من حقيبة وزير الدولة في الحكومة، كما استقال أحمد أويحيى من الأمانة العامة للأرندي، وهو الذي لم يفعلها يوما رغم ذهابه وإيابه على قصر الحكومة، استقالة أثارت الكثير من الجدل حول دوافعها وخلفياتها الحقيقية، وأخيرا استقال كذلك رئيس ديوان الحج والعمرة الشيخ بربارة، ورغم أن الاستقالة سلوك وتصرف حضاري إلا أن استقالة هذا الأخير أثارت جدلا وذهبت أطراف إلى رفض تسميتها استقالة وصنفوها في خانة الإقالة. وعدا هذه الاستقالات، لا أحد يتخلى عن المسؤولية في الجزائر، مهما كانت الأزمات والكوارث والفضائح الأخلاقية والمالية فالقضية أصبحت قاعدة، فلا رحيل من الحكومة ولا تخليَ عن المسؤولية إلا بتغيير حكومي أو مجيء الساعة، رغم أن الاستقالة لن تزيد صاحبها إلا اعتزازا بالنفس والاعتراف بالعجز وهي قوة وشجاعة .
أبو جرة سلطاني وزير دولة ورئيس "حمس" سابقا "منظومة المسؤولية في الجزائر غير مسؤولة.. والمسؤول لا يكرم ولو حرر القدس" قال وزير الدولة الأسبق ورئيس حركة مجتمع السلم سابقا، أبو جرة سلطاني، إن الحديث عن ثقافة الاستقالة في الجزائر لا يطرح لأن من يتقلد مناصب المسؤولية لا يحاسب عندما يخطئ ولا يجازى عندما يصيب، وعندما يغادرها لا تقيم حصيلته، لذلك لا معنى للاستقالة في نظره، واعتبر أن الإقالة يوم ترتبط بالحساب والمتابعة تصبح معللة وتصبح الاستقالة بالمقابل ذات قيمة . وأوضح أبو جرة أنه في الدول التي تحترم نفسها هناك مسؤولية مقترنة بحساب لذلك يعمل صاحبها على القيام بها على أكمل وجه وتفادي الخطأ حتى لا يحاسب، "أما في الجزائر فتفسد ما تفسّد وتصلّح ما تصلّح ولا أحد يحاسبك"، واعتبر أبو جرة أن منظومة المسؤولية في الجزائر غير مسؤولة والتوظيف ليس خاضعا لأي معايير يمكن العودة إليها في تقلد المناصب، كما أن التضحية في المنصب لا تقدر من أي جهة، وذكر أنه في الجزائر تحديدا لا يكرم المسؤول الذي يبلي حسنا إلا إذا مات "حتى ولو حرر القدس"، ولا يحاسب حتى لو أفسد كل ما كان مسؤولا عنه . وأبرز سلطاني الذي كان وزيرا للدولة وطلب الإعفاء، كما لم يترشح لمنصب رئيس للحركة، أن المسؤول الجزائري عندما يتخذ قرار تنحيته لا يحاسب على أسباب الاستقالة، وإذا أقيل أيضا ومن "الثقافة السائدة" أنه يرى نفسه مظلوما لأنه يعرف أشخاصا عاثوا في الأرض فسادا ولم يقالوا. أما عن الأسباب التي جعلته يستقيل من منصبه بصفته وزيرا للدولة سابقا في حكومة أحمد أويحيى، قال أبو جرة إن الأمر له علاقة بأسباب سياسية ولا علاقة له بالأداء، "عندما لم يتطور التحالف السياسي إلى شراكة سياسية قررت الاستغناء عن الاستوزار لأن المنصب كان سياسيا ومرتبطا بالتحالف الرئاسي"، وأضاف ردا على سؤال تعلق بما إن كان قد ندم على قراره بالقول "لماذا أندم؟ اختياري كان ناضجا واخترت الاستقالة بكل رزانة، فلو تطور التحالف إلى شراكة سياسية ما كنت لأستقيل أبدا". أستاذ علم الاجتماع بجامعة الجزائر، الزبير عروس: حب التسلّط والخوف من المستقبل يخلّد مسؤولينا في مناصبهم قال أستاذ علم الاجتماع، زبير عروس، إن "ثقافة الاستقالة" ببلادنا منعدمة تماما، لأن المسؤولين يرون في مناصبهم المصلحة قد تكون "مادية" بحتة وقد تكون "معنوية"، مثلما تعني الاستقالة بداية الخوف من "المساءلة" و"المتابعات القضائية"، مؤكدا في ذات السياق أن المسؤول ببلادنا حتى وإن تمت إقالته، فإنه يقوم "بالاعتكاف" في بيته، حاضنا جهاز الهاتف، منتظرا لأية دعوة قد تأتيه يوما ما.. المهم هو العودة إلى السلطة ولو من باب ضيق. وعلق، أستاذ علم الاجتماع على موضوع تشبث المسؤولين بالمنصب ورفض الاستقالة إلا بعد الإقالة وبعد عمر طويل، بأن هذه المسألة لا بد من معالجتها من حيث قيم الدولة، فمناصب الدولة، برأي المتحدث، هي "مسؤولية" وليست "امتيازا"، فالذين يعينون في المناصب، الكثير منهم يعين بمنطق "السلطة" ومنطق السلطة هو أن يقوم بترجيح المصالح على النجاعة وتحمل المسؤولية، مضيفا في ذات السياق بأنه من هنا تظهر إشكالية "التشبث بالمنصب"، والذي يقال شعبيا "التشبث بالكرسي"، لأن الكثير من أهل المناصب يرون في المنصب "المصلحة" قد تكون مادية بحتة وقد تكون معنوية يترجمها في عدة ممارسات أو تصرفات بأن لديه سلطة على الآخر، ترتبط بفرض الذات على الآخر من دون وجه حق، كما يتداول باللهجة العامية "أنا نحكم فيك، أنا معلم عليك، أنا صاحب القرار هنا". وأضاف، الأستاذ زبير أن الأمور لا تقف عند هذا الحد فقط، إلى درجة أن إشكالية "التشبث" بالمنصب قد يكون سببه الخوف من المساءلة والمتابعات القضائية، وبالتالي فهم لا يجرؤون على تقديم استقالتهم قصد التغطية على التجاوزات التي ارتكبوها والأخطاء التي وقعوا فيها، والأعجب من كل هذا أن الذين يتشدقون بمنطق "التداول على السلطة" وفتح المجال للذين هم أكثر كفاءة، قد بينت التجارب بأنهم هم المتمسكون والمتشبثون بالسلطة والمنصب، أكثر من غيرهم. ليختم محدثنا حديثه، بأن ثقافة اللامسؤولية وعدم الانصياع لمنطق التداول على السلطة ولو بالاستقالة، هي من أهم خصائص السلطة في البلدان التي يغيب فيها منطق مؤسسات الدولة ودولة القانون أو منطق الزبائنية.
المدير العام السابق للجوية الجزائرية وحيد بوعبد الله: تجريم فعل التسيير غيّب ثقافة الاستقالة يرى النائب بالمجلس الشعبي الوطني عن حزب جبهة التحرير الوطني، والرئيس المدير العام السابق لشركة الخطوط الجوية الجزائرية، وحيد بوعبد الله، أن غياب ثقافة الاستقالة وسط المسؤولين الجزائريين مرده ل "قلة الضمانات"، لأنه في الجزائر جزئيات بسيطة يتم تضخميها على أنها خروقات عظيمة، وأمور أخرى على علاقة بفعل التسيير وغيرها من الأمور. وقال وحيد بوعبد الله إن الشيء الذي ساهم كذلك في غياب "ثقافة الاستقالة" وسط المسؤولين الجزائريين هو أن فعل التسيير ما زال مجرُّما، وأضاف "عندما يتم رفع التجريم عن فعل التسيير عندها يمكن أن نرى ثقافة الاستقالة لدى المسؤول الجزائري". وبخصوص رفع التجريم عن فعل التسيير شرح بوعبد الله أنه ليس مع رفعه كلية دون شروط، وقال "أنا مع الطرح القائم على رفعه لكن بشروط وليس رفعه مائة بالمائة"، وتابع: "يمكن كذلك أن يصاحب رفع التجريم عن فعل التسيير بشروط إجراءات أخرى كتعيين الرئيس المدير العام لشركة ما أو غيره من المسؤولين عن طريق ملف قوي يعبر فعلا عن كفاءات هذا الشخص أو عن طريق مسابقة، إذا تم التحقيق معه لاحقا يجب أن يكون من طرف قاض متخصص في المجال ومتكون تكوينا عاليا". وأكد وحيد بوعبد الله أنه شخصيا كانت له تجربة مع الاستقالة عندما كان على رأس الخطوط الجوية الجزائرية، وقال "قدمت استقالتي لما كنت رئيسا مديرا عاما للجوية الجزائرية لكنها رفضت"، وأضاف كررت المحاولة بعدها بمدة ولكن هذه المرة كانت بطريقة أخرى وهي طلب الإحالة على التقاعد لكن الطلب قوبل هو الآخر بالرفض. وعلق بوعبد الله على قرارات الرفض هذه بالقول "بالنسبة لهم فالمسؤول بمثابة واحد من العبيد أو على أنه خدام عندهم"، لذلك لا يحبون من يستقيل ويريدون دوما أن تبقى تلك النظرة الأبوية نحو المسؤول مهما كان.
عدة فلاحي نائب ومسؤول سابق بوزارة الشؤون الدينية المسئولون الذين تجرؤوا على الاستقالة صنفوا "مغضوب عليهم" وصف المستشار الإعلامي لوزارة الشؤون الدينية السابق، عدة فلاحي، ظاهرة تمسك المسئولين السياسيين بمناصبهم رغم الغضب الشعبي ضدهم، بتكريس ثقافة سلبية لدى النخبة وتشجيع ممارسة الفساد في السلطة، وهذا يؤدي برأيه إلى غياب الضمير المهني والوازع الأخلاقي، ويصبح الفساد حالة طبيعية يمكن ممارستها دون خوف. وذكر فلاحي أن "التشبث بالمنصب" بات "سنة"، فيما يصنف المسؤول المستقيل في خانة "المغضوب عليهم"، وأرجع ذلك لعدم وجود عمل مؤسساتي يعطي الفرصة لتساوي الكفاءات، فأي مسئول وفق هذه المنظومة يجد أن بتوليه منصبا في الحكومة يمتلك الحظوظ والعلاقات، وهو ما يجعله لا يغامر بالاستقالة. ويرى المتحدث أن اغلب الذين يتقلدون مناصب سامية في الدولة ليست لديهم رسالة في الحياة، أي لا يوجد عندهم مشروع له بعد ثقافي من اجل تقديم خدمة عمومية للمجتمع وإنما هي امتيازات خاصة وشخصيتهم، وهي التي تهمين على تفكيرهم وقراراتهم. ويضيف: "من الناحية القانونية، لا يوجد ما يحدد شروط الاستقالة من منصب حكومي، ما ترك الجميع يتخوف من الاستقالة، وكأن كل الأبواب توصد في وجه من يستقيل، وقال إن المستقيلين من الحكومة في الجزائر وقعوا في البطالة بعد تجرئهم على الاستقالة وباتوا نماذج تخيف.