سالت دماء ..دماء كثيرة ، في بنغازي والزاوية ومصراتة وغيرها من مدن وقرى ليبيا التي أنهكتها ستة أشهر من القتال والتقاتل بين الإخوة الأعداء..والفصل الأخير انتهى هناك في قلب الساحة الخضراء التي اختارت لها المعارضة اسما جديدا تيمنا بالنصر «المؤزر» على القذافي..من اليوم وصاعدا بات اسمها ساحة الشهداء ؛ لكن سؤالا لا ينقصه اللؤم طرحته نيويورك تايمز في عدد اليوم الموالي لسقوط طرابلس..انتهى نظام القذافي من فوق أرض ليبيا..لكن ؛ أيها الليبيون وماذا عن الأنهار السوداء تحت هذه الأرض..؟ إنها القصة المؤلمة ذاتها..أينما تفوح رائحة النفط تفوح معها دماء أهل البلاد وبعدها رائحة عطور السادة الجدد الذين ينصبهم الغرب على أعناق شعوب أنهكها ضيم ذوي القربى وتدخلات ومؤامرات مستعمر ينجح دائما في اللعبة ذاتها..الحصول على الكلمة الفصل في لعبة النفط..وقد بدأت الحكاية ذاتها من جديد في بلد النهر العظيم والجرح الأليم..
تؤكد تقارير صحافية أن هناك تنافسًا محمومًا من قبل الدول الغربية للحصول على الثورة النفطية في ليبيا، وخصوصاً دول حلف شمال الأطلسي التي قدمت الدعم للمعارضة الليبية، حيث تحاول التأكد من أن شركاتها ستحظى بمعاملة الدرجة الأولى في ضخّ النفط الليبي الخام. أشارت صحيفة ال "نيويورك تايمز" إلى أن القتال لم ينته بعد في طرابلس، إنما يمكن الاعتبار أنه بدأ للتو في ظل التنافس المحموم للحصول على الثورة النفطية في ليبيا، وأضافت الصحيفة: "قبل اندلاع التمرد في فبراير، كانت ليبيا تصدّر 1.3 مليون برميلاً من النفط يوميا"، مشيرة إلى أن استئناف إنتاج ليبيا للنفط من شأنه أن يساعد على خفض أسعار النفط في أوروبا، وكذلك أسعار البنزين على الساحل الشرقي للولايات المتحدة بشكل غير مباشر. واليوم تريد الدول الغربية - وخاصة دول حلف شمال الأطلسي التي قدمت الدعم الجوي للمعارضة- أن تتأكد من أن شركاتها النفطية ستحظى بمعاملة الدرجة الأولى في ضخ النفط الليبي الخام. وقال وزير خارجية ايطاليا فرانكو فراتيني في مقابلة للتلفزيون الحكومي يوم الاثنين الماضي أن شركة النفط الايطالية (ايني) "سوف تكون في المرتبة الأولى في المستقبل في مجال استيراد النفط من ليبيا"، مضيفاً أن الفنيين والعاملين في شركة (ايني) في طريقهم إلى شرق ليبيا لإعادة الإنتاج، إلا أن الشركة نفت الخبر، لأن الأوضاع لم تستقر بعد. وشهد إنتاج النفط الليبي تراجعاً إلى حد كبير خلال الصراع الطويل بين المتمردين والقوات الموالية للزعيم الليبي العقيد معمّر القذافي. وكانت الشركات النفطية في فرنسا وبريطانيا واسبانيا والنمسا من المستوردين الأساسيين للنفط الليبي قبل اندلاع القتال، واليوم بدأت هذه الدول ببذل الجهود لاستعادة موقعها القوي ما إن ينتهي القتال. لكن صحيفة ال "نيويورك تايمز" أشارت إلى أنه من غير الواضح ما إذا كانت الحكومة الجديدة ستحترم العقود التي وضعت من قبل نظام القذافي أو إنها ستستخدم نهجاً جديداً في التفاوض واتفاقات اقتسام الإنتاج مع شركات الراغبة في الاستثمار في حقول النفط القائمة والجديدة التي ستكتشف. قبل توليهم السلطة، قالت المعارضة إنهم سوف يتذكرون أصدقاءهم وخصومهم في التفاوض على صفقات جديدة لإنتاج البترول. ونقلت الصحيفة عن المتحدث باسم المتمردين في شركة أجوكو الليبية للنفط، عبد الجليل المعيوف، قوله "لا توجد لدينا مشكلة مع الدول الغربية مثل ايطاليا وفرنسا والشركات في المملكة المتحدة البريطانية، لكن قد يكون لدينا بعض المشاكل السياسية مع روسيا والصين والبرازيل". لم تؤيد روسيا والصين والبرازيل فرض عقوبات قوية على نظام القذافي، بل دعمت جهود التفاوض للتوصل إلى نهاية للقتال، وتسعى هذه الدول الثلاث إلى عقد صفقات في إفريقيا في مجال استيراد النفط وإنتاجه. وأشارت ال "نيويورك تايمز" إلى أن استئناف التصدير على نطاق واسع يعتمد على مدى السرعة التي يمكن أن يتم فيها إصلاح المنشآت النفطية في رأس لانوف ومليتة ومحطات تصدير النفط في سدر، إضافة إلى تشكيل حكومة جديدة قادرة على تأمين الحماية في حقول وأنابيب النفط في المناطق التي تدعم نظام القذافي. من خلال تاريخ النفط، تظهر المعارك التي تمّ خوضها للاستحواذ على هذا المورد الاستراتيجي والطريقة التي ثبّتت فيها الشركات الغربيّة موطئ قدمها في ليبيا. قبل التدّخل الحالي بكثير. المسألة تبدو عصيّة على الإدراك، فشركاؤه القلائل اعتبروا أنّه يصعب توقّع ردود أفعاله وأنه يفتقر إلى التماسك ويمعن في النزوات. وفي العام 1986، نعته الرئيس الأمريكي رونالد ريغان ب"كلب الشرق الأوسط المسعور"، قبل أن يرسل الأسطول السادس ليقصف ليبيا ويفرض عليها حصاراً نفطيّاً قاسياً، كان الرجل منبوذاً آنذاك... ومع ذلك، نجح العقيد معمّر القذّافي، بعد عشرين عاماً، في إعادة بلاده إلى طليعة قائمة الدول المصدّرة للنفط الخام، وذلك بفضل شركات النفط الأمريكية الكبيرة أيضاً. فكيف كان لهذا الإنجاز أن يتحقق؟ لا شك أن " المفارقة قديمة؛ ففي العام 1951، ارتقت ليبيا التي سميت طويلاً "مملكة الفراغ" إلى الاستقلال وسط حرمان كامل، وجاءت ثمرة الوحدة الغريبة بين الإمبريالية البريطانية المتراجعة وأخويّة إسلامية صحراوية، هي السنوسية (التي تحدّر منها الملك). وماذا كانت صادرات البلد؟ الحديد الخردة المجمّع من أرض المعركة بعد الحرب العالمية الثانية. أشارت أعمال الجيولوجيين الإيطاليين في الثلاثينات - التي تابعها خبراء الجيش الأمريكي - إلى احتمال وجود النفط في جوف أراضي هذه البلاد الشاسعة (1.7 مليون كم2). وشكّل قانون النفط المعتمد في العام 1955، قطيعةً مع قاعدة صاحب الامتياز الوحيد في كلّ بلد، الذي ساد حتّى ذلك التاريخ في الشرق الأوسط: الشركة الأنكلو-إيرانية في إيران، "أرامكو" في السعودية، أو "شركة نفط العراق" في العراق،على العكس، باتت الامتيازات في ليبيا محدودة الزمان (خمسة أعوام) والمكان. ويوم استخرج النفط تبيّن كم كان هذا الخيار صائباً. انطلقت الاستثمارات بقوّة مع حوالى عشر شركات، وبعد ستّة أعوام، في 1961، دشّنت "إكسون" مصبّ مرسى البريقة، حيث تمّ تحميل أوّل شحنة. وفي أقلّ من خمس سنوات، تجاوز الإنتاج المليون برميل يوميّاً، وهو أمرٌ غير مسبوق. في العام 1962، كانت 19 شركة تعمل على الأرض، وارتفع العدد عام 1968 إلى 39. هكذا ولد نموذج نفطيّ جديد، سيفرض نفسه شيئاً فشيئاً في سائر أنحاء العالم. فور وصوله إلى السلطة، بعد انقلاب الأوّل من سبتمبر 1969، استلم العقيد القذافي المبادرة، وسعى للحصول على أعلى أسعارٍ للنفط الخام، وبناء على نصائح رئيس الوزراء السعودي، عبدالله التريكي المعروف باسم "الشيخ الأحمر" (الذي كان الملك فيصل، 1964-1975، قد أبعده بسبب جرأته)، لعب على وتر المنافسة بين الشركات، فأوجد تعارضاً بين الأكبر بينها، "إسّو"، وأخرى صغيرة مستقلّة، "أوكسيدنتال"، وخفض بقرارٍ إلزامي الإنتاج اليوميّ إلى النصف كي ينتزع المزيد من المداخيل للدولة. كان بإمكان الأولى استبدال النفط الخام المحلّي بإنتاجها في بلدانٍ أخرى، أمّا الثانية فكانت الحلقة الأضعف، خصوصاً وأن الشركات السبع الكبرى في العالم رفضت تزويدها حتّى ببرميلٍ واحد. وكان المفاوضون الليبيون يقولون ساخرين بأنها "وضعت كلّ بيضاتها في سلّةٍ واحدة". أعلنت الشركة استسلامها، ومع إقفال قناة السويس، استسلم "الكارتل" بدوره في سبتمبر 1970، لترتفع الأسعار والضرائب فجأة بنسبة 20 في المائة. هكذا تمّ تقديم المثال البرهان للبلدان المصدّرة الأخرى: من الأفضل تنويع المشغّلين، ومن الحكمة خلق توازن في شأن حضور الشركات الدولية الكبرى من خلال شركات أخرى أكثر تواضعاً لا تملك موارد بديلة. هكذا برزت بهذه الطريقة الشركات المستقلّة على الساحة وتلك التابعة للدول الأوروبية. كان القذافي ومجلس قيادة الثورة الذي يرأسه، وبتأثير من الرئيس المصري جمال عبد الناصر، عازمون على استرداد الثروات الوطنية، لكنّهم توقفوا ملياً عند تجارب لم تنجح مثل مصير رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدّق، الذي أسقطته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، ال"سي أي آي"، عام 1953، بسبب تجرؤه على التعرّض للشركة الأنكلو-إيرانية. هنا أيضا، فصّلت طرابلس على قياسها، ففي ديسمبر 1971، احتلّت قوات الشاه جزر طنب وأبو موسى في الخليج، عشيّة انسحاب القوّات البريطانية من المنطقة. ولمعاقبة بريطانيا لسماحها باحتلال هذه الأراضي، تمّ في طرابلس تأميم شركة "بريتيش بتروليوم". كانت الحجة دقيقة ولكنّ التحدي كبير: كون "بريتيش بتروليوم" كانت تملك القسم الأكبر من حقل صرير، الأكبر في البلاد. بعد معركةٍ قانونيةٍ صاخبة، تم التوصّل إلى اتفاق استعادت بموجه ليبيا كامل الحقل النفطي... عند كلّ مواجهة، كان يجري السيناريو نفسه، يعاني التقنيون الأجانب من المضايقات والإزعاج، فيتباطأ العمل في المنصّات النفطية ما يؤثّر على الإنتاجية. يؤدّي ذلك إلى نفور شركات "غولف"، "فيليبس"، "أموكو"، "تكساكو"، "سوكال" وغيرها، ومغادرتها واحدة تلو الأخرى حقولها (والبلاد). ولم تجد الشركة العامة الوطنية للنفط والمدرّبة على الطريقة الأمريكية، صعوبة في استعادة الاستثمار. وخلال عشرة أعوام، تضاعفت خمس مرات إيرادات ليبيا لتصل إلى 10 آلاف دولار للنسمة عام 1979. ستأتي المصاعب من الجانب السياسي. ففي ديسمبر 1979، أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية أوّل لائحة بالدول الداعمة للإرهاب، احتلّت بينها ليبيا مكاناً بارزاً بسبب دعمها الفصائل الفلسطينية . وبعد فترة وجيزة، أقفلت واشنطن سفارتها في طرابلس ومنعت مواطنيها من شراء الخام الليبي. أخيراً، وفي جوان 1986، اعتبرت كلّ تجارة مع "الجماهيرية" (تعبير مشتقّ من "الجمهورية" و"الجماهير") خارجة على القانون الأمريكي. أدّت عملية تفجير طائرة البوينغ 747 التابعة لشركة "بان أميركان" فوق لوكربي، في 21 ديسمبر 1988، ومن بعدها الاعتداء على طائرة "دي سي 10" لشركة UTA الفرنسية، في نوفمبر 1989، إلى عقوبات دولية ستؤثّر على الصناعة النفطية الليبية. وسيضاف إلى ذلك صعوبات أخرى مثل تراجع الأسعار العالمية للنفط الخام، وثقل المشاريع الفرعونية الكبيرة أو تفكّك الاقتصاد الوطني إثر تطبيق توصيات "الكتاب الأخضر": وهو نوعٌ من منشور طويل وغامض ذو طابع فوضوي-اشتراكي بتوقيع مرشد الثورة، الحالم ب"الطريق العالمية الثالثة"، بين الرأسمالية والماركسية. وإذا كانت الشركة الوطنية العامة لم تجد صعوبة في دخول أسواق جديدة في أوروبا وتركيا والبرازيل، لاستبدال ما خسرته على الجانب الآخر من الأطلسي، أدّى الحصار إلى تخريب مشاريع التطوير في التنقيب والبتروكيمياء والغاز الطبيعي. وبسبب عجزها عن استقطاب الرساميل الغربية والتقانات والمهارات والتجهيزات الأمريكية الصنع، توقّفت المشاريع الكبرى.. هكذا نشأت بعض الشبكات في سبيل الالتفاف على الحظر، عبر تونس أو مصر؛ لكن ثمن الشطّار المجنّدين على ضفّتي المتوسط كان باهظاً. فأصغر برميل كان يسعّر بخمسة أو ستة أضعاف ثمنها قبل العام 1968. هرمت الحقول وبات إلزامياً إعادة إطلاق عمليات التنقيب بسبب خطر انهيار الإنتاج. كانت الحقبة بين 1992 و1999 بالغة القسوة، انهار نموّ الاقتصاد (+0،8 في المئة سنويّاً) وتراجع الدخل الفردي بنسبة 20 في المائة. هكذا ارتفعت وتيرة التذمّر واندلعت تحرّكات في المنطقة الشرقيّة (برقة)، كما تكاثرت المحاولات للإطاحة بالنظام. آن الأوان للقذافي كي يستسلم، فلم يتراجع عن المهانة في تسليم السلطات البريطانية عملاءه المتهّمين بتفجير طائرة لوكربي، وعوّض بسخاء على الضحايا البالغ عددهم 270 (وبنسبة أقلّ لضحايا ال"دي سي 10" التابعة لشركة UTA وعددهم 170). وبعد 11 سبتمبر 2001، اصطفّت طرابلس خلف واشنطن في في حروبها ضد الكثيرة من دون سؤال، كما تخلّى القذّافي، أخيراً، وبصورة علنية، في العام 2003، عن رغبته في تزويد بلاده بالسلاح النووي، بعد أيامٍ على دخول الدبابات الأمريكية العاصمة العراقية بغداد. في 13 نوفمبر 2003، تمّ رفع آخر تدابير الحصار الدولي، وانفتح الطريق أمام إعادة انطلاق الصناعة النفطية. أمل القذافي بمضاعفة الإنتاج بسرعة لإيصاله إلى أكثر من ثلاثة ملايين برميل يومياً، ما يجعله مساوياً لإيران وعضواً فاعلاً في منظّمة الدول المصدّرة للنفط، أوبيك، الكارتل الذي يوجّه أسعار الذهب الأسود، هكذا طرحت الشركة الوطنية الليبية للنفط في مزادٍ علني في أوت 2004، خمس عشر منطقة تنقيب. فكانت "الهجمة". أبدت 120 شركة اهتمامها، ومن بينها عدّة شركات أمريكية وبريطانية عملاقة كانت قد غادرت ليبيا عام 1986 دون أن تتعرّض للتأميم. حصل الأمريكيون ("أوكسيدنتال"، "أميرادا هيس"، شفرون تكساكو") على 11 رخصة من أصل 15. وكان من الواضح بأنّ أولويّة السلطة كانت تذهب نحو فسح المجال لمساهمة الشركات من الجانب الآخر للأطلسي، وذلك على حساب الشركات الأوروبية، مثل "توتال"، التي كانت دعمت ليبيا خلال فترة العقوبات. من جهتها، كانت الشركات الدولية تنتظر بفارغ الصبر، ولو إن الشروط كانت قاسية - 130 مليون دولار تُدفع عند التوقيع، وحدّ أدنى من 300 مليون دولار كنفقات تنقيب - والمردود متواضع. حسب الأوساط المهنيّة، سيتبقّى لهم في أفضل الأحوال نسبة 38،9 في المائة من الإنتاج، وفي مطلق الأحوال 10،8 في المائة. لكن من أين تأتي هذه الجاذبية المتبادلة والمستديمة بين الشركات، من أصغرها إلى أكبرها، وبين بلدٍ صعب المراس مثل ليبيا؟ لا شكّ أن نفطه الخام ممتاز وحقوله قريبة من مراكز التكرير الأوروبية، وهي من الأهمّ في العالم. هكذا يمثّل النفط الليبي اليوم حوالي 15 في المائة من الاستهلاك الفرنسي، وأقلّ من 10 في المائة من الاستهلاك الأوروبي. لكن المهم أن ميزان القوى قد انقلب خلال نصف قرن، ففي العام 1960، كانت الشركات الأكبر، المايجورز، وأكثريتها أنكلو-ساكسونية تسيطر على الجزء الأكبر من إنتاج البلدان غير الشيوعيّة. أمّا اليوم، فقد حلّت محلّها الشركات الوطنية للبلدان المنتجة. وإذ باتت تملك باطن الأرض، فإنّها تتحكم أيضاً بالوصول إليه، ولو أنّها ما تزال بحاجة للشركات الدولية في جانبٍ أساسي من النشاط النفطي، وهو التنقيب واستكشاف حقولٍ جديدة. فالبحث عن النفط تشوبه المخاطر، ويكلّف كثيراً، فيحتاج إلى رساميل ضخمة ومعارف تقنيّة متطوّرة. ولا تملك الشركات الوطنية لا هذا ولا ذاك. ما تربحه من أموال يُنفق أساساً خارج الصناعة النفطية الوطنيّة (عائلة القذّافي، 5 أبناء وابنة، تأخذ أكثر من حصّتها بكثير) بينما لا تتجاوز دائرة نشاطها الخاصّ حدود بلدانها. وفيما يتجاوز عمليات الطرد والثورات والتأميم، لا مفرّ من لقاءٍ متجدّد بين الفريقين، بوجود القذافي أم في غيابه.
ارتاح الليبيون من معمر القذافي.. هكذا هي حكاية التاريخ. ويمكن للبعض أن يعبّروا عن بهجتهم بالتخلص من عميد الرؤساء العرب، لكن ملك ملوك أفريقيا لم يسقط برصاص أهله. ناسه لا يحبونه، ولا يريدونه، ولا يقدر أحد على التشكيك بذلك، لكن الناس احتاجوا إلى عون. وهذه المرة، كان الغرب، الاستعمار نفسه، هو المعين، وهو الذي سيعيد معنا الفيلم ذاته.. استعمار جديد، بشكل جديد، وبوجوه جديدة. وأهل ليبيا سيرفعون بوجه الجميع اليوم شعار: ليبيا أولاً. سيقولون للعرب إنكم لم تقفوا إلى جانبنا في مواجهة الطاغية. وأنتم من دفعتمونا إلى أحضان الغرب، وإن عجزكم وتمثل حكوماتكم بحكومة المجرم عندنا حالا دون أن نخرجه بأنفسنا، أو بدعم من أهل جلدتنا. وسيكون من الصعب على مواطن ليبي، مضطهد من القذافي وأعوانه، أن يخرج الآن، في أي مكان من ليبيا ويصرخ: لا أريد الأطلسي بيننا..
هذه هي الحقيقة القاسية التي سنكون في مواجهتها ليل نهار، في شمال أفريقيا الذي قرر الأطلسي غزوه من جديد، مباشرة هذه المرة، بالنار وبموافقة أهله. وسيقوم الأطلسي بمحاسبة، مع مفعول رجعي، للذين لم يستأذنوه بإسقاط زين العابدين بن علي وحسني مبارك. وسيعاود إفهام من لم يفهم بأن إزالة الأنظمة أو تثبيتها لا يتمان إلا بأمرنا، وبإرادتنا وبعلمنا، وبحسب ما نرغب نحن، وبالطريقة التي نحددها. كل الوقائع التي قامت في ليبيا منذ خمسة شهور تقول لنا إن قادة الغرب، الذين عانقوا القذافي ومدوا أيديهم إلى جيبه المليء بثروات أهل بلده، هم أنفسهم الذين يعانقون اليوم الثوار، ويمدون أيديهم إلى الثروات مباشرة،. ولن يسمحوا لأحد من أبناء البلد بأن يظل صوته مرتفعاً، سيأتون بالكوادر والقيادات من أبناء ليبيا الذين اختارتهم أجهزة الغرب ليتولوا المناصب الحقيقية. وسيجري تسريح من قاد التظاهرات والانتفاضات الشعبية باحتفالات مشرفة، مع أعلى قدر من الأوسمة التي تركها القذافي في خزائنه. ومن لا يريد أن يسمع، فليستعد عبارات مصطفى عبد الجليل قبيل سقوط حصن العزيزية، بينما كان الثوار يطاردون رجال القذافي في شوارع طرابلس، وهو يصرخ محذراً من الفوضى، ونافضاً يده من مجموعات متطرفة قال إنها تعمل بمنطق الثأر والانتقام. وهو الذي يعرف أن دوره قد انتهى، وما بقي منه إجراء هدفه تسليم البلاد إلى من يقرر الأطلسي ومعه أزلامه في الممالك السوداء اختياره في منصب القرار. وحده جيفري فيلتمان يتلقى الآن برقيات التهنئة، وهو الذي سيعمل على تنفيذ ما لم يفلح في تحقيقه في لبنان، وهو الخادم الأمين لمصالح إسرائيل، ربما قبل مصالح الولاياتالمتحدة نفسها. ارتاح الجميع من القذافي. صار الرجل عبئاً على كل شيء في حياة شعبه. على الهواء، وعلى الصحراء أيضاً. وصار عبئاً على أي تفكير منطقي. لكن الصور الزاهية الآتية من طرابلس، والحاملة انفعالات أشخاص سرقت كل انفعالاتهم لعقود عدة، هي الصور الأخيرة من مشهد الثورة الشعبية، لأن الآتي بعدها صور مختارة بعناية، يسمح بقدر منها للعموم، أما البقية، فهي صورة الاستيلاء على مقدرات بلاد وشعب مقهور.