بعد أربعة أعوام من الحصار والانقسام على مليون وسبعمائة ألف مواطن فلسطيني في قطاع غزة، نصفهم من الأطفال حسب إحصاءات المركز الفلسطيني للإحصاء، وفي ظل معادلة اقتصادية عنوانها البطالة الدائمة وواقع حياتي لا يقل فيه انقطاع التيار الكهربائي عن ثماني ساعات يوميا في أحسن الأحوال، قررت "الشروق اليومي" استطلاع وملامسة حياة الناس اليومية في قطاع غزة بالنزول للشارع بجوار المواطن لترصد وضع المواطنين الفلسطينيين في قطاع غزة في أول أيام رمضان، فاختارت متابعة حالهم من زوايا متعددة للحياة، ومن خلال فئات هي الأقرب لحياة الناس وأكثرها تفاعلا في الشهر الكريم، كما حطت رحالها بجوار فئة لا يعرف الناس والإعلام قصص حياتها وخلفياتها . * من صاحبة مزرعة إلى بائعة خضار ! في سوق الزاوية المشهور في ميدان فلسطين وسط مدينة غزة سلطنا الضوء على مجموعة من السيدات "العجائز" اللواتي يبعن اليسير من الخضروات، من بينهن السيدة المسنة التي كانت تبيع صندوقا من التين الشوكي "الصبر" وطعاما للطيور وقليلا من النعناع عرفتنا بنفسها وقالت "أنا أم هاني ياسين (70 عام) أسكن في حي الزيتون مقابل ورشة السمنة التي قصفها الاحتلال ثلاث مرات، زوجي مسن يبلغ (95 عاما) ومريض ولدي أربعة أولاد لا يعملون إلا ما ندر وبنت معاقة"، وأردفت أم هاني "كانت لي قطعة أرض في منطقة جحر الديك الحدودية بها أشجار زيتون وليمون ورمان وبركة مياه لتربية الأسماك، فضلا عن حظيرة طيور جرفها الاحتلال عدة مرات ولا نستطيع زراعتها بسبب إطلاق النار الدائم من أبراج المراقبة العسكرية الإسرائيلية على المزارعين"، وواصلت كلامها "ذهبت اليوم للأرض لإحضار بعض الخضروات لعلي أشتري قليلا من الجبن لتناول وجبة السحور الليلة، كل يوم هذا حالنا، ننظر للأطعمة والمشتريات نتمناها ولا نقدر على شرائها، أتمنى في هذا الشهر الكريم هداة ( راحة ) البال " . هذه الحكاية لا يعلم عنها ولم يرها أصحاب البدل وربطات العنق الجميلة ممن " كسروا رؤوسنا بتصريحات الفضائيات .. أقوالهم ملائكية وأفعالهم شيطانية " حسب أبو مراد بائع الجرجير والفجل . لا عمل بسبب اللون السياسي الصورة الثانية هي لبائعة أخرى أم أشرف (65 عام) تجلس أمام بسطة صغيرة وتبيع البقدونس تخرج مع صلاة الفجر وتعود بعد ما تبيع خضرواتها البسيطة سواء عصرا أو مع صلاة المغرب، أم أشرف لديها ثلاثة أولاد وبنتان خريجتا الجامعة لم يعملا، وعندما سألناها لماذا لم يحصلان على وظيفة أجابت: "بناتي يتقدمن للوظيفة ويدفعن رسوم طلب الوظيفة ولكن لا يحصلن على العمل رغم أن معدلاتهن الجامعية أفضل من غيرهنو والسبب المحسوبية واللون السياسي" على حد قول السيدة، فالقصة تبدأ في كل حكاية من بيع البقدونس ليظهر أصل الأزمة هو انقسام الأشقاء المرير، فالبقدونس والنعناع وبعض مكونات المأكولات الشعبية الفلسطينية البسيطة وبهاراتها لم تعطر ما أفسده الانقسام . المشهد الثالث لأم محمد (47 عام) تتواجد في السوق منذ 7 سنوات، لديها 12 ولدا وبنتا، أطفال يحومون حولها كصغار الطيور ولها زوج مسن مريض بعد اعتقاله، لا يستطيع العمل، كل يوم تخرج من بيتها الساعة الرابعة فجرا لشراء الخضروات من الخان (السوق المركزي) وتعود مع أذان المغرب، إنها تعمل بإصرار اكبر ومدة أطول من المسؤولين، تتمنى الفرج وصلاح الحال وتوفيق المسلمين ووحدتهم . أريد صحة زوجي السيدة الأخيرة هي حلوة الأشقر تبيع الكشك المجمدة، وهو عبارة عن لبن مخلوط بالقمح، تجلس بجوار وعائها البلاستكي يغطي ملامحها التعب والصبر، لديها بنتان مرضيتان مصابتان بضيق التنفس وخمسة أولاد مرضى لا يعملون، يحُضرها أحفادها فجرا على عربة حمار من بيت لاهيا شمال قطاع غزة ومعها نعناع من 200 متر زرعت حول بيتها، وأضافت بفرح وفخر أنها بمجرد أن تعود مساء للمنزل يحيط بها أحفادها يطلبون بعض النقود من غلة يومها، الحاجة حلوة ما تمنته بسيط وكبير وهو عودة صحة الختيار (زوجها) كي يعينها على قسوة الحياة. أمنيات .. هل تتحقق؟ ولنقفز من تفاصيل قصص هؤلاء المعذبين في عالم آخر لم يحاول حتى الفلسطينيين استطلاعه، قررنا سبر غور واقع الناس العاديين من خلال بعض أصحاب المهن والمحلات، فزرنا محل الجد للعطور وسط غزة، تعود ملكيته للحاج موسى سمور (60 عاما) كان في الحجاز وأُبعد لقطاع غزة بعد حرب الخليج الثانية عام 1991 . الشيخ "سمور" أكد أن الإقبال على العطور في رمضان يزداد، وعندما سألنها عن واقع الناس قال: "المؤلم أن التحزب زاد نفور الناس من بعضها"، متسائلا "كيف ننسى 10 آلاف أسير لدى كل واحد منهم على الأقل ثلاثة أفراد ليصبح عدد المتضررين من أسرهم ثلاثون ألف معوز ومقهور"، وعن حال الناس في رمضان هذا العام أوضح : " أحس بألم وحسرة في عيون الناس، فالبلد لا تتحسن إلا يومين أو ثلاثة في الشهر أثناء استلام الموظفين رواتبهم وبعد ذلك تنام المدينة " . وعن أمنيته في شهر رمضان أجاب بائع العطر: "أتمنى أن يهل بالخير، وأن يهيئ الله للأمة صلاح الدين يقودها من نصر إلى نصر، ويرفع عنا الحكم الجبري الذي نعيشه، وأدعو الله أن يوحد المسلمين في صف واحد"، لقد اختصر ضيفنا الأمنيات الكبار كيف لا وهو جليس العطور لدرجة أنه أصبح مثلها يفوح عطرا وحكمة . يوما قبل رمضان .. لم أبع شيئا على مدار اليوم أبو احمد صاحب محل أدوات منزلية في شارع عمر المختار غرب مدينة غزة يرسم مشهدا آخر، فيقول الناس ملت منذ انتفاضة عام 2000 لا عمل لهم والمساعدات لا تكفي والحصار يمنع محاولات كسر حدة الفقر، وتساءل: كيف أصوم وجاري لا يملك إفطاره.. كيف أكون سعيد؟!"، وأوضح أبو احمد "اليوم ذهبت للسوق فوجدته مليئا بالناس لكنهم يتفرجون، البضائع كثيرة لكن القدرة الشرائية صفر، الناس ما معها أموال.. الناس تموت.. انظر للشارع لا تجد مظاهر للفرح.. الناس تفطر على الظلام الكثير من العائلات المستورة عندنا معدومة أكثر من الصومال، الناس تحتاج شغلا لا تريد مساعدات " ثم يوضح " إن الجريمة الأكبر في تاريخ فلسطين هي الانقسام وسيحاسب عليها التاريخ وقبله رب العالمين الفاعلين " . أمنية أبو احمد هي المصالحة، مذكرا بأن " المسلم لا يجوز أن يخاصم أخاه أكثر من ثلاثة أيام .. فما بالك بأربع سنوات " . نريد العمل أكثر من قوافل المساعدات ساق الله صاحب الحلويات الشرقية المشهورة "الحصار المدمر أثر على كل شيء في حياتنا.. لقد فقدنا الكثير من زبائننا بسبب البطالة والأوضاع الاقتصادية.. قبل سنوات كانت الحلويات طبقا أساسيا على مائدة الصائمين، اليوم طبقنا غائب عن كثير من الموائد". رمضان بدون حصار أفضل حسب الخزندار صاحب أشهر محلات بيع الحمص الذي عقب بالقول: "إن الوضع الاقتصادي صعب فكل المواد التي نعمل بها ممنوعة، زبائننا لم تعد تشتري منا، فالنجار والبناء والحداد لا يعملون، لذلك أصبحنا لا نراهم كزبائن" وأضاف "عندما كانت الأمور طبيعية نوعا ما كانت الأسر تضع ميزانية لشهر رمضان، أما اليوم وبسبب الظروف الكثيرة أصبح الناس تهتم بالأشياء الرئيسية وبدون أي كماليات " ، وأوضح " ورغم حالة التقشف إلا أن الأمور صعبة وبائسة " . قد تنقل الصور القادمة من غزة الكثير من البضائع المهربة من الأنفاق أو التي سمح الاحتلال بدخولها عبر المعابر، لكنها حتما لن تستطيع نقل الشهوة في عيون الراغبين ممن "عيونهم بصيرة وأيديهم قصيرة" كما أن أحدث الكاميرات لن تتمكن من التقاط قبضة حسرة مشدودة في يد عامل حرم العمل والكرامة هو يتلفت بين ما لذ وطاب أو غضب ساعد حرفي ماتت حرفته بسبب الحصار . نعم في أسواق غزة الكثير لكن في جيوب معظم أبنائها لا يوجد إلا الفراغ، وقوافل المساعدات على أهميتها ودلالتها قد تجلب ما يسوء توزيعه، لكن مئات الآلاف من المحاصرين يحتاجون حياة طبيعة فيها العمل والكرامة والاستقرار والثقة والأمل أكثر من البيانات والتصريحات وقوافل الأحبة . * رمضان في العراق صوم ودم ومفخخات ورحيل الأمريكان على شواطئ دجلة كان للعراقيين طقوسهم في رمضان، مطاعمهم ومقاهيهم تستمد من بذخ العباسيين تقاليدها، ومن تراتيل الهداة المهديين روحها ..لم تكن تنطفئ أنوار مسجد أبوحنيفة النعمان الإمام الأعظم، ومسجد الإمام جعفر الصادق يعانقه في بهاء وجلال..بغداد والموصل والبصرة والرمادي والنجف الاشرف والأسماء الكثيرة الجليلة تترنم بصلاة التراويح وزيارات الأحباب .. والسهر المحبب على سطوح المنازل أو شواطئ الأنهر المقدسة . كل شيء تبدل وأصبح الزمان زمان الموت المجنون المنتشر في الساحات والمرافق العامة زمان قتل البهجة واغتيال الطموح . عن أي بلد نحن نحكي نحن نتحدث عن بلد يضج بأنفاس أولياء الله الصالحين سعد والمثنى وخالد والحسين والعباس بن علي وال بيت النبوة والأئمة الفقه والأصول عن (أبي حنيفة وابن حنبل وجعفر الصدق والشافعي) وعن علم الكلام عن (البصري والماوردي) والفلسفة عن الكندي والمعتزلة .. نتحدث عن بلد السادة الصوفية الشيخ الكيلاني وابن جنيد . يقولون أن العراق يعد كل صباح بنادقه فإن رأى بها نقصا استجلب مايزيد على النقص وإن وجد فيها زيادة تهيأ لحرب..القوة في العراق ليست عبثية إنها تبحث دوما عن اتجاه وإذا ما هاجت ريح الصحراء بعفارها اتشح العراقيون بسيوفهم فقد يكون بعض العجم خلف الغبار..فأين العراق اليوم؟إنه خلف صفحة الحاضر !! إنه في سجلات الماضي .. ولكنه حتما سيد المستقبل قدمه تعلو فوق رقبة الجلاد . الاحتلال الأمريكي والانقلاب الاجتماعي يعتبر المجتمع العراقي من المجتمعات الغربية المستقرة فرغم تعرضه لكثير من الأحداث المذهلة إلا أنه ظل مجتمعا متماسكا فليس هناك في العراق من لايعرف نسبه إلى أي بطون القبائل يعود..وعشائر العرب أو الكرد تترابط فيما بينها بقيم عربية صميمة، وهذا ماشكل دوما سياج التصدي لحملات الغزاة والشعوبيين..ومن هذه القيم إحياء شعائر رمضان صياما وقياما وصدقات ..ففي هذا الشهر الكريم تضج مدن العراق الموصل وبغداد والبصرة بالذكر والأدعية والزيارات.. ويتفنن العراقيون في إحياء هذا الشهر بما يجعله فعلا شهرا فاصلا في حياة المجتمع ..حتى جاء الاحتلال الأمريكي بعد حرب استمرت 13 سنة من الحصار والغارات المتلاحقة التي انتهت بتدمير الدولة العراقية وتقويض أسسها الأخلاقية والسياسية ..جاء الاحتلال لينشر الفوضى الثقافية ويقحم الدين والمذهب معركة الاستحقاقات السياسية والتنافسات المصلحة فتمزق المجتمع إلى مذاهب وطوائف تزكي قوى الخيانة والتغريب اوار النار بينها..لقد حلّ الشرخ عميقا بالمجتمع العراقي، وتكونت الأحزاب وتشكلت البرامج على خطابات طائفية وتم تكريس محاصصات طائفية وقومية .. لقد أفسد الاحتلال وأعوانه على العراقيين دينهم وشوّهوا رموزه عندما ركب الكثيرون في عربة المصالح الأجنبية..لقد ضرب المجتمع العراقي بعنف فلقد تم تهجير ملايين الناس إلى خارج العراق، وتم قتل الملايين ونتج عن ذلك ترميل النساء وتيتيم الأطفال بالملايين..إن انقلابا اجتماعيا خطيرا حلّ بالبلد..مئات الآلاف من الموظفين منعوا من مزاولة أية مهنة بتهم الانتماء السياسي ومئات الآلاف بين معتقل أو في مقابر جماعية..ماذا بعد هذا سيكون في العراق..إنهم أرادوها نارا تحرق الأخضر واليابس بفوضى السلاح بيد الميليشيات المازومة أو الشركات الأمنية أو عصابات القتل المجنون ومافرخت في البلد من شتى أنواع الشذوذ..إنهم أرادوا وضع ضمانات لكيلا ينهض العراق ويظل في الدوامة .. دوامة الطائفية والقتل والتفجير . المقاومة واندحار الاحتلال لم ينتظر العراقيون كثيرا فلقد انتفضوا بالسلاح ضد الوجود الاستعماري الأمريكي وتكون الجيوش الأمريكية خسرت عشرات الآلاف من جنودها وضباطها في معركة حامية الوطيس، فيما عاد عشرات الآلاف من جنود أمريكا إلى ديارهم يحملون أمراضا مستعصية من الهلوسة والانفصام وما ساوى ذلك من الرعب والاضمحلال..لقد كانت المقاومة صلبة من البادية في مطالبها ورغم ضعفها الاعلامي وعدم حضورها المكثف سياسيا، إلا أنها ميدانيا أرهقت جيوش أمريكا.. وهكذا أصبح الخيار الأنجع أمام الادارة الأمريكية يتمثل في سحب قواتها وأصبح هو الشعار الذي بموجبه نال أوباما فوزه على الجمهوريين أصحاب خيار الحرب واحتلال العراق..وهكذا سيشهد هذا الشهر الكريم من رمضان انسحاب القوات الأمريكية من ميادين القتال مع بقاء بعضها للحفاظ على المكتسبات الأمريكية وعدم انهيار الأوضاع إلى صورة تكون كارثية على الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة . رمضان دموع وصوم وأمل يلملم العراقيون دمهم بعد أن انفتقت كل الدمامل القومية والطائفية.. ويكتشف العراقيون أن وحدتهم هي حصنهم وأن أي من كل تلك الدعوات لتفريقهم لم يكن مصلحة لها إلا تفتيت قوتهم للسيطرة عليهم جميعا.. ويكتشف العراقيون أن المذاهب والقوميات لاتعصم بنيها وأن الدين الواحد والوطن الواحد هو حبل الله المتين..أجل إن العراقيين يقيمون ليالي رمضان في ظروف أمنية قاهرة وظروف معيشية سيئة، فيكفي أن نعرف أن درجات الحرارة الملتهبة لايقابلها كهرباء في بلد نفطي من درجة ممتازة..رغم ذلك كله فالعراقيون خير من يعلم أن العراق يخرج من تحت الرماد كالعنقاء أو كسيدنا ابراهيم فاللهم يارب تجعل نار العراق بردا وسلاما على أهله الطيبين .. وقريبا موعدنا مع الاستقلال والانتصار .