بعد أن وجلت إلى بيتي ومثُلت أمام تماثيلي، سكنت نفسي، وهدأ خاطري، وغمر كياني شعور جديد.. وأحسست بقطرات باردة، عذبة تنسكب على قلبي، فتبخّرت حرارة الحزن، وتصاعد لهيب الزفرات. وتولّد مع خبو الألم بلسم مهدئ.. كلّه عذوبة. وأحسست بتحدٍ وجرأة وإصرار.. وبشعور يكاد أن يقفز بي في الهواء، ويمتطي سرورا عجيبا انتقل بسرعة من مسارب الكيان إلى شهود الظاهر، ليملأ فضاء النفس والمكان بمعان ومشاعر قوية واثقة شابة. فقلت في نفسي: - "إن قبضة التراب وحفنة الحجارة أسمى من روح سقيمة وقلب مريض.. - وهي أعز من كيانٍ خَرب لم يذق لوعة الحب العذب، ولم يسبح في خياله الرائق البشوش..!! - فليذهب ذلك الأبله اللعين إلى الجحيم.. فالأيام بيننا.. - لا يهمني موضوع الزواج في الوقت الراهن.. - كما لا يعقل أن أُصاهر مثل هذه النماذج البشرية المثبطة للعزائم، والمحبطة للآمال.. - ولا ينبغي أن أعبأ بكلامهم وتقويمهم للأشياء، وتصورهم عن الناس والحياة. - أنا بفني وتماثيلي، وبجهدي وأشواقي أغنى منه، وأفضل من أمثاله. * * * مع مرور الأيام، اندمل الجرح.. بعد أن نثرت أشغال الحياة وأعمال الفن على أوراق الأيام الأنسَ والرضا.. ومنحتني جوا حميميا كفاني شرّ مخالطة الناس.. وأغناني عن الاكتواء بنارهم. أهازيج الأمل صدق العرب حينما قالوا: - " دوام الحال من المحال." نعم كيف يتأتي ذلك.. ونحن نعيش في دنيا دائمة الركض وكثيرة التقلب..!!؟ إنْ بدت لساعة ما ساكنة مُهادنة، فما ذلك إلا استعداد منها لتُدْخِل ذلك الآمن الساذج في معترك ضخم.. معترك تشتد فيه رياح الأحداث الهوجاء؛ وتتصارع فيه أمواج النوائب العاتية. فتأتي على خضرة الحياة وحلاوتها.. وقد تقتلع حتى ذلك الفرع الطري أو تُكسر ذلك الساق اليابس المركون في زاوية من العمر.. وقد تجتث كل ما ألقي هنا وهناك على صفحات الأيام. * * * كانت أول خطوة خطوت بها نحو معترك حياتي. ووجدت نفسي فيها داخل ساحة المعارك، حينما خطر ببالي ذات يوم أن أنحت تمثالا بحجم الإنسان. قررت أن أحشد في هذا الشكل كلّ الحواس والأفكار والمشاعر والأشواق.. لأصنع أبدع ما في الأنوثة من رقةٍ وجمالٍ وسحر وبهاء.! أذكر أن الزمن المستغرق بين تصور الفكرة وتجسيدها لم يدم طويلا. لأنني تحمست للفكرة كثيرا.. وبدأت مرحلة التجسيد بعزم ونشاط، وبشعور قوي عنيف.. حاولتُ أن أضعَ في كلِّ جزءٍ أنحته خلاصةَ فني، وقمة تجربتي، وأوج معرفتي. لقد كنت، في حقيقة الأمر أجسم خلاصة حسِّي وجوهر أشواقي. لذلك جاء التمثال إلى الدنيا. وكأنه قد زُفّ في موكبٍ عرائسي بهيج.. كانت كل قطعة فيه تكاد تنطق بروعة الحسن، وجمال الأداء، ودقة التصميم. كان.. كأنه زغاريد ربيعٍ ضاحكٍ تكلّم على لسان الأطفال. أو رقصات أعشاب طرية ندية على أنغام الأنسام. وكأنه قبلات الشروق تزينت بها وجنتي الورود. كدت أحلّق عاليا في سماء طليقة من شدة الفرحة. كنت فخورا بثمرة مجهودي. * * * كنت كلما استيقظت في الصباح، أو رجعت من شغل، أو فرغت من أيّ عمل؛ اتجهت مباشرة صوب التمثال، طلبا للأنس برفقته. وربما لأسكب سحره في نفسي. وأصغي إلى همساته الشذية الدافئة.. بل كنت أحيانا - ولسذاجتي- أحدثه.. ثم أضحك من نفسي. وأحيانا أوبخها على بساطتها المفرطة.. ثم لا ألبث أن أعاود الكرة، مثل الصبي الشقي الذي يعبث بالأشياء، وتعبث به.. وتدعوه براءته لضمِّ ألعابه وأشيائه، ومداعبتها برفق وحنان.. فما أسعد عناء الإنسان حينما يكون له في هذه الدنيا صدر حنون يأوي إليه، يمسح عنه عرق التعب والمكابدة.، ويبث في أقطار حياته تباشير الأمل والرجاء. حاز التمثال البديع مكانة كبيرة داخل حياتي. أصبح مظهره البشوش بريد اهتمامه بأفكاري وخواطري.. فهو يقف بثبات في ذلك المكان البارز لمشاركتي أفراحي ومواساتي في أتراحي.. كانت "صاحبته" تشجعني بابتسامتها المعهودة الهامسة بالحنان والأمان على مواصلة الجهاد والتحدي.