حالت التزاماتُ العمل بيني وبين حضور تأبينية الأخ "عبد الوهاب حمودة"، التي نظّمتها "الشروق اليومي". أسأل الله تعالى أن يغفر له ويرحمه برحمته الواسعة، وأن يُمكِنَّنا من الثبات على منهجيته في العمل القائم على مبدأين أساسيين: الفعالية والهدوء. لا أذكر أني التقيته مرة ولم يبادرني بالحديث عن "مساحة أمل" هذه، ولم يوصني بضرورة الاستمرار على خط الاعتدال والابتعاد عن الإثارة والتجريح، بل إنه كان يُرسل إلي باستمرار النصح مع الأخ الكريم نصر الدين لعرابة الذي كثيرا ما كان يزوره في بيته، مُعبِّرا عن حبّه لي، وحرصه على أن أكون في مستوى تطلعاته.. لعله كان يرى ما لم أكن أراه، وهو الذي رغم ما كان يعانيه من مرض لم يكن يتردد في متابعة وهندسة النشاطات العلمية والفكرية والإعلامية التي كان يراها تأخذ النهج الصحيح. وكان آخرها ندوة مالك بن نبي عن "رسالة المسلم ودوره في القرن ال21" التي نُظِّمت تحت إشراف جمعية العلماء المسلمين السنة الماضية، وأَلقيتُ فيها محاضرة عن "حرب العقول القادمة"، لم يتردد الفقيد في إثرائها بتوجيهاته ونصائحه مثل ما فعل مع باقي المحاضرات. لقد كان بحق أبا الملتقيات العلمية والفكرية في الجزائر بما حباه الله من قدرة فائقة على التنظيم وعلى الجمع بين التيارات الفكرية المختلفة. لم يكن قطّ يحجر على فكر أو مدرسة أو اتجاه، مادام ذلك يتم في نطاق آداب الإسلام والحوار الهادف البنَّاء. ولعلنا جميعا نذكر كيف كان يجمع بين محمد الغزالي والشيخ شمس الدين ويوسف القرضاوي والشيخ فضل الله ومحمد أركون ومحمد علي التسخيري وعبد المحسن التركي ورمضان البوطي إضافة إلى علماء من الغرب كموريس بوكاي ورجاء غارودي، يجمعهم جميعا على منصة واحدة في ملتقى واحد يتبادلون الرأي في حاضر ومستقبل الأمة من غير تزمُّت ولا رفض للآخر، ويقدِّم من خلالهم لأجيال كاملة صورة الإسلام المتسامح الحضاري، صورة الإسلام الصحيح. حقاَّ، كان عبد الوهاب حمودة يعمل في نطاق مشروع حضاري متكامل، يرعى الزاوية التي أسسها ببلدته "قنزات" (منطقة القبائل) بماله الخاص، ويسعى إلى الحصول على الاعتماد لمؤسسة مالك بن نبي التي كان من المبادرين بها، ويطمح إلى تأسيس هيئة تضم كبار العلماء لتحصين الأمة وأبنائها والتصدي للمخططات الموجّهة ضدها، وقد أوصى بذلك. ولا عجب أن يكون منه هذا وهو الذي تعلَّم على يدي أستاذه الفيلسوف مالك بن نبي رحمه الله منذ سنة 1964 عندما كان يداوم على محاضراته في بيته باللغتين العربية والفرنسية، ويرافقه في رحلاته الداخلية والخارجية كالابن الوفي.. ولا عجب أن يكون كل هذا مِمَّن عمل جنبا إلى جنب مع أقطاب جزائريين في العلم والفكر والسياسة وحظي بثقتهم من أمثال مولود قاسم نايت بلقاسم وبوعلام باقي وعبد الرحمان شيبان رحمهم الله، فضلا عن مرافقته علماء وأساتذة أجلاء كسعيد شيبان وعمار طالبي وغيرهم ممن لا يتسع المجالُ لذكرهم في هذه المساحة التي أرادها أن تكون للبناء والعمل والأمل بحق، ونسعى أن تكون وتبقى كذلك.