أكد تصرف إسرائيل الإجرامي تجاه لبنان وفلسطين خلافا تاما حول المصطلحات بين أهل فلسطين ولبنان وأنصارهم من جهة، وبين إسرائيل وأنصارها في الغرب من جهة أخرى. فالغرب كله يقول وبكلمة واحدة إن الجنود الإسرائيليين "اختطفوا" من طرف منظمات المقاومة الفلسطينية واللبنانية، بينما يعتبرهم الطرف الآخر كأسرى حرب. وبطبيعة الحال، يتم التفاوض حول أسرى الحرب لكن التفاوض مرفوض حول الرهائن المختطفين. عابد شارف بينما تقوم إسرائيل بتدمير لبنان من أجل إطلاق سراح عسكريين لأنهم "مختطفون" لا سجناء، وتسرع في عملية تدمير فلسطين المتواصلة منذ عشرات السنين من أجل إطلاق سراح جندي واحد، ينسى العالم كله السجناء الفلسطينيين واللبنانيين في السجون الإسرائيلية، وكأنهم لا يدخلون في نفس المفهوم، بل وكأن هؤلاء عباد وأولئك عبيد. ويمتد هذا الاختلاف إلى كلمات أخرى، فالمقاومة تصبح إرهابا، والاعتداء الإسرائيلي يسمى توغلا، وتحطيم إسرائيل للمنشآت الفلسطينية واللبنانية دفاعا عن النفس، واستعمال الصواريخ والقصف بالمدفعية لمنازل فلسطينية يسمى مكافحة الإرهاب، ليصبح قتل الأطفال والمدنيين خسائر موازية مثلما أكد ذلك منظرو الحرب الأمريكيون من قبل. وتمكنت إسرائيل أن تفرض مصطلحاتها في الغرب، كما فرضت رأيها. وقد تبنى هذا الرأي أقوياء العالم، مثلما فعلت مجموعة الثمانية بلدان الأكثر تطورا خلال قمة سان بيترسبورغ بروسيا، حيث استعملت المصطلحات الإسرائيلية بالحرف الواحد. هذا التطابق بين الموقف الإسرائيلي والغربي أدى إلى إقامة جدار لا يمكن تجاوزه في تعامل الغرب مع العرب وإسرائيل. فإسرائيل تحتل فلسطين، لكن لا أحد يفرض عليها الانسحاب. كما تخلت إسرائيل عن اتفاقيات أوسلو وعن خارطة الطريق، والله يعلم أن الفلسطينيين دخلوها مجبرين، لكن لا أحد يفرض على إسرائيل العودة إلى الاتفاقيات التي تمت تحت رعاية أمريكا نفسها. وإسرائيل تقصف وتضرب وتقتل، لكن الغرب يساند، مثلما فعل جورج بوش، أو يكتفي بالطلب من إسرائيل ألا تبالغ في القتل وأن تحترم نوعا من التوازن، وكأنهم يطلبون من ورثة شارون أن يكتفوا بقتل عشرة فلسطينيين يوميا وتدمير مدينة فقط في الأسبوع. هذا الخلاف أدى إلى نتيجة أخرى، وهي تقسيم البلدان العربية بدورها إلى ثلاثة أصناف: صنف يبقى متمسكا بالمفهوم العربي للكلمات، فهو عند الغرب إرهاب وخطر على الحضارة ويمثل الشر، وصنف ثاني يؤمن بنفس الكلمات لكنه عاجز، فهو ساكت وخارج من المواجهة، وصنف ثالث يتبنى المصطلحات الأمريكية بحجة الواقعية، فيظهر خائنا أو عميلا بالنسبة للرأي العام العربي، بينما يظهر كطرف محترم بالنسبة لأمريكا وإسرائيل. عكس ذلك، تظهر إسرائيل في خطاب الرسميين الغربيين بصورة دولة ديمقراطية، تحترم مواطنيها، وهي مستعدة لتحطيم العالم من أجل إنقاذ ثلاثة جنود، بينما تبقى البلدان العربية بصفة عامة تنكر لسكانها صفة المواطنة. كما أن إسرائيل تقدم جنودها الأسرى في لبنان وفلسطين على أنهم شباب مسالمين يحبون الشعر والفن، مع أنهم شاركوا في عمليات القتل ضد الفلسطينيين واللبنانيين. أما المقاومة، فهي إرهاب لا أكثر ولا أقل، حتى وإن كانت مقاومة من أجل البقاء مثلما هو الأمر بالنسبة للفلسطينيين. ووراء الكلمات، يتأكد الفشل العربي مرة أخرى في تبني موقف منسجم تجاه الوضع في فلسطين ولبنان، والفشل في بناء منهجية سياسية تسمح بإنقاذ ما هو ممكن إنقاذه بعد أن اتضح أن الانتصار لفلسطين ولبنان مستحيل، ولم يتبقّ سوى محاولة التقليل من الخسائر. وبعد هذا الانهيار، لم يبق في المواجهة الصريحة ضد إسرائيل إلا الإسلاميون سواء في لبنان أو فلسطين. وقد ركب هؤلاء موجة المواجهة وفق معطيات خاصة تنقذ شرف العرب لكن لا أحد يضمن أنها ستكون ناجحة. وبعد أسبوعين من اندلاع هذه الموجة الجديدة من الاعتداءات الإسرائيلية، لا أحد يستطيع أن يحدد بالضبط أهداف حماس وحزب الله، وهل تتوفر المنظمتان على الوسائل الضرورية لتحقيق أهدافهما، مع أن هناك إجماع لدى المحللين للقول إن حزب الله ربما يستطيع أن يحقق أهدافا مرحلية بثمن غالٍ جدا، لكنه لن يتمكن من تحقيق أهداف استراتيجية لأنه لا يكسب العمق الضروري سياسيا وعسكريا واستراتيجيا. وقد لاحظ الكثير أن فشل حزب الله بدأ يتضح في نقطتين، حيث أن إسرائيل تجاوزت الأزمة الحالية لتبحث عن أهداف أخرى لم يخطط لها حزب الله، مثل تغيير ميزان القوى في المنطقة ولفت الانتباه عن المأزق الذي أدت إليه السياسة الإسرائيلية، كما أن أحداث لبنان غطت أحداث فلسطين. ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك، حيث يرون أن المنظمات الإسلامية التي لجأت إلى العنف أنهكت البلدان التي برزت فيها، سواء دفعتها إلى حرب أهلية مدمرة مثلما كان الحال في الجزائر ولبنان وغيرها، أو وصلت إلى الحكم فكانت سببا للانهيار الداخلي أو سببا للاحتلال مثلما كان الحال للسودان وأفغانستان. ودون أن ندخل في جدل حول الدجاجة والبيضة، يمكن أن نلاحظ أن التعامل الغربي والإسرائيلي مع العرب يشكل العالم الأساسي لبروز العنف. والعنف نوعان، يجب أن نفرق بينهما دون أي مركب نقص، حيث فيه ما يسمى بالإرهاب، وهو العنف الذي لا يتضمن محتوى سياسيا إيجابيا، ولا يهدف إلى تحقيق فكرة عادلة ومقبولة. أما الصنف الثاني من العنف، فهو ما نسميه بالمقاومة، سواء كانت لبنانية أو فلسطينية أو عراقية، وهو العمل العسكري الذي يستعمل وسائل الضعيف أمام القوي الطاغي، ويهدف إلى تحرير بلد من الاحتلال. ولا يمكن لمن عاش حرب التحرير الجزائرية، ولمن يعتبر نفسه وريثا لمبادئها، أن ينكر ذلك. وقد لخص المرحوم محمد يزيد هذه الفكرة في عبارة لما سئل عن أسباب مساندته للإرهاب الفلسطيني حيث قال: أنا إرهابي متقاعد.