وقف إطلاق النار في غزة لن يكون شاملا إلا إذا استند إلى عملية سياسية تحقق التسوية النهائية للقضية الفلسطينية    الصحراء الغربية : صحفيون وناشطون عرب يتبرؤون من موقف اتحاد الصحفيين العرب    تعزيز آليات التمويل وترقية الإطار التنظيمي والرقمنة والتكوين أهم توصيات الجلسات الوطنية للسينما    العاب القوى/ البطولة الافريقية 2025 لأقل من 18 و20 سنة : مدينة وهران مرشحة لاحتضان الحدث القاري    البطولة الوطنية العسكرية للعدو الريفي : تألق عناصر مديرية الإدارة والمصالح المشتركة لوزارة الدفاع    نص القانون الجديد لتسيير النفايات: تحويل مفهوم النفايات من إشكالية إلى مواد أولية قابلة للتثمين    مشروعا قانوني البلدية والولاية: صلاحيات أوسع للمنتخبين وتسيير عصري للجماعات المحلية    بورصة الجزائر: انطلاق عملية فتح رأسمال بنك التنمية المحلية ببيع 44.2 مليون سهم جديد    رئيس الجمهورية يستقبل رئيس حزب "صوت الشعب"    "وهران: إطلاق مخبر البحث المختلط "الحوكمة ومكافحة الفساد    تلمسان.. جمع أزيد من 25 ساعة من الشهادات الحية حول الثورة التحريرية المجيدة    ربيقة :الاهتمام بالذاكرة الوطنية و أمنها واجب وطني مقدس    ممر الهيدروجين الجنوبي: السيد عرقاب يشارك غدا الثلاثاء بروما في اجتماع وزراء الطاقة المعنيين بالمشروع    الحماية المدنية: اجتماع اللجنة الثنائية المشتركة الجزائرية-تونسية بولاية الوادي    المجلس الشعبي الوطني: وفد عن البعثة الاستعلامية المؤقتة للجنة الشؤون الاجتماعية في زيارة إلى باتنة    وهران..ترحيل إحدى عشرة عائلة إلى سكنات لائقة بوادي تليلات وبئر الجير    وزير العدل يعقد اجتماعا مع الوزيرة المحافظة السامية للرقمنة    صحبي: خطاب رئيس الجمهورية التاريخي في الجلسات الوطنية للسينما يؤسس لثورة ثقافية حقيقية للفن السابع    الجوية الجزائرية: على المسافرين نحو السعودية تقديم شهادة تلقي لقاح الحمى الشوكية رباعي التكافؤ بدءا من ال10 فيفري    رئيس الجمهورية: كل رموز المقاومة والثورة التحريرية المجيدة يجب أن ينالوا حقهم من الأعمال السينمائية    الجوية الجزائرية: المسافرون نحو السعودية ملزمون بتقديم شهادة تلقي لقاح الحمى الشوكية رباعي التكافؤ بداية من 10 فبراير    مشروع توسعة السد الأخضر يتقدّم..    وقف إطلاق النار مصلحة كبرى للجميع    سكان غزّة يحتفلون ببدء الهدنة    فاتورة استيراد زيوت المحركات تتراجع    قانون المالية يخصص تدابير جبائية    لا تساهل مع كل أشكال المضاربة والاحتكار    الطارف… الإطاحة بشبكة إجرامية تنشط في الاتجار بالمؤثرات العقلية    الأونروا لن تدخر جهدا من أجل التخفيف من معاناة الفلسطينيين    مسابقة لتوظيف الطلبة القضاة    رمضان في القصر خلال مارس    الجزائر تشهد حركة تنموية رائدة    الجزائر تخسر أمام تونس    صهاينة يدنّسون الأقصى    رئيس الجمهورية: كل رموز المقاومة والثورة التحريرية المجيدة يجب أن ينالوا حقهم من الأعمال السينمائية    سينمائيون يشيدون بعناية رئيس الجمهورية لقطاع السينما    الجزائر تحقق إنجازا مهما على الساحة الدولية    تقليص مدة الاستجابة لنداءات الاستغاثة    أنشيلوتي مهدَّد بالإقالة    60 منصبا تكوينيا في طور الدكتوراه بجامعة وهران 1    استلام محطة تصفية المياه المستعملة السداسي الثاني من 2025    الأسواق الإفريقية والآسيوية وجهات واعدة للتصدير    تلاميذ تقرت وسطيف في ضيافة المجلس الشعبي الوطني    وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ    عروض كثيرة لحاج موسى    ديدوش مراد صنع مجد الجزائر    غزة: بدء دخول شاحنات المساعدات إلى القطاع عبر معبر رفح    الجلسات الوطنية للسينما: بللو يبرز دور الدولة في ترقية المشهد الثقافي    جيدو/البطولة الوطنية فردي- أكابر: تتويج مولودية الجزائر باللقب الوطني    ريان قلي يجدد عقده مع كوينز بارك رانجرز الإنجليزي    بلومي يباشر عملية التأهيل ويقترب من العودة إلى الملاعب    بلمهدي: هذا موعد أولى رحلات الحج    رقمنة 90 % من ملفات المرضى    المتحور XEC سريع الانتشار والإجراءات الوقائية ضرورة    كيف تستعد لرمضان من رجب؟    ثلاث أسباب تكتب لك التوفيق والنجاح في عملك    نحو طبع كتاب الأربعين النووية بلغة البرايل    انطلاق قراءة كتاب صحيح البخاري وموطأ الإمام مالك عبر مساجد الوطن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البنت المدللة تغرد خارج سرب الأم العجوز..

أمريكا وأوربا..بين وشائج ذوي القربى ووشاية أهل السياسة

على بساط ملكي قطع خطواته..بقامته الفارعة وسحنته السمراء وابتسامته المرسومة بحنكة من علمه الزمن فنون التأنق والتألق وقف أوباما ذات نوفمبر 2008 أمام أنصاره شاكرا ومحييا على الدعم والمساندة..كان فوز هذا «الزنجي» في بلد خبر العنصرية بشكلها المقيت لعقود طوال إيذانا بعودة أمريكا الجديدة إلى صدارة المشهد..وظن حتى ألد أعداء «الشيطان الأكبر» كما كان ينعتها «أسامة بن لادن» أن الحلم الإمبراطوري الأمريكي قد ضخت فيه دماء جديدة..وأن أمريكا عائدة من جديد.
اليوم والعهدة الأولى للرئيس الشاب توشك على الانقضاء تبدو الولايات المتحدة أشد وهنا وعجزا مما كانت عليه في السابق..أعراض كثر تشي بأن جسد القارة الجديدة دبت في أوصاله أمراض الإمبراطوريات..وبات السؤال فقط متى يعلنون الوفاة..؟
بمناسبة الذكرى العاشرة لتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر «الأيام الجزائرية» تفتح ملف قصة الحلم الإمبراطوري الأمريكي وتطرح التساؤل : كيف صعد نجم أمريكا على مسرح الأحداث وهل كانت الإمبراطورية الأمريكية وفية لتقاليد وأعراف الإمبراطوريات القديمة في ظلمها وغيها وقبل ذلك كله ؛ هل سيكون انهيار إمبراطورية «ماكدونالدز» سريعا مدويا، أم أن الموضوع يحتاج أكثر من وقفة وتدبر ودراسة..؟
في الوقت الذي تتخبط فيه الولايات المتحدة وسط حروب خاسرة وأزمة مالية حادة، يرى بعض الباحثين أن أمريكا أخذت تفقد اليوم وضع "القوة العظمى الوحيدة" في العالم، الذي تمتعت به في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينات. وفي الوقت ذاته، يرى باحث أمريكي أن الأهمية الإستراتيجية للاتحاد الأوروبي ستتراجع في المستقبل. ومثل هذه الأبحاث قد تؤشر إلى نهاية التفوق الغربي العالمي وظهور قوى منافسة جديدة .
في الجزء الثاني من هذا الملف نتناول مستقبل العلاقات بين أوربا وأمريكا ونسبر أغوار حالة الجفاء والفتور بين الأم والبنت، وما أسباب الحرب غير المعلنة بين ضفتي الأطلسي ..؟..حقا لقد تغير العالم بعد 11 سبتمبر ..لكن تغير على غير هوى أمريكا وأوربا.

يقول اندرو باسيفيتش، بروفيسور التاريخ والعلاقات الدولية في جامعة بوسطن، والضابط الكبير المتقاعد في الجيش الأمريكي، إن إطلاق صفة "القوة العظمى الوحيدة" على الولايات المتحدة لم يعد يعني الكثير اليوم . وقد كتب مقالاً حول الموضوع في صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" قال فيه:
إن إحدى أكبر المشكلات التي تواجه الولايات المتحدة اليوم هي التالية: تراكم التزامات أكثر مما يجب من دون توافر وسائل للوفاء بها. ومن ضمن التعهدات التي أخذتها أمريكا على عاتقها هناك الالتزامات المتعددة والمتنوعة المتضمنة في تعبير "القيادة الأمريكية العالمية".وإذا كانت هناك في أي وقت لحظة ملائمة لإعادة تقييم الفرضيات التي ينطوي عليها هذا التعبير، فإن هذه اللحظة هي الآن.
لقد دخل التاريخ الآن عهداً جديداً، وهذا ما لم يلاحظه سوى قلائل جداً من الأمريكيين، إذ إن "لحظة القطب الواحد" التي أوجدها انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 قد انقضت الآن. والتحدث اليوم عن الولايات المتحدة باعتبارها "القوة العظمى الوحيدة" في العالم لن يكون له معنى أكثر من أن تتباهى "جنرال موتورز" مثلاً بأنها شركة صناعة السيارات الرقم واحد في العالم: فالحنين إلى الماضي لا يناسب شركة يحدق بها منافسوها في جميع الجهات . وبالمثل، فإن وصف باراك أوباما ب "أقوى رجل في العالم" يشبه الانحناء أمام إليزابيث الثانية ومخاطبتها ب "ملكة بريطانيا العظمى وإيرلندا والممتلكات البريطانية في ما وراء البحار" . وقد يكون هذا لقباً لطيفاً، ولكنه لا ينطوي على سلطة فعلية تذكر .
إننا نشهد اليوم نشوءاً سريعاً لنظام عالمي جديد . وفي هذا النظام، لا شك في أن الولايات المتحدة ستبقى لاعباً مهماً جداً ومع ذلك، سيكون إلى جانب الولايات المتحدة لاعبون متعددون آخرون: الصين بارزة بينهم، ولكن روسيا، والهند، وتركيا، واليابان وكوريا الجنوبية والبرازيل تطالب هي أيضاً بأن تؤخذ في الاعتبار . (ومسألة ما إذا كانت أوروبا، التي تتعثر باضطراب في الوقت الراهن، قادرة على شحذ الإرادة وتعبئة الموارد اللازمين لكي تتأهل لمثل هذا الدور هي مسألة غير معروفة) .
والولايات المتحدة لا تستطيع شيئاً لمنع هذا التحول الجغرافي السياسي. والسياسيون الأمريكيون يمكن أن يصرّوا على أن الولايات المتحدة تبقى وحدها الأقوى والمتفوقة، ولكن تصريحاتهم لن يكون لها تأثير يذكر أكثر من تأثير الملك الإنجليزي الأسطوري كانوت عندما أمر الأمواج بأن تتوقف. وفي الواقع، فإن تعليل النفس بوهم أمريكا كلية القدرة - واستمرارنا، مثلاً، في ولعنا بخوض حروب بعيدة لأهداف مشكوك فيها - سيسرع عملية هذا التحول، بحيث يصبح التراجع النسبي للقوة الأمريكية تراجعاً مطلقاً .
ومع ذلك، هناك الكثير الذي يمكن للولايات المتحدة أن تفعله، ويجب أن تفعله، لكي تضمن أن العالم المتعدد الأقطاب الناشئ سيكون مستقراً بقدر معين، وجديراً بالاحترام بقدر معين، وبالتالي ملائماً بقدر معين لرفاهية الشعب الأمريكي.
والتعددية القطبية تنطوي على تعقيدات، فقبل أكثر من قرن، أدى سوء إدارة النظام المتعدد الأقطاب السابق إلى حرب عالمية، تلاها الكساد الكبير، ثم حرب عالمية ثانية كانت أسوأ من الأولى. وتجنب تكرار لتلك الكوارث المتسلسلة هو مقتضى استراتيجي أساسي في عصرنا اليوم .
ومن هذا المنظور، فإن إنفاق مئات المليارات عبثاً من أجل إحلال السلام في أفغانستان لا يساعد كثيراً . وفي ما يلي أمور يمكن أن تكون أكثر فائدة بكثير، ولو أنها تشكل تحديات صعبة:
* التفاوض حول "حدود" - مثل قيود على استخدام القوة - تحد من امتيازات القوى الكبرى (بما فيها القوة الأمريكية) في القرن الواحد والعشرين .
* وضع معايير محددة تحكم التنافس في الموارد الطبيعية التي أخذت تصبح أكثر فأكثر ندرة .
* خفض التسلح وتقييد تجارة الأسلحة الدولية، وبالتالي الحد من توافر الأعتدة التي تغذي الحروب عقب اندلاعها .
* تركيز اهتمام دبلوماسي أكبر على البؤر الساخنة التي تهدد بوضع قوى كبرى على مسار تصادمي، ومن بينها تايوان، وكشمير، وخط العرض 38 في كوريا، وطبعاً الأراضي الفلسطينية (المحتلة) .
ولكن من المحزن أنه لا توجد مؤشرات تذكر إلى أن أحداً في واشنطن لديه تصور مبدع من أجل الشروع في مثل هذه المهمات الشاقة. ورد الفعل على الأزمات - مثل إدارة الحروب الجارية والتفاعل مع تقلبات وتحولات الربيع العربي - تستهلك طاقة واهتمام إدارة أوباما . وفي الوقت ذاته، يبدو أن إغداق الأموال على المجمع الصناعي العسكري هو الأولوية الأولى للجمهوريين . أما بالنسبة إلى المسائل المالية، فإن التخبط واضح . لقد أصبحت واشنطن مفلسة فكرياً .
وبرغم ذلك، هناك محفز . فإذا ما قدر أن ساعدت واشنطن بنجاح على ولادة هذا النظام العالمي الجديد، فإن النتيجة ستكون تخفيف الأعباء التي تحملتها الولايات المتحدة منذ عام ،1941 والتي أخذ مردودها يتناقص بحدة الآن . ومع أن التأثيرات الإيجابية لذلك قد لا تكون ملموسة بصورة فورية، فإن المنافع ستكون بالتأكيد كبيرة جداً مع الوقت . وتخفيف الأعباء (من تقليل الحروب إلى تخفيض إنفاق البنتاغون) يمكن أن يساعد كثيراً على إعادة ترتيب بيتنا، وهذه هي المسألة التي يتفق الجميع - في واشنطن وفي بقية أنحاء الولايات المتحدة - على أنها أساسية .
في موقع "فورلين بوليسي"، روى الباحث ستيفان والت، بروفيسور الشؤون الدولية في جامعة هارفارد، أنه خلال لقاء جمعه حديثاً بمسؤولين حكوميين أمريكيين، سأله بعضهم عن رؤيته لمستقبل الاتحاد الأوروبي، وبصورة أشمل لمستقبل العلاقات عبر الأطلسي، فاستجاب بسرور، وعرض رده في مدونته على الموقع قائلاً:
بدأت بالإشارة إلى أمر واضح، وهو أن أوج النفوذ العالمي لأوروبا قد أصبح في الماضي، وجادلت بأن الأهمية الإستراتيجية لأوروبا ستتراجع في المستقبل . والمنطق وراء ذلك بسيط: بعد أن هيمنت أوروبا على السياسات العالمية بحدود الفترة من 1500 إلى ،1900 أخذ ثقلها النسبي يتراجع بحدة منذ ذلك الحين .
وفي الوقت الراهن، ينخفض عدد سكان أوروبا، ويزداد عدد المسنين فيها، كما تتقلص حصتها في الاقتصاد العالمي . وعلى سبيل المثال، في عام ،1900 كانت أوروبا ومعها أمريكا تنتجان أكثر من 50% من اقتصاد العالم، بينما كانت آسيا تنتج أقل من 20% . أما اليوم، فإن أكبر عشرة اقتصادات في آسيا لديها مجتمعة إجمالي نتائج محلي أكبر من إجمالي أوروبا والولايات المتحدة، في حين أن هذه الاقتصاديات الآسيوية العشرة ستنتج نحو 50% من إجمالي النتائج العالمي بحلول عام 2050 .
والبلايا المالية التي تعانيها أوروبا حالياً تفاقم المشكلة، وترغم الحكومات الأوروبية على تقليص قدراتها العسكرية المتواضعة أصلاً. وهذا ليس بالضرورة مشكلة كبيرة للأوروبيين، لأنهم لا يواجهون أي تهديدات عسكرية تقليدية ذات شأن، ولكن هذا يعني أن قدرة أوروبا على صنع الأحداث في أجزاء أخرى من العالم ستستمر في التراجع .
أرجو أن تلاحظوا: أنا لا أقول إن أوروبا أخذت تصبح خارجة كلياً عن الموضع، وإنما أقول فقط إن أهميتها الإستراتيجية قد تراجعت بقدر كبير، وإن هذا الاتجاه سيستمر .
ثانياً: جادلت أيضاً بأن ذروة الوحدة الأوروبية قد أصبحت هي أيضاً في الماضي. وهذا ادعاء مثير للجدل، ومن الممكن تماماً أن يتبين أنني مخطئ في هذه النقطة. ومع ذلك، هناك أسباب واضحة عدة تبين لماذا ستواجه أوروبا متاعب حقيقية في مسيرتها المستقبلية .
لقد نشأ الاتحاد الأوروبي في أعقاب الحرب العالمية الثانية . وأحد أهداف إنشائه كان وضع آلية تجمع الدول الأوروبية في رباط واحد وتمنع نشوب حرب أخرى. ولكن إنشاء الاتحاد الأوروبي كان أيضاً جزءاً من مجهود أوروبي غربي أعرض يهدف إلى بناء قدرات اقتصادية تكفي لموازنة الاتحاد السوفييتي، والأوروبيون لم يكونوا واثقين بأن الولايات المتحدة ستستمر في شراكتها معهم وفي التزامها بالدفاع عنهم (وكانت هناك أسباب معقولة لهذه الشكوك)، وقد أدركوا أن التكامل الاقتصادي سيكون ضرورياً من أجل إيجاد ثقل موازٍ ملائم للاتحاد السوفييتي .
وكما تبين في ما بعد، بقيت الولايات المتحدة ملتزمة تجاه أوروبا، ولهذا السبب لم يكن الأوروبيون جادين يوماً بشأن إنشاء قدرة عسكرية موحدة. وكانت الدول الأوروبية مستعدة للتنازل عن بعض من سيادتها للاتحاد الأوروبي، ولكن ليس عن الكثير . وفي الثمانينات والتسعينات، أصبحت النخب الأوروبية أكثر طموحاً، وسعت إلى تعزيز دور أوروبا من خلال توسيع الاتحاد الأوروبي وإجراء إصلاحات مؤسساتية متنوعة، تجسدت في معاهدتي «ماستريخت» ولشبونة . وقد كان لهذا المجهود العريض بعض النتائج الإيجابية - خصوصاً أن الرغبة في عضوية الاتحاد الأوروبي شجعت الدول الأوروبية المرشحة على تبني إصلاحات ديمقراطية وضمان حقوق الأقليات - ولكن هذا المجهود لم يؤد إلى تعميق ذي شأن للتكامل السياسي، وهو الآن يواجه متاعب عويصة .
ومعاهدة لشبونة سعت، بين جملة أمور أخرى، إلى إضفاء مقام أعلى على منصبي رئيس الاتحاد والممثل الأعلى للشؤون الخارجية، بحيث تستطيع أوروبا - أخيراً - التحدث "بصوت واحد" . وحتى الآن، بقي هذا المسعى متعسراً، وشاغلا المنصبين حالياً - وهما البلجيكي هرمان فان رومبوي والبريطانية كاثرين آشتون - ليسا في الحقيقة بارزين أو نافذين، وبالتالي لم يكن مما يدعو للدهشة أن قادة وطنيين من أمثال الرئيس الفرنسي ساركوزي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل هما اللذان اضطلعا بالأدوار القيادية في تعامل أوروبا مع المشكلات التي تواجهها حالياً . وكما كانت الحال لزمن طويل، فإن الحكومات الوطنية هي التي تبقى في ميدان العمل .
واليوم، يتعرض التكامل الأوروبي لتهديدات بفعل:
1- عدم وجود عدو خارجي، الأمر الذي يزيل حافزاً جوهرياً للتعاون الوثيق .
2- الطبيعة غير الطيعة لعملية صنع القرار في الاتحاد الأوروبي، حيث يتعين على 27 دولة ذوات أحجام وثروات متفاوتة أن تحاول الوصول إلى اتفاق بالإجماع .
3- القرار غير الصائب بإنشاء عملة مشتركة، ولكن من دون إنشاء المؤسسات السياسية والاقتصادية اللازمة لدعمها .
4- القومية، التي تبقى قوة مؤثرة في كل أنحاء أوروبا، والتي كانت تكتسب زخماً في السنوات الأخيرة .
ومن الممكن أن ترغم هذه التحديات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على أن تتبنى في النهاية أشكالاً أكثر عمقاً في التكامل السياسي، كما سبق أن نصح بعض الخبراء . ومن الممكن أن نرى إلى الاتفاق الفرنسي الألماني الحديث العهد بشأن تنسيق السياسة الاقتصادية على هذا الضوء، إلا أن الخطوات التي اقترحها ساركوزي وميركل كانت بمنتهى التواضع . وأنا لا أعتقد أن الاتحاد الأوروبي سيتداعى وينهار، ولكن جموداً طويل الأمد وتآكلاً تدريجياً يبدوان الأكثر رجحاناً . ومن هنا اعتقادي بأن أوج التكامل السياسي الأوروبي قد أصبح شيئاً من الماضي .
ثالثاً، جادلت بأن أيام التعاون الأمني الوثيق جداً عبر جانبي الأطلسي أصبحت هي أيضاً في الماضي، وأننا سنرى في المستقبل شراكة أمنية أقل تعاوناً وعمقاً بين أوروبا وأمريكا .

إن التعاون الأمني عبر الأطلسي ربما كان اكتسب روحاً جديدة لو أن جميع هذه المغامرات والتدخلات العسكرية والسياسية قد حققت أهدافها. ولكن لم تكن هذه هي الحال . وهذا يثير السؤال البديهي: إذا لم تكن هناك حاجة إلى الولايات المتحدة من أجل حماية أوروبا، وإذا كان الحلف لا يستطيع أن يحقق سوى القليل من الإيجابيات في أي مكان آخر من العالم، فما الفائدة من هذا الحلف؟

أخيراً، جادلت بأن التعاون الأمني عبر الأطلسي سيتراجع، لأن الولايات المتحدة ستحول تركيزها الاستراتيجي نحو آسيا، إذ إن الهدف المركزي للإستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة هو الاحتفاظ بالهيمنة في نصف الكرة الغربي ومنع قوى كبرى أخرى من تحقيق هيمنة في مناطقها . وفي المستقبل المنظور، القوة الإقليمية المهيمنة المحتملة الوحيدة هي الصين . ومن المرجح أن يحدث في تلك المنطقة تنافس أمني حاد، وبالتالي ستعمل الولايات المتحدة لتعميق روابطها الأمنية مع مجموعة من الشركاء الآسيويين. غير أن أوروبا لن يكون لها دور يذكر تضطلع به في هذه المنافسة، ولا حتى حافز يذكر لكي تنخرط في مثل هذه المنافسة. ومع مرور الوقت، ستحظى آسيا باهتمام أكبر فأكبر من مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية، بينما ستلقى أوروبا اهتماماً أقل .
وهذا الاتجاه ستعززه تغيرات سكانية وجيلية على كلا جانبي الأطلسي، حيث تتراجع نسبة الأمريكيين الذين لديهم روابط نسب قوية مع أوروبا، وحيث الجيل الذي خاض الحرب الباردة يغادر المسرح . إذاً، بالإضافة إلى تحول الاهتمامات الإستراتيجية، من المرجح أيضاً أن تضعف اللحمة التي كانت تجمع أوروبا وأمريكا معاً .
ومن المهم عدم المبالغة في أهمية هذا المنحى، إذ إن أوروبا وأمريكا لن تصبحا عدوتين، وأنا لا أعتقد أن التعاون الأمني الوثيق داخل الاتحاد الأوروبي سينقطع في المستقبل المنظور على الأقل . كما أن أوروبا والولايات المتحدة ستواصلان تجارتهما واستثماراتهما بين بعضهما بعضاً، وكذلك تعاونهما في عدد من المسائل الأمنية (مكافحة الإرهاب، وتقاسم المعلومات الاستخباراتية، ومكافحة الانتشار النووي . . إلخ) . ولكن أوروبا لن تكون الشريك “الأثير” لأمريكا في العقود المقبلة، على الأقل ليس بالطريقة التي كانت في الماضي
وسوف يكون هناك بالأحرى عالم مختلف عن ذلك الذي اعتدناه طوال السنوات الستين الماضية، ولكن هذا لن يكون بالضرورة أمراً سيئاً . علاوة على ذلك، من المرجح أننا لا نستطيع عمل شيء يذكر لمنع هذا التحول، لأنه يعكس قوى بنيوية فاعلة . وبدلاً من ذلك، فإن الرد الذكي - بالنسبة إلى الأمريكيين والأوروبيين - هو التسليم بهذه الاتجاهات والتكيف معها، بدلاً من الشروع في مجهود لا طائل تحته لعكس تيار التاريخ.
هناك سبب جلي لانفراط عقد التحالف المقدس بين القارة الجديدة والقارة العجوز، هو عدم وجود عدو خارجي مشترك . تاريخياً، كان وجود مثل هذا العدو المشترك هو السبب الوحيد الذي جعل الولايات المتحدة مستعدة للدفع بقوات عسكرية إلى أوروبا، ولذا فإنه ليس مما يدعو للدهشة أن الوجود العسكري لأمريكا في أوروبا كان يتقلص باطراد منذ تفكك الاتحاد السوفييتي . وبتعبير مبسط، لا يوجد اليوم تهديد لأوروبا لا يستطيع الأوروبيون التعامل معه بأنفسهم، وبالتالي لا يوجد دور مهم يضطلع به الأمريكيون .
بالإضافة إلى ذلك، رأينا كيف أن مختلف المغامرات الإمبراطورية التي اندفع فيها حلف شمال الأطلسي منذ عام 1992 لم تحقق نجاحاً طيباً . وقد قيل في التسعينات "إن على حلف الأطلسي إما أن يعمل خارج منطقته، وإما أن يخرج من منطقة العمل". وهذا أحد الأسباب التي جعلت الحلف يبدأ التخطيط لتلك العمليات العسكرية، ولكن معظم العمليات التي قام بها الحلف منذ ذلك الحين كانت متعسرة بقدر أو آخر . فالتدخل في البلقان نجح في النهاية في وقت القتال هناك، ولكن ذلك استغرق وقتاً أطول وكلف أكثر مما توقع أي شخص . بل إنه ليس واضحاً الآن أن هذا التدخل قد نجح فعلاً (حيث إنه إذا انسحبت قوات حفظ السلام الأطلسية من كوسوفو غداً، فمن الممكن أن يستأنف القتال هناك) .
وحلف الأطلسي انقسم بشأن حرب العراق، في حين أن المهمة المخلخلة لقوة المساعدة الأمنية الدولية “إيساف” في أفغانستان تذكرنا لماذا كان نابليون يقول دائماً إنه يحب خوض الحروب ضد التحالفات الدولية . والحرب في ليبيا لم تجر بالسلاسة التي توقعها الحلف .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.