يقال عن شخص إنه يعاني من الفراغ!! ويقال عن شخص آخر إن سبب انحرافه سببه هو الفراغ!! ونلاحظ ذلك في الواقع، حيث نجد من الناس من يريد أن يفعل شيئا ولكن لا يجد في الواقع ما ييسر له فعل ما يريد، ونجد من "الفارغين" من طالت ألسنتهم وقصرت أذرعهم "على خلاف الخلقة"، بسبب الفراغ الذي يعانونه ول يجدوا ما يمرأون به فراغهم من معارفهم وقدراتهم فيملأونه بكل ما ورد على اللسان واستعذبه. إن الفراغ هو كل قطعة زمنية يعيشها الإنسان، وله معنيان: معنى إنساني عام جبل عليه الإنسان وفطر على كيفية التعامل معه, ومعنى حضاري وهو علاقة هذه القطعة الزمنية التي يعيشها الإنسان برسالته الجماعية في الحياة. أما المعنى الأول، فهو كل قطعة زمنية لا يشعر الإنسان أنه استفاد منها، ولذلك نجده حريصا كل الحرص على ملأ هذا الفراغ بكل شيء، فمن ملأه بالصالح ملأه، ومن ملأه بالطالح ملأه كما يقال، المهم لا ينبغي لا يكون الفراغ، أو على الأقل لا يشعر الإنسان بوجوده، ولذلك يندر أن نجد إنسانا لا يفعل شيئا ويكون راض عن نفسه وعلى وضعه، فهو إما مشغول بفعل أو بقول أو بلهو، أو بأي شيء يشغله عن أن يكون فارغا من شغل. ولكنه في مرحلة لاحقة، نجد هذا الإنسان يحاسب نفسه لماذا فعل كذا ولم يفعل كذا؟ ولماذا لم يفعل كذا ولو أنه فعل كذا لكان أفضل؟ لأن المهم عنده في البداية هو الإسراع في سد الفراغ، استجابة لما جبل عليه من استهجان له ولوجوده، ثم بعد ذلك يكتشف أنه لو تمهل قليلا لفعل الأحسن والأفضل، ولعل هذا هو السر في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم الفراغ بالنعمة التي يغبن فيها كثير من الناس "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ". رغم أن تصرف الإنسان العفوي مع هذا الفراغ هو مطاردته وكفى، وليس بقصد طلب الحسن أو القبح. على أن النعمة في أصلها ممدوحة لذاتها لكونها مادة أولية صالحة للإستثمار، مثل الماء والهواء والمأكل والملبس، وغير ذلك، كلها نعم، بحيث لا يوجد إنسان في الوجود يستسلم للفراغ ويخضع له، حتى في العطل والإجازات، التي تبدو وكأنها فراغ وتحلل من الالتزامات بما يملأ الفراغ، بينما هي في الواقع تغيير للعوائد وتبديل للأوضاع والحالات، فيتحلل الإنسان من العمل ومن التقيد بالوقت، ولكنه يلتزم بالنزهة والبحث عن مواطن الراحة التي لها تعبها العذب أيضا. لماذا كان الفراغ بهذه الصفة وهذه الأهمية؟ وهنا ناتي إلى المعنى الحضاري للفراغ، الذي يتجاوز هوى الإنسان وميولاته الشخصية والفردية. ذلك أن الفراغ جزء من الحياة باعتباره قطعة زمنية، فهو يحسب من العمر، كما تحسب أفعاله وإنجازاته، إذ عندما نقول عن عمر فلان أنه بلغ الأربعين أو الخمسين أو الستين..، فإن هذا العمر يشمل طيلة الفترة التي قضاها هذا "الفلان" في الدنيا، بكل ما في هذه المدة الزمنية من فترات ملأ وفراغ... فهي عدد من الأيام والشهور والسنوات، وسواء في ذلك الأيام التي نجح فيها ورسب.. والتي ربح فيها وخسر.. والتي نما فيها وتدحرج. ولكن لا يحسب من هذه الأيام والسنين، إلا المكتسبات والإنجازات والأرباح والتفوقات..، فلم نر أحدا ذكرت سلبياته على سبيل النجاح والإنجاز، وفي العادة أنها لا تذكر وإذا ذكرت تذكر كمعالم للإخفاق والفشل والفساد؛ لأن المرء بالطبيعة التي خلق عليها، إن لم يكن في زيادة فهو في نقصان، والفراغ في العادة مظنة النقص وليس مظنة الزيادة، فأسرع الناس إلى ملئه بكل شيء، شعورا منهم أن مجرد ملإ الفراغ مكسبا ومحققا للزيادة التي يطمحون إليها. فهذا المعنى للفراغ، يحرص على تحقيقه كل الناس خوفا من وقوعه وهروبا من أمر يستهجنونه، ومن ثم لا وجود لإنسان يمتلك فراغا في الوجود، فكل الناس مشغولون بما يهمهم وبما لا يهمهم، أما المعنى الحضاري وهو الوظيفي المطابق لرسالة الإنسان في الحياة، هو القطعة الزمنية المستثمرة فيما يفيد أو المستثمرة فيما لا يضر، فالذي يزيد في اللهو عن القدر اللازم في الحياة، كالقاعدين في المقاهي طوال اليوم، أو الذين فرضوا على أنفسهم أنواعا وأشكالا من اللهو زائدة عن الحاجة، كالإعتياد على ممارسة لهو ما، والذين يتوسعون في ممارسة الأمور المشروعة دينا وأخلاقا بما يزيد عن الحاجة، كلهم يمتلكون فراغا، وإنما يوهمون أنفسهم بأنهم يملأون الفراغ، ومنهم من يصرح بذلك بالفعل فيقول لصاحبه "تعال نقتل الفراغ". والغبن الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقع فيه الكثير من الناس هو هذا؛ لأن الفراغ بمعناه الحقيقي –وقد أشرنا إليه- لا وجود له في الواقع لأن كل الناس يطاردونه، وإنما الموجود منه هو أن الناس يملأونه بكل شيء.. المهم ألا يبقى المرء واضعا يده على فكه..، فيقوم بأي حركة وبأي فعل أو قول.. لأن لا يشعر بأنه في فراغ، في حين أن المطلوب -من الوجهة الوظيفية- من الإنسان أن يضيف شيئا في الحياة له ولغيره؛ لأن الزمن –الذي هو الفراغ- جزء من المادة التي تصنع منها الثقافات والحضارات، فهو ليس شيئا هينا، مثل قطعة ذهب، لا يستطيع الإنسان أن يأكلها أو يشربها إذا عطش، ومع ذلك هي مهمة رغم أنها لا تستطيع تحقيق أهم عنصر في الحياة وهو جرعة ماء، وكذلك الزمن جزء من حياتنا وله علاقة بكل شيء، فلا تقد إلا به، وإهماله إهمال لكل شيء. لو اقترضنا أن شخصا معتدلا مهتما بأيامه حريص على استثمار وقته، ولكنه غير مجتهد في استثماره "قيس قيس"، وعاش 60 سنة، ما هي المدة الزمنية التي يمكن أن نقول أنها مستثمرة في هذه الحياة؟ وللإجابة عن هذا السؤال نجد أن هذه الستين سنة موزعة كالتالي: 1- 15 سنة وهي مرحلة الطفولة الأصل فيها غير مستغلة 2- 15 سنة نوم، بمعدل 8 ساعات يوميا 3- 6 سنوات أو أكثر إجازات سنوية ومرضية ومناسباتية وأعياد وطنية ودينية..إلخ. 4- 4 سنوات بمعدل ساعتين كل يوم (أزمة مواصلات، تأخر عن العمل، الوقوف في الطوابير، البيروقراطية –روح أرواح-) ويضاف إلى ذلك ان تسوى الفاعلية عند الإنسان متغير وغير ثابت، فهو في مرحلة الشبابّ، متنوع بين التفاعل والإنفعال، وفي مرحلة الكهولة يميل التردد ام عند بلوغ الستين فهو إلى الرتابة اميل... وهذا التنوع، ينعكس على مستوى استثمار هذا الفراغ؛ بل إن تذوق طعمه يختلف في هذه المراحل العمرية.. فلو قام الإنسان برحلة لبوم واحد مثلا.. فإن الشاب يعيش بتلك الرحلة شهرا كاملا وهو يتحدث عنها وعن أثرها في نفسه، بينما هي عند الشيخ متعة لم تتجاوز ذلك اليوم الذي قضاه في المنتزه أو الغابة. والحصيلة أنه لم يبق إلا 20 سنة يمكن اعتبارها مستثمرة، أي أن المعتدل منا يمكن أن يستثمر ثلث عمره فقط، اما إذا افترضنا في المرء الكسل واللامبالاة والتقصير فإن دائرة الاستثمار لهذا الزمن تتقلص شيئا فشيئا، ولذلك كانت جهود البشرية كلها منصبة على محاولة تقليص هذه المدد الزمنية الضائعة، فركزوا على التعليم وعلى التبكير به ولا يزالون حتى بلغوا مستوى التفكير في إمكانية تعليم الجيني في بطن أمه، ليقلصوا مدة التعليم الأولى، واجتهدوا في توفير المواصلات وتنويعها، حتى ان الشركات نفسها ضمنت لعمالها المواصلات حفاظا على حسن سيرها، واهتموا بعالم التواصل بحيث أضحى المرء في بعض الوظائف يتابع عمله وهو بعيد عنه ويسيره كما لو أنه حاضر في عين المكان.