كرّست نتائج الانتخابات المحليّة المعلنة الجمعة إحداثيات المشهد السياسي القائم في البلاد منذ سنوات، لتفتح بذلك أفقا واضحًا حول سيناريوهات الاستحقاق الرئاسي المرتقب في 2019، إلا إذا هزّت تحولات جذريّة الوضع العام الوطني في المرحلة القادمة، وهو الأمر المستبعد في ظل المؤشرات الحالية. فقد أفرزت الانتخابات سيطرة "القطبية الثنائية الواحدة"، ممثلة في حزبي جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، حيث منحتهما النتائج هيمنة مطلقة على المجالس البلدية ونظيرتها الولائية، متجاوزة نسبة (50%+1) وبأريحية، بعدما تمكّن "الأفلان" من الظفر ب603 بلدية، و711 مقعد ضمن المجالس الولائية، متبوعًا بالوصيف "الأرندي" الذي حصد 451 بلدية و572 مقعد في المجالس الولائية، أي ما يعادل 30.56 بالمائة و 26.21 بالمائة، على التوالي، ليتقدم "وعاء السلطة" الشعبي بفارق معتبر عن المنافسين من المعارضة. بغضّ النظر عن "الطعون" التي تلاحق نتائجها، بسبب شبهات "التزوير" وارتفاع العزوف وتضخم الأوراق الملغاة، فإنّ هذه الانتخابات تضع السلطة في راحة من أمرها أمام المعارضة والرأي العام الدولي على السواء، فقد أثبتت أنها تتمتّع وفق الأرقام الرسميّة بسند شعبي واسع، من خلال الحصاد الانتخابي الوافر لعموديْها الحزبييْن، "الجبهة" و"التجمّع"، وإذا أخذنا بعين الاعتبار الحصّة الإضافية من المقاعد والأصوات لتجمع أمل الجزائر والحركة الشعبية الجزائرية، وهما الرافدان الجديدان للسلطة، فإنّ حظوظها تزداد في القدرة على إدارة الفترة المقبلة المفتوحة على رئاسيات "مفصليّة" محكومة بظروف متأزّمة ماليّا وسياسيا وإقليميّا. ذلك أنه في ظرف ستة أشهر فقط، نالت السلطة عبر أحزابها التقليدية والوافدة تزكية مزدوجة عبر صناديق الانتخاب، تفسح لها مجال المناورة أمام خصومها المناوئين، كما تفتح لها نوافذ لاسترجاع طاقاتها والتقاط أنفاسها في مواجهة ضغوطات حاصرتها منذ تدشين العهدة الرابعة، من خلال تكتل واسع للمعارضة واصطفاف أطيافها بمختلف الألوان، ثمّ دخول الحكم في معركة كسر العظام لترتيب البيت من الداخل، عن طريق سلسلة من القرارات القويّة التي طالت أسماء كبيرة في مستويات مختلفة. الآن، وبعد تجاوز الامتحان الانتخابي بسلام، في دورتيه التشريعية والمحليّة، فقد خرجت السلطة مكرّمة ومرفوعة الرأس، وهي مُنتشية بنتائج "باهرة"، ستشدّ من عضدها السياسي في ما هو آتٍ من جولات، بينما انزوى معارضوها الذين أهانتهم أرقام الصناديق، فخارت قواهم، ما يصعّب من مأموريتهم التنافسيّة في ما هو مُقبل من صولات، ونحن هنا ننطلق دومًا في قراءة الحدث من خلال "النتائج الرسميّة"، دون الخوض في تفاصيل ومُجريات العملية الانتخابية التي تقدح فيها بعض الأطراف، بحجّة التزوير أو الانحياز الإداري، لأنّ لا أحد يملك الأدوات التي تؤهله للجزم بأنها مشُوبة بالانتهاك الشامل والممنهج والفوقي، إلا ما كان من وقائع مسجّلة و أفعال معزولة في أماكن محدّدة، صارت في حكم المتواتر من الأخبار. ومع ذلك، لا يُستبعد أنّ إداريين وأعوانا في مستويات عديدة، وفي مراكز ومكاتب مختلفة، ولإدراكهم أنّ "الأفلان" و"الأرندي" هما ركيزتا السلطة في البلاد، قد انحازوا وفق تعليمات شخصيّة سُلميّة، أو بإرادة ذاتية متزلفة إلى مرشّحي الحزبين، ليسيئوا بتصرفهم المُدان دستوريا وقانونيا وأخلاقيّا إلى نزاهة الانتخابات ويخدشوا في سلامتها الإجرائية والسياسيّة، لكن يبقى مدى تأثيرها في توجيه ورسم النتائج النهائية في حكم المجهول، لأنّ المنظومة القانونية والتنظيمية المؤطرة للانتخابات في الجزائر، ما تزال قاصرة عن ضمان توفير شروط تأمينها، بحسب تأكيدات عبد الوهاب دربال أكثر من مرّة، وهو رئيس الهيئة العليا المستقلة لمراقبة الانتخابات! ومع التسليم بضرورة احترام الإرادة الشعبية مهما كانت توجهاتها، فإنه من المهمّ كذلك تسجيل مُراوحة المسار الديمقراطي في الجزائر لمكانه الأول، حيث لا تزال التجربة المريرة رابضة في مربّع الصفر، فبعد نصف قرن من الاستقلال، وأكثر من ربع قرن من الانفتاح السياسي، لم يتحقق بعدُ حسب مراقبين الانتقال المنشود ولا التداول السلس، الأمر الذي يثير تساؤل المراقبين بشأن الأسباب الظاهرة والخلفيات العميقة وراء ذلك، ولا شكّ أن العوامل الكامنة خلفها متباينة ولا تتحمّلها جهة واحدة، دون غيرها، سواء كانت السلطة أو الطبقة السياسية أو النخب المجتمعيّة!