صبري حافظ تطرح هذه ورقة سؤالا جوهريا يتعلق بمدى حضور المسرح العربي في ذاكرة المسرح في العالم. وكيف يمكن تعيين هذا الحضور؟ وهو سؤال يتطلب بداءة تمحيص معنى الحضور ومعنى العالم معا. لأن للحضور تجليات مختلفة تبدأ بمجرد الحضور الفعلي للمسرح العربي بنفسه على شكل زيارات مختلفة لفرقة لبلدان العالم، وعرض ما لديها عليه، والتعرف على استجابات الجمهور المختلف أو المؤتلف له؛ وتنتهي بالحضور الفاعل في ذاكرة المسرح في مختلف بلدان العالم والتأثير في الأعمال المسرحية المكتوبة بلغة تلك البلدان.
وهو أمر على درجة كبيرة من الطموح، خاصة وأن الورقة تضمر تعريفها الخاص للعالم، بأنه العالم الغربي الذي طالما مارس حضوره الفاعل في ذاكرة مسرحنا ترجمة واستلهاما وتأثيرا في بنيته الدرامية ذاتها. ذلك لأن إدارة المهرجان حددت لي تناول حضور المسرح العربي في بريطانيا، وأعلمتني بأن ثمة ورقة أخرى ستتناول نفس الموضوع في فرنسا. فالعالم الذي يقصده العنوان إذن هو العالم الغربي وحده، والذي لازلنا ندور في فلك استقصاءاته، متغاضين عن عوالم أخرى أكثر منه سكانا، وربما أثرى منه مسرحا في اليابان والصين والهند وغيرها من البلدان. ثم تنطلق الورقة بعد ذلك لتطرح مجموعة أخرى من الأسئلة المتفرعة عن هذا السؤال الرئيسي حول ملامح هذا الحضور، وقد طامنت من غلواء طموحها، وحاولت استقصاءه في الدراسات أو الأبحاث المنجزة في الجامعات أو المعاهد أو المنابر الأوروبية والأمريكية. وحول الدور الذي يمكن أن يلعبه هذا الحضور في غير خارطته المحلية، وما إذا كانت له إضافاته الجمالية أو بالأحرى الدرامية للجنس المسرحي ذاته التي تبرر هذا الحضور؟ لكن أطرف ما تنطوي عليه الورقة من مفارقات أنها تتشكك بداءة في تغطية المسرح العربي لمجاله الخاص، ناهيك عن إمكانية أن يلعب دورا في مجالات إضافية خارج عالمه العربي. خاصة وقد تقطعت الخريطة المسرحية العربية، وتمزقت في متاهات الحدود الجغرافية والإقليمية أكثر مما كانت عليه من قبل. ثم تضيف سؤالا مهما آخر، عن جدوى مختلف أشكال التبادل والمثاقفة والتدريب التي تدور في مجال المسرح، وخاصة في صيغها التقليدية المتعلقة بمشاركة فرقة أو مسرحي في الساحة المسرحية الأوروبية أو مهرجاناتها ومؤتمراتها. وأسئلة أخرى عن رديف مثل تلك المشاركات من أدوار تلعبها وزارات الثقافة أو هيئات المسرح العربية في دعم وجود المسرح العربي في العالم، أو حتى فرق المسرح العربي الخاصة المختلفة، والتي إذا ما ذهبت إلى هناك تقدم أعمالها غالبا للجاليات العربية في المنافي من المؤلفة قلوبهم حوله، أكثر مما تقدمه لجمهور المسرح العام في تلك البلدان. ثم تنتقل إلى أسئلة أكثر طموحا، حول ما يمكن دعوته بالإسهام العربي في النظرية الدرامية، حينما تتساءل عن مألات الرؤى والنظريات التي طرحها العقل النظري المسرحي العربي، ومضت إلى تأكيد خصوصية النموذج المسرحي العربي: كيف يمكن قياس تأثيرها في هذا الجانب؟ أتراها انكفأت بتجربتنا وقطعت صلتها بالعالم؟ أم انها زادت كفايتها وحققتها بالتميز والخصوصية؟ وأود هنا، ودون أن أفتح الباب أمام أسئلة عويصة أخرى حول أي فهم مضمر للمسرح في هذا كله، وما تنطوي عليه تلك الأسئلة الأنطولوجية من إشكاليات حتى بالنسبة للمسرح الغربي نفسه، أن أبدأ بالسؤال الأول والذي أعتبره أكثر تلك الأسئلة أهمية وجوهرية: وأعني به سؤال الحضور في ذاكرة المسرح كجنس أدبي درامي فرجوي في العالم. كما أود أيضا أن أؤكد العلاقة الجدلية الوثيقة بين ما أطرحه، وبين بنية هذا الملتقى الفكري الشيقة ودورها في تقرير طبيعة ما طرحت. فقد كلفت إدارة الملتقى باحثين فقط بكتابة ورقتين عن المسرح العربي والعالم في كل من بريطانياوفرنسا، ثم طلبت من عدد من المشاركين التعليق على كل ورقة، وخصصت لها يوما كاملا كي يكون الملتقى منبرا للجدل الخلاق الذي يثرى آليات التفكير في واقعنا المسرحي وفيما ينطوي عليه من أسئلة وقضايا. الحضور في ذاكرة الجنس المسرحي:
لكن دعنا بعد هذه المقدمات نبدأ بالسؤال الأول، وهو سؤال عويص لأن الحضور في ذاكرة جنس أدبي/ فني من أكثر الأجناس الأدبية والفنية تركيبا وجمعية، ومن أكثرها اشتباكا بالخصائص الحضارية للثقافة التي يصدر عنها، يتطلب أمرين أساسيين: أولهما أن يضيف هذا المسرح جديدا على صعيد الإضافات الدرامية والمنطلقية، وهو أمر نادر على الصعيد المحلي العربي ذاته. وثانيهما أن يمس هذا الجديد وترا حساسا، أو حاجة أساسية في الثقافة التي تتفاعل معه وتخلق له حضوره المتفرد والفاعل، وأشدد التركيز على هذه الكلمة الفاعل، في ذاكرتها. وخاصة إذا ما تعلق الأمر بالثقافة الغربية المقصودة هنا بالسؤال: والتي تحظى بالتفوق والمركزية منذ صعود الغرب في تلك الدورة الحضارية التي بدأت في ذلك التاريخ الدامي والدال: 1492 تاريخ سقوط غرناطة وطرد العرب من الأندلس أو بالأحرى الثقافة العربية والإسلامية كلها من الوجدان الغربي باعتبارها منهج حياة، يعتمد على التسامح والتعايش بين الرؤى والثقافات. إذ يجب ألا ننسى، وقد تبدلت التواريخ وتغيرت التحالفات، أن اليهود قد طردوا أيضا منه معهم. وأن بدايات التعصب الديني والعرقي ومحاكم التفتيش سيئة الصيت قد بدأت هي الأخرى في هذا التاريخ. وما تبعه من كشوف جغرافية وصراعات دموية مرعبة بين القوى الأوروبية الصاعدة ذاتها، وعصور استعمارية بغيضة تنهض على نهب الآخر وتدمير ثقافته، بما في ذلك ثقافته الدرامية بالطبع، وفرض ثقافة الأنا الأوروبية الصاعدة وأنماطها بدلا منها، لم تتوقف حتى اليوم، وإن اختلفت تجلياتها ومراحلها. وحينما أتحدث عن دورة حضارية، مهما أرقنا من الشك على طبيعة حضارتها، لازلنا نعاني من ويلاتها حتى الآن، فإنني أود التأكيد على أهمية هذا التاريخ الدال والدامي، عام 1492، كعلامة فارقة في مسيرة البشرية. قبل هذا التاريخ ساد نوع من التبادل الثقافي السلمي المفتوح في العالم، لا في الأندلس وحدها والتي كانت خاضعة للرؤية العربية الحضارية للعالم، بما في ذلك احتضانها للديانات السماوية السابقة عليها والاعتراف بها وبمعتنقيها، وإفساح المجال لهم لممارسة عقائدهم ومشاعرهم؛ وإنما في جل أوروبا التي كانت قد شرعت قبل أكثر من قرنين من هذا التاريخ في بناء نهضتها العلمية والثقافية على أساس من استيعاب منجزات الحضارة العربية السابقة عليها والبناء فوق منجزاتها وتطويرها. بينما ساد نوع مغاير آخر من التبادل أو بالأحرى القهر الثقافي بعده. لم يكن أقل أسبابه أن الحضارة المسيحية التي انتصرت على العرب في الأندلس لا تعترف بدينهم، ناهيك عن ثقافتهم برغم استيعابها للكثير من منجزاتها. فحتى هذا التاريخ لم تكن أوروبا، بكل لغاتها الحية قد عرفت كلمة الإسلام، ناهيك عن الاعتراف به كديانة سماوية. فلم تدخل كلمة «إسلام» اللغة الانجليزية مثلا إلا مع الشاعر الرومانسي الانجليزي الشهير شيلي في مطلع القرن التاسع عشر. وكان المسلمون يشار لهم في اللغات الأوروبية إما باسم المحمديين: أي الذين يعبدون محمد وليس الله، أو المغاربة Moors. وما أن انتصرت المسيحية عليهم في أكثر تجلياتها أصولية على يدي فرديناند وإيزابيللا وكهنة محاكم التفتيش حتى بدأ عصر جديد من ضيق الأفق والقهر الفكري والحضاري. فإذا بدأنا بالجانب الأول: سنجد أن من الظلم والمغالطة وبعد أربعة قرون من هذا التحول الدامي أن نطالب المسرح العربي الحديث، الذي بدأ قبل قرن ونصف من الزمان محاكيا للمسرح الغربي، ومترجما نصوصه وأنساقه الدرامية، بأن يقدم للمسرح الغربي الجديد على صعيدي المنطلقات الدرامية ما يمكن أن يبقى في ذاكرة هذا المسرح، مهما كانت هذه الذاكرة مراوغة كما سنكشف بعد قليل. خاصة وأن هذا المسرح العربي قد تخلى كلية عن منطلقاته السابقة على محاكاته للمسرح الغربي، طوال هذا القرن الأول من تاريخه الحديث. بل سلم بافتراضات المستشرقين المغرضة بعدم وجود مسرح عربي، وأجتهد معهم في الجواب على سؤالهم: لماذا لم يعرف العرب المسرح؟ وهل الثقافة العربية في جوهرها معادية للدرامية؟ وغير ذلك من الأسئلة المغلوطة. ولم يعد المسرح العربي من جديد للبحث عن خصوصيته والاحتفاء بها إلا بعد قرن كامل من التقليد. وبالتحديد منذ أن أطلق يوسف إدريس دعوته الشجاعة في مطالع ستينيات القرن الماضي بضرورة «البحث عن مسرح مصري» له خصوصياته التي تميزه عن غيره من المسارح. ثم مرت بعدها مياه كثيرة تحت هذا الجسر الشيق والمثري لتجارب المسرح العربي في نصف القرن الأخير من مسرح «الحكواتي» في سوريا الكبرى، وحتى مسرح «الحلقة» في المغرب العربي الكبير وصولا إلى مسرح الشارع في ثورات الربيع العربي. أما الجانب الثاني فإنه يتعلق من ناحية بطبيعة عملية التبادل الثقافي في ظل علاقات قوى مختلة أو بالأحرى جائرة؟ لأن المسرح الغربي الذي يشعر بتمكنه من تاريخه وأدواته ومنطلقاته، وبوثاقة علاقته مع مشاهديه، هو الذي يقرر ويختار، وفقا لرؤى فنانيه الطليعية ما يحتاج إليه من مسارح الآخرين. وكلنا يعرف ما قام به أنطونين أو أنطوان آرتو Antoine Artaud (1896 – 1948) على سبيل المثال حينما شاهد رقصات بالي Balinese Dances في المعرض الدولي للمستعمرات بمارسيليا عام 1931. وتصور، بسبب جهله بخلفيات رقصات جزيرة بالي الإندونيسية الدينية والشعائرية، أنه فهم منها منهجا جديدا في العرض المسرحي، يمكنه أن ينقذ به المسرح الأوروبي من أزمته التي كان يعاني منها في قبضة الاستقطابات السيريالية وجموحات التجديد، التي غاب عنها المنطق في كثير من الأحيان ووقعت في وهاد التخبطات الفنية في هذا الوقت. ثم كتب على إثرها في العام التالي «مانيفستو مسرح القسوة» عام 1932، ثم ضمه مع مانيفستو مسرحي آخر مكمل ليشكلا معا (المسرح ورديفه) عام 1935. وقد بقي فهم آرتو الغريب أو بالأحرى البالغ الخصوصية للرقص البالينيزي باعتباره لغة إيمائية فريدة ذات طبيعة شفرية وطقسية معا، تنطوي على قاموس حركي دقيق وصارم، أثره في ذاكرة المسرح الأوروبي واستقصاءات ما سماه بمسرح القسوة بشكل عام. وإن كان كثيرون لا يعرفون أن تلك الرقصات القادمة من بالي هي التي شكلت المرتكز الرئيسي لمسرح آرتو. وهذا ما قصدته بالطبيعة المراوغة للذاكرة المسرحية الغربية، حيث تدفعها انتقائيتها، وعلاقات القوى الثقافية المختلة التي يغيب فيها التكافؤ بين الثقافات أو الشعوب، إلى تجاهل مصادرها على الدوام. فقد عمد آرتو وهو يمارس نوعا من التثاقف الإنتاجي إلى تمرير استلهاماته عبر مرشح فكري غربي ينظّر لها من منطلق احتياجاته ويبررها بها. وكأنه كان على وعي مسبق بما بلوره إدوار سعيد نظريا فيما بعد في دراستيه المهمتين عن «ارتحالات النظريات الأدبية»، وضرورة تحوير الأفكار عند ارتحالها من ثقافة إلى أخرى. لأن مسرح القسوة عنده لا يهدف إلى إثارة الألم أو القسوة، كما يبدو من اسمه السيريالي. وإنما يعتمد على مفهوم نيتشه لفكرة القسوة باعتبارها تكثيفا للحدّة المضمرة في التجربة الإنسانية، والقدرة على مواجهة السائد بشكل جذري، وتدمير الأرضية التي يعتمد عليها، من أجل الوصول إلى نوع من النقاء الأخلاقي الصعب. لذلك عمد مسرحه إلى زعزعة التصورات والتقاليد المسرحية السائدة والعقيمة معا، واستبدل بها لغة مسرحية جديدة وصارمة مستقاة كليه مما يمكن دعوته بأجرومية رقصات جزيرة بالي الإندونيسية المميزة. وقد ساهمت استقصاءاته في إعادة الحياة إلى لغة العرض المسرحي، لا النص المسرحي فحسب، وخلق لغة مسرحية جديدة، لغة بصرية حركية وإيمائية تقيم جدلها الخلاق مع النص الدرامي واللغة المكتوبة، وتخلق شفراتها الجديدة والمركزة، تماما كتلك التي تنهض عليها رقصات جزيرة بالي وأجروميتها الحركية الشهيرة. لكنني أود هنا أن أشير إلى أنه وبدون معرفة المصدر الأساسي لإلهام آرتو، فإن قدرته وهي في مستوى من مستويات التأويل قدرة الغرب المتفوق حضاريا وثقافيا على هضم المصدر وتحويله، بعد التهامه له، إلى جزء أساسي من تصوراته، هي التي مكنت الناتج المهضوم جيدا من البقاء في ذاكرة المسرح الغربي. وهو الأمر الذي يشهد مرة أخرى على أهمية مفهوم إدوار سعيد في «ارتحالات النظرية» عن التحولات الضرورية لنجاح أي ارتحالات فكرية لمفهوم أو نظرية أو حتى منطلقات مسرحية في انتقالها من مرحلة أو ثقافة إلى أخرى. لكن الإضافات المسرحية الشرقية الكبيرة التي بقيت في ذاكرة المسرح الأوروبي واكتسبت صيغة أوروبية خالصة فيه، وظلت فيما بعد فاعلة فيه بعيدا عن الاستقصاءات التجريبية المحدودة كما هو الحال مع مسرح آرتو، هي تلك التي مررها برتولت بريخت Bertolt Brecht (1898 – 1956) عبر مرشح فهمه الماركسي للعالم، وتصوره الجديد للمسرح فيه. وهو تصور كان بدوره طالعا من حاجة المسرح الأوروبي إلى مسرح قادر على التوجه إلى عقل المشاهد لا عواطفه. مسرح يساهم في زعزعة الأفكار الفاشية والنازية التي سادت في عصره، واستولت على عواطف الناس وعطلت عقولهم، بسبب غواياتها التنويمية المدهشة. كان بريخت حريصا على أن يتحول المسرح إلى ساحة للجماليات النقدية والمادية الجدلية. وأن يوقف المشاهد عن التماهي مع ما يراه أمامه على خشبه المسرح، أو حتى على خشبة السياسة، من أجل الدخول معه في حالة من الجدل النقدي الخلاق. ولذلك أسس بريخت مسرحه الملحمي تمييزا له عن المسرح الدرامي الذي يعيد المسرح إلى الملحمة، ويعيد المشاهد إلى تأمل ما يسرد عليه وتأويله والتفكير العقلي فيه، بدلا من التماهي التطهيري السلبي معه. لذلك كان عليه أن يبلور منطلقا يقنع المشاهد بأن ما يراه على المسرح مجرد تمثيل عن بعد للواقع، وليس الواقع نفسه أو أي محاكاة له. وأن يكشف في هذا التمثيل عن آليات تصنيع الواقع وتفكيكها، كي يمكن نقدها من الداخل بشكل جذري وتغييرها. وكي يدرك المشاهد أن هذه الآليات نفسها هي الفاعلة في عملية تصنيع حياته والتحكم فيها. وكان التغريب أو التأثير التغريبي أو التبعيدي Verfremdungseffekt هو أهم أدوات تحقيق تلك النقلة من الدرامية إلى الملحمية في المسرح. وهي الأداة التي استقاها بريخت من المسرح الصيني الذي يوظف عنصر التغريب والتبعيد بشكل فعّال في بلورة أكثر المواقف حدة ودرامية بأسلوب يجردها من أي عواطف زاعقة، ويريق عليها مياه التأمل الباردة. ومن الثابت أن بريخت شاهد الأوبرا الصينية والمسرح الصيني، قبل أن يبلور أي من تنظيراته الشيقة والمهمة حول المسرح الملحمي. بل وتعرف على أحد أبرز ممثلي الأوبرا الصينية وهو مي لانفانج Mei Lanfang عام 1935 وأدار معه حوارات طويلة حول تقنيات العرض الصيني، وما تنطوي عليه إيماءاته المحسوبة من دلالات، مكنته من التمييز بين تقنيات الأوبرا الصينية التي يعترف بأنها ليست مجرد تقنيات قابلة للنقل. ولكنها قابلة لاستلهام روحها في مسرح يسعى للعب دور سياسي واجتماعي في واقعه، ويجذر الأحداث في سياقاتها التاريخية بغية تغيير تلك السياقات وفضح علاقات القوى الجائرة المضمرة فيها. لكن وعي بريخت بضرورة أن تتغير التقنيات أثناء ارتحالاتها بين ثقافة وأخرى، هو الذي أبقى استلهاماته الصينية، وإن بطريقة مراوغة في ذاكرة المسرحي الغربي، ولكن كأحد أبرز تطورات هذا المسرح وكأنه يتطور من تلقاء نفسه، وليس تأثرا بأي مسرح آخر. فهل يمكن أن نجد مثالا مشابها استلهم فيه احد أبرز المسرحيين الأوروبيين بعض تقنيات المسرح العربي واستنبتها من جديد في ترابه، وأبقاها، وإن بصورة مراوغة، حية في ذاكرته؟ أستطيع الإجابة على هذا السؤال بلا من ناحية المسرح، وبربما من ناحية أخرى. وترجع اللا القاطعة إلى ميراث طويل من الإنكار والتوتر بين الثقافة العربية ورديفتها الغربية له ترسباته الطويلة في الغرب منذ الحروب الصليبية وحتى الآن. فكثير منا يذكرون قولة الجنرال أللنبي الشهيرة حينما دخل فلسطين غازيا في الحرب العالمية الأولى «ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين!» وهي المقولة رجّع جورج بوش أصداءها حينما تحدث عن الحرب الصليبية الجديدة. وهذان مثالان من عشرات الأمثلة المماثلة لفاعلية ترسبات هذه التواريخ القديمة في الثقافة الغربية. فبالرغم من أن دارسي العصور الوسطى يعترفون في دراساتهم المتخصصة بدين مسيرة النهضة الأوروبية كلها للثقافة العربية، ليس فقط في الأندلس وحدها، ولكن منذ عودة حملاتهم الصليبية مهزومة من عالمنا العربي، واستصدار البابا قراره الكنسي في القرن الخامس عشر، بتدريس اللغة العربية في أكبر خمس جامعات أوروبية وقتها: بولونيا في (إيطاليا) وأوبسالا في (السويد) وأكسفورد (بريطانيا) والسوربون (فرنسا) وهايدلبرج (ألمانيا). منذ ذلك الزمن البعيد عكف الأوروبيون على ترجمة المنجز الفكري والعلمي العربي ودراسته. وبنوا نهضتهم العلمية والفكرية عليه. فهل تراهم اعترفوا بدينهم للثقافة العربية في عصر النهضة؟ الإجابة بنعم في الدوائر المتخصصة الضيقة، وبلا في الذاكرة الثقافية والوعي الجمعي الغربي العريض. فالحضارة الغربية عموما في كل لغاتها تبلور هويتها على أنها مستقلة بذاتها، تعود بجذورها إلى أوروبا نفسها في اليونان وروما. بل ومناقضة وليست مكملة لأي من الحضارات الأخرى، وعلى رأسها الحضارة العربية. وما علينا إلا أن نراجع في هذا المجال كتاب إدوار سعيد العلامة (الاستشراق) لتأكد مصداقية تلك المقولة. وإذا كان الغرب يحرص على ألا يبقى من دينه الكبير للحضارة العربية في نهضته شيئا في ذاكرته المعاصرة، فإننا لا نستطيع ونحن نتأمل متغيرات المسرح الغربي المعاصر، وخاصة في بريطانيا التي يجعلها وجود شكسبير فيها أكثر تقوقعا على مركزيتها من غيرها من الدول أو الثقافات الأوروبية الأخرى، أن نجد مثالا لكل من آرتو أو بريخت فيها. فأقرب نموذج لهما في المسرح الانجليزي المعاصر هو برنارد شو الذي كتب كتابا كاملا عن هنريك أبسن ومسرحه، وربط نهضة المسرح الانجليزي الحديث كله بجذر أوروبي جديد، هو مسرح إبسن بواقعيته الاجتماعية ووعيه بضرورة أن ينهض المسرح بالمجتمع وأن يناقش قضاياه الشائكة. ولم يأت بعده في المسرح الانجليزي من حيث الولع بالتنظير، غير بيتر بروك الذي اهتم باستراتيجيات العرض المسرحي بشكل خاص، وعاد به إلى بعض صيغه البدئية، من المسرح الأفريقي أو الهندي أو غيره من الثقافات القديمة، في تنظيراته لجماليات «المساحة الخالية». لكنه لم يستلهم أي من النشاطات البدئية العربية، أو حتى الإسلامية كما هو الحال في طقوس التعزية ومسرحة أحداث عاشوراء. وإن كان قد استلهم كتاب فريدالدين العطار الجميل (منطق الطير) في رحلته المسرحية لتقديم مسرحه على أكبر مساحة خالية في العالم، ألا وهي الصحراء العربية /الأفريقية الكبرى في عرض شهير دعاه ب(مؤتمر الطيور). لهذا كله أجبت بلا حينما تناولت سؤال حضور المسرح العربي في ذاكرة المسرح الانجليزي، لكن الربما التي أشرت إليها في إجابتي تعود إلى أحد أبرز انجازات الثقافة العربية، وأكثر نصوصها ترجمة وذيوعا في الغرب، بل في العالم كله، بعد (القرآن الكريم)، ألا وهي (ألف ليلة وليلة). ويمكن القول في هذا المجال أن المسرح الانجليزي، ومعه امتداداته الأمريكية، قد اكتشف هذا الكنز الأدبي في العقدين الأخيرين، ولم يتوقف عن الافتتان به؛ بعد أن نهلت من معينه الخصب الرواية الانجليزية والأمريكية على السواء. بالصورة التي أتصور أنها سوف تترك بصماتها في ذاكرة هذا المسرح. فهناك أكثر من عمل مسرحي يعتمد على هذا الكنز السردي العربي الكبير. يستخدم اسمه ومخزونه في المخيلة الغربية، ويستلهم استقصاءاته من ذلك الذي أعده دومنيك كوك Dominic Cooke في العام الماضي في بريطانيا لبعض حكايات (ألف ليلة وليلة)؛ إلى العمل الذي أعدته المسرحية الأمريكية ماري زميرمان Mary Zimmerman عام 1994 وحصلت به على أرقى الجوائز المسرحية الأمريكية، وهي جائزة توني للمسرح Tony Award. وجاءت به إلى بريطانيا وجابت به مسارحها، إلى ذلك أعدته جينيفر روز لي Jennifer Rose Lee عام 2007 وآخر موسيقي أعده توبي هاسل Toby Hulse وكتب موسيقاه سايمون سليتر Simon Slater عام 2009. وحتى أبرز هذه النسخ وأكثرها حصافة ووعيا بمنطلقات النص، وهي النسخة التي حرص راعيها المخرج المسرحي الإنجليزي تيم سابل Tim Supple على أن تتشكل عربيا بالكامل: من الكتابة التي أعدتها الكاتبة اللبنانية حنان الشيخ بناء على مبادرة خاصة منه، وحتى كل مفردات العرض من أكسسوارات وتمثيل. وهو عمل فريد وعرض ملحمي حقا يجمع ممثليه من مختلف البلدان العربية (مصر وسوريا والمغرب ولبنان وتونس والجزائر) ويستمر عرضه لست ساعات. بدأ التدريب عليه في القاهرة وفاس، ثم تم عرضه في مهرجان إدنبرة المسرحي الشهير، ثم نيودلهي (الهند) وتورنتو (كندا) ولندن، قبل أن يدور به في مختلف البلدان الأوروبية. وما يدعوني للقول بأن (ألف ليلة وليلة) سوف تترك شيئا في ذاكرة المسرح الانجليزي هو هذا الاستقبال الحماسي من نقاد المسرح لتلك العروض المختلفة لهذا النص السحري الكبير. ووعيهم بأنها تقدم شيئا جديدا، وإن ظل غير مبلور بعد وغير ملموس للمسرح الانجليزي. إذ يجمع النقاد والمشاهدون معا على أهمية قدرة هذه العروض على إطلاق طاقات الخيال الخلاقة التي تتفجر بها صفحات (ألف ليلة وليلة) وحكاياتها في فضاء المسرح؛ من خلال استلهامات الكثير من حكاياتها. فخلال العقدين الأخيرين وحدهما نجد هناك أكثر من عشرة أعمال استحوذ بعضها على اهتمام المسرح الانجليزي، وانبثق معظمها من قلب اهتمامات مبدعيه تعتمد على بعض جوانب (ألف ليلة وليلة) وبعض حكاياتها. لأن ما يبقى في ذاكرة المسرح الإنجليزي والأميركي منه على السواء هو هذا الخيال الجامح الذي لا يحدّ، خيال شهرزاد الذي يوقف عجلة الزمن، ويدرأ عنها بالقص الموت، ويقتنص في شبكته المغوية مخاوف شهريار ويروّض بطشه الأعمى. وهو خيال يقلب المسلمات المغرضة عن العالم العربي، لأنه يضع المرأة في مركز السرد ويطلق لخيالها العنان، ويمنحها دور ترويض الرجل أو بالأحرى الاستبداد. لهذا تقبض عليه الحركة النسوية في الغرب كمن عثر على «لقية» تعيد ترتيب علاقات الجنوسة الجائرة. هذا الخيال الذي اكتشف بساط ريحه الطيران قبل أن تعرفه البشرية بعشرة قرون، والعوالم الخيالية المخترعة قبل أن يخترع الغرب رواياته العلمية بعشرة قرون أيضا، لا يكف عن إشعال جذوة الشغف في المتفرج واستثارة حب استطلاعه لكل ما هو غرائبي وما يدور في عالم الحريم والسجاجيد الشرقية الباذخة والغواية.
تطرح هذه ورقة سؤالا جوهريا يتعلق بمدى حضور المسرح العربي في ذاكرة المسرح في العالم. وكيف يمكن تعيين هذا الحضور؟ وهو سؤال يتطلب بداءة تمحيص معنى الحضور ومعنى العالم معا. لأن للحضور تجليات مختلفة تبدأ بمجرد الحضور الفعلي للمسرح العربي بنفسه على شكل زيارات مختلفة لفرقة لبلدان العالم، وعرض ما لديها عليه، والتعرف على استجابات الجمهور المختلف أو المؤتلف له؛ وتنتهي بالحضور الفاعل في ذاكرة المسرح في مختلف بلدان العالم والتأثير في الأعمال المسرحية المكتوبة بلغة تلك البلدان.
حضور المسرح العربي في الدراسات الإنجليزية:
إذا ما انتقلنا إلى الجانب الثاني من أسئلة ورقة الملتقى حول حضور المسرح العربي في الدراسات والأبحاث الجامعية سنجد أن الإجابة ستكون بالتأكيد نعم. فليس لدى الغرب عموما، وانجلترا خصوصا أي غضاضة في الاعتراف بوجود المسرح العربي، والاهتمام به في الدراسات المتخصصة التي تهتم بتاريخ الشرق الأوسط وثقافاته. أو تلك التي يقوم بها من يسعون للتخصص في تدريس اللغة العربية وآدابها في الجامعات البريطانية أو الأمريكية، والذين يتنامى عددهم باستمرار. أو حتى في الدراسات التاريخية والمسحية التي تتحدث بصورة أساسية للطلاب والمتخصصين عما يدور في المسرح في شتى بقاع العالم. فهناك العديد من الكتب المنشورة بالإنجليزية عن هدا الموضوع، بل وفي غيرها من اللغات الأوروبية الحديثة. وقد دخلت إلى مكتبة جامعتي، وقد جعلتني الثورة الرقمية الحديثة قادرا على التريث عند رفوفها من أي مكان في العالم، أي «كلية الدراسات الشرقية والأفريقية» في جامعة لندن، وهي أكبر مكتبة متخصصة في دراسات قارتي آسيا وأفريقيا في العالم، وبها أكثر من مليون عنوان، فوجدت أن بالرفوف الخاصة بالمسرح العربي مئات من الكتب باللغة الانجليزية وغيرها من اللغات الأوروبية. ولو وضعت تعبير المسرح العربي في آله بحث بيع الكتب الشهيرة (أمازون) فسوف تجيء النتيجة بأكثر من 156 صفحة بكل منها 12 كتابا، أي أننا نتحدث عن أكثر من ألف كتاب، ركز بعضها عليه أو أشار بعضها الآخر له إشارات عابرة. أما إذا ما بحثنا عن المقالات الأكاديمية التي تتناول المسرح العربي في قواعد البيانات الجامعية المعتمدة فستكون النتيجة أكبر عددا بكثير. وقد حاولت البحث في أشهر قاعدة بيانات تبوب المقالات والأبحاث الأكاديمية المنشورة في الدوريات الجامعية الانجليزية والأمريكية المحكّمة وهي المعروفة باسم JSTOR وبحثت فيها عن مصطلح المسرح العربي فكانت النتيجة أن بها 202 صفحة تسرد ما نشر عن المسرح العربي. أي أننا بإزاء وجود علمي ملموس ومحترم للمسرح العربي في اللغة الانجليزية نتيجة جهود مشتركة لعدد من الباحثين العرب الذين يكتبون بالإنجليزية ويعملون في الجامعات الغربية منها والعربية، والباحثين الانجليز والأمريكيين المختصين بالموضوع نفسه. لكن السؤال الذي يطرحه هذا الوجود المحترم للمسرح العربي في المكتبة الأكاديمية الغربية: هل تجاوز هذا الوجود حدود المكتبة؟ وهل تحول إلى حضور في ساحة الاهتمامات المسرحية الغربية، إن لم يكن في ذاكرة المسرح الغربي؟ من العسير علينا الإجابة على هذا السؤال بنعم. وإن كان لوجود تلك الدراسات على رفوف المكتبة دلالاته التي تستحق التأمل، حتى ولو تُركت كي يتراكم عليها الغبار. لكنه سؤال وثيق الصلة بقضايا المثاقفة، سواء ما يتعلق منها بأدوار الأفراد أو المؤسسات. وبكل ما يتعلق بها من زيارات عربية للتدريب في المسارح الغربية، أو حتى زيارات فرق لتقديم عروضها للجاليات العربية المغتربة. وقد شاهد بعض تلك العروض في بريطانياوفرنسا، ولاحظت أن أغلب روادها من المهاجرين العرب، وقد يصحب بعضهم في حالات قليلة بل نادرة، ضيفا أجنبيا معه من أبناء البلد الذي يدور فيه العرض. فهذه الزيارات تحمل في ثناياها اعترافا بعلاقات القوى المسرحية السائدة. فالغرب المسرحي متقدم يجيء إليه المسرحي العربي كي يتعلم منه شيئا ما، ويتدرب في معامله ومعاهده ومسارحه كي يقدم مسرحا أفضل، حينما يعود إلى بلاده. والشرق المسرحي متخلف يجيء إليه الخبير الغربي كي يضيف له شيئا، أو في أحسن الأحوال كي ينفض التراب عما لديه من كنوز لا يعي هو نفسه، لتخلفه بالطبع، أهميتها؛ كما هو الحال في تجربة تيم سابل الشيقة ولكن الاستشراقية بامتياز مع (ألف ليلة وليلة).
حضور الواقع العربي في المسرح الانجليزي:
أما الحضور الأخير والذي لا يجوز إنهاء هذه الورقة بدونه، فهو حضور الواقع العربي في المسرح الانجليزي. وهو حضور ملموس. استطيع القول، بسبب متابعتي الوثيقة للمسرح الانجليزي في العقود الثلاثة الماضية، أنه يحظى بما لا تحظى به غيره من الثقافات الغريبة على الغرب: مثل أي من الثقافات الآسيوية أو الأفريقية مثلا. بما في ذلك الثقافات الآسيوية الكبرى مثل الصينية والهندية واليابانية. ربما لقرب العالم العربي من أوروبا، وربما لتشابك مصالحها ومصائرها معه. وسوف أتناول هنا جانبا واحدا، أو بالأحرى قضية واحدة من أحدث قضايا تشابك المصالح والمصائر تلك، ألا وهي مسألة تورط بريطانيا في عملية غزو العراق عام 2003. وهي عملية شائكة ومعقدة، أثقل تورط بريطانيا فيها ضميرها القومي والثقافي، بصورة أخذت أعراض مرض هذا التورط العضال تتجلى في انتاجها الأدبي والمسرحي. ليس فقط لأنها حرب استعمارية غير قانونية، تخالف الأعراف والقوانين الدولية فحسب، بل تشكل خرقا فاضحا لها ولغيرها من القيم الإنسانية. وليس لأن الكنيسة الانجليزية ذاتها باعتبارها ممثلة القيم الدينية والأخلاقية في هذا المجتمع لم تستطع أن تصنفها على أنها حرب عادلة، وكان أقصى ما وصلت إليه وقتها وتحت ضغوط سياسية مبهظة، أنها حرب مبررة، ولكن أيضا وأساسا لأن هذه الحرب جرى تسويغها بالأكاذيب ثم جرت بالرغم من المعارضة الشعبية الواسعة لها، وضد كل صور التعبير الديموقراطي الحر ضدها، ثم تعاقبت بعضها دلالات ما انطوت عليه من تورط وأخطاء. فقد خرجت ضدها في فبراير 2003 أضخم مظاهرة سلمية في تاريخ بريطانيا. فلم يسبق أن تظاهر أكثر من مليوني متظاهر ضد أمر من قبل، ولم يسبق أن شملت المظاهرات كل ألوان الطيف الاجتماعي والسياسي كما حدث في تلك المظاهرة الشهيرة التي شارك فيها ميلوني شخص من جميع المشارب والأعمار والخلفيات الاجتماعية والثقافية. ومع هذا، أو بالأحرى برغمه، شاركت بريطانيا في الحرب على العراق ضد تلك الإرادة الشعبية الواسعة. وهو ما ترك آثاره الدامية شعورا بالعجز والإحباط داخل هذا القطاع الواسع والواعي من الشعب البريطاني الذي يمثل خيرة الجماعة الواعية فيه من كل الشرائح والطبقات الاجتماعية. وما ان وضعت الحرب أوزارها، حتى ازداد الأمر تفاقما، فلم تسفر الحرب عن انتصار واضح أو نهاية مرغوبة أو معقولة، بل تكشفت بالتدريج عن وجهها الكابوسي. فسرعان ما أخذت كل الدعاوى الزائفة التي تذرع بها أنصارها ومن شنّوها في التهاوي واحدة وراء الأخرى. فلم يتم العثور على أي من أسلحة الدمار الشامل المزعومة، ولم يثبت أن النظام العراقي كان على علاقة مع تنظيم القاعدة، بل العكس كان ضد هذا التنظيم الذي تفشت تكويناته في الواقع العراقي بعد الغزو، ولم يكن لها وجود فيه قبله. ولم تجعل الحرب حياة المواطنين في الغرب أكثر أمنا واستقرارا كما وعد قادتها ومروجوها، بل تتابعت الهجمات الإرهابية على إسبانيا ثم بريطانيا، وتآكلت معها وبسبب ذرائع الحرب على الإرهاب الكثير من حريات المواطنين الذين أصبحوا يعيشون في مجتمع مراقب، أقرب ما يكون إلى أهجية جورج أورويل الكابوسية في هذا المجال (1984). ولم تتحقق الديموقراطية في العراق كما روج من شنّوها عليه، لتخليص الشعب العراقي من حكم استبدادي جائر ومنحه الحرية. بل تكشف الواقع الجديد عن كابوس فظيع يبدو معه كابوس الاستبداد أقل جهامة وأخف وطأة. بالرغم من أنه لا مماراة في أن العراق مثله في ذلك مثل كثير من جيرانه ممن تحالفوا مع الولايات المتحدة وبريطانيا في حربها ضده كان يعاني من الفساد والاستبداد وغياب الحريات. ولم ينعم الشعب العراقي بالحرية وإنما انزلق إلى وهاد المحاصصة الطائفية والعنف الدموي وحكم الغابة في كثير من مناطق العراق. وتمخضت الحرب عن مجموعة من النتائج المأساوية التي لم تخطر لمن شنوها على بال في أكثر كوابيسهم تشاؤما. فقد قوت الحرب عدو الغرب اللدود إيران ولم تضعفه. ووسعت نفوذه في العراق بالرغم من الولايات المتحدة، وضد كل استراتيجياتها هي وربيبتها الصهيونية. ولم تجلب الديموقراطية والحرية للشرق الأوسط، بل جلبت له الثيوقراطية والتطهير العرقي والمحاصصة الطائفية. ولم تجهز على الإرهاب بل غذّته وزادته اشتعالا، ولم يتوقف سيل الدماء الذي بدأ منذ طلقاتها الأولى عام 2003 حتى اليوم، فقد راح ضحيتها حتى الآن أكثر من مليون عراقي، وعشرات آلاف الجنود الأمريكيين والبريطانيين بين قتيل وجريح، كما تم تشريد خمسة ملايين عراقي في أربعة أرجاء المعمورة. وأخذ هذا كله يثقل كاهل الضمير الانجليزي الذي يعزي نفسه بحرصه التاريخي على احتلال الموقع الأخلاقي الأرقى، حيث وجد نفسه في درك أخلاقي لا يستطيع منه نهوضا. إلى الحد الذي شكا معه كثير من جنرالات الجيش الانجليزي وقادته من انهيار معنويات الجنود، لأنهم حتى بعد عودتهم من الجبهة العراقية لا يلقون تعاطفا من الجمهور العادي مع إنجازاتهم أو معاناتهم أو محنتهم. ولا اعترافا بتضحياتهم من أجله، وهو وهم حرصت المؤسسة العسكرية على رعايته طوال حروبها العديدة على مد تاريخها. فقد أخفقت الآلة السياسية الضخمة، وتحالف قطاعات واسعة من الإعلام الانجليزي معها في اقناع الشعب الانجليزي الذي يتسم بقدر كبير من البساطة والبراجماتية، بأن هؤلاء الجنود الذين يموتون أو يُشوّهون، أو يعانون في العراق يفعلون ذلك من أجله. فقد كان شعار المظاهرة المليونية الضخمة التي خرجت لمعارضة الحرب في فبراير 2003 هو لا تشنوا هذه الحرب باسمنا. وها هي المؤسسة العسكرية تشكو من أن من تتصور أنها تحارب باسمه أي الإنسان العادي لم تعد تنطلي عليه أكاذيبها. وإذا كان هذا هو حال الإنسان العادي والجنود العائدين بعد أن سحبت الحكومة معظمهم، بالرغم من تحالفها الوثيق مع الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الضمير الثقافي كان أسرع تململا وأقوى تعبيرا عن الموقف الجمعي المتذمر من تلك الحرب. فقد أخذ يعبر من البداية في شتى صيغ التعبير الأدبي والفني عن رفضه للحرب، ويعري سوءاتها، ويحذر من عواقبها. ولأن موضوعي هنا هو المسرح، فلابد من الإشارة إلى أن المسرح كان من أسرع الأشكال الفنية تعبيرا عن هذا القلق والتململ. فلم يكن المسرح في حاجة إلى انتظار كتابة أعمال جديدة، وإن جاءت هذه الأعمال بعد أقل من عام من انتهاء الحرب ثم توالت بعد ذلك، وإنما لجأ بسرعة إلى كلاسيكيات المسرح الكبيرة يعيد عرضها بتأويل إخراجي لا يخطئ الجمهور دلالاته بالنسبة لحرب العراق. وقد شاهدت في السنوات التالية لاحتلال العراق العديد من تلك العروض من مسرحيات شكسبير التاريخية التي كانت تنفذ بملابس عسكرية حديثة وكأن حروبها تدور في الساحة العراقية، إلى رائعة يوربيديس الشهيرة (الطرواديات أو نساء طروادة) التي قدمها المسرح القومي وكأنها تجسد اليوم معاناة نسوة العراق، بسبب حرب لا تقل عبثية عن الحرب الطروادية التي شنت بسبب أمرأة تركت زوجها، لأنها وقعت في هوى شخص آخر. إلى مسرحيتى برنارد شو (القديسة جون) و(الميجر باربارا) وقد منحتا تأويلات عراقية جديدة، خاصة في (الميجر باربارا) التي تبرز دور صناعة الأسلحة، والتي تحالفت مع صناعة النفط في شن تلك الحرب الجائرة على العراق. كان هذا في العامين الأولين ثم تتابعت بعدها المسرحيات التي تتناول هذه الحرب بشكل نقدي مباشر، لا في بريطانيا وحدها، وإنما في الولايات المتحدة كذلك التي كانت مسرحياتها من هذا النوع تحظي بإخراج بريطاني وهي لاتزال تعرض في أمريكا. ولا أستطيع هنا أن اقدم حتى مجرد قائمة بأسماء تلك المسرحيات، دون الخروج عن موضوعي، فهي كثيرة ومتتابعة كما قلت. فمنذ عام 2005 وحتى الآن لا يمضي موسم دون أن تظهر فيه عدة مسرحيات جديدة تتناول حرب العراق، لا في المسرح التجريبي أو الهامشي وحده، وإنما على خشبة المسرح القومي نفسه الذي كان أول من قاد هذه الموجة بإخراجه لريتشارد الثالث على خشبة المسرح القومي، وقد ارتدي الملك وجيشه ملابس الجنود العصرية فور تورط بريطانيا في الحرب، وبتقديمه مسرحية دافيد هير (تلك الأشياء تحدث Stuff Happens) التي مسرحت أحداث شن الحرب وكشفت عن أكاذيبها، وعرت تناقضاتها. وقد توالت تلك الأعمال حتى بلغت ذروتها في تلك الملحمة المسرحية التي تتكون من ست عشرة مسرحية قصيرة عرضت طوال شهر أبريل 2008 في أربع مسارح وهي المسرحية التي اود أن أتوقف عندها بشيء من التفصيل. فمسرحية الكاتب المسرحي مارك ريفينهيل Mark Ravenhill الجديدة (إضرب/ خذ الكنز/ كرر العملية Shoot/ Get Treasure/ Repeat) عمل مسرحي طموح بكل معنى الكلمة، لكاتب جديد من أكثر كتاب المسرح الانجليزي الجدد جرأة وحيوية. ويستمد عمله الجديد اسمه من عمليات برمجة الألعاب الرقمية الجديدة على الكومبيوتر وغيره، من آلات اللعب المشابهة التي يدمنها قطاع واسع من الأحداث واليافعين. وقد استقى العنوان من اجتماع لمسوقي ومنتجي هذه الألعاب لمناقشة الشكوى من كثرة الكلمات بها. وفي هذا الاجتماع طلب أحد المديرين من المبرمجين الاهتمام بجوهر اللعبة وهو (اضرب، اقتنص الكنز، وكرر العملية). وتلخص هذه الألعاب في بنيتها الدائرية السيالة معا جوهر هذه البرامج الكثيرة التي تدر على أصحابها الملايين، وهو كما يقول العنوان بحق (اضرب، اقتنص الكنز، وكرر العملية) من جديد في نوع من دورة العبث التي لاتنتهي. وهو عنوان دال حيث أنه يومئ إلى مبدأين أساسين في اللعبة: لعبة الحرب على العراق، ولعبة البرامج الكومبيوترية معا، فغاية كل ضرب فيها هو الحصول على الكنز/ اقرأ النفط في حالة العراق، لكنك ما أن تحصل على الكنز حتى يفتح الأمر شهيتك لمزيد من اللعب/ العدوان، في دورة جهنمية لا نهاية لها، تؤدي إلى نوع من السعار الممزوج بالعمى. وقد بدا العمل بحفنة من المسرحيات في مهرجان إدنبرة المسرحي في عام 2008، ولكنه واصل العمل على مسرحيات جديدة حتى بلغ عددها ست عشرة مسرحية، مما جعله يدعوها بدورة ملحمية من مسرحيات قصيرة An Epic Cycle of Short Plays. وهي بالفعل دورة ملحمية من المسرحيات المتجاورة والمتحاورة، لا بالمعنى السائد للملحمة باعتبارها عملا بطوليا، لأن هذا العمل المسرحي هو بالدرجة الأولى عمل لنفي البطولة بمعناها التقليدي القديم. ولكن بالمعني البريختي للمسرح الملحمي الذي يتوجه للمشاعر من خلال العقل ويطلب من المشاهد قدرا كبيرا من الفاعلية لا التلقي السلبي. وهو عمل يسعى فيه المسرح للقيام بدوره في كشف الوجع الاجتماعي العميق من ناحية، وفي خلق عمل يناظر في بنيته الإبيسودية طبيعة هذا الوجع وتفتته وتشتته وتشظيه. ويتكون العمل من ست عشرة مسرحية قصيرة طول الواحدة منها نصف ساعة، وتعرض كل مسرحيتين منهما معا، في أربع مسارح من مسارح لندن الرئيسية (وهي المسرح القومي، ومسرح الرويال كورت، ومسرح الجيت، وفرقة بينزبلاو Pains Plough المسرحية). يعرض كل منها زوجين من هذه المسرحيات، أحدهما تدور في العراق بينما تدور الثانية في بريطانيا عادة. وتكشف المسارح الأربعة التي تشارك في هذا العمل الملحمي أن الكاتب حريص على الموازنة بين المسارح الكبرى من المسرح القومي والرويال كورت، والفرق التجريبية التي يعد مسرح الجيت وفرقة بينزبلاو من أكثرها جدية وشهرة. إذن فنحن بإزاء عمل احتضنته أكبر مسارح بريطانيا وألمع فرقها التجريبية الجادة. وهو في الواقع عمل يستحق هذا الاحتفاء. لأنه استطاع أن يقتنص في بنيته قبل موضوعه جوهر القضية التي يتناولها، وأن يستشرف في الآن نفسه تغير الحساسية المسرحية. فنحن إذن بإزاء عمل يدور لا في مسرح واحد، وإنما في أربع مسارح مختلفة، يستطيع المشاهد الحريص أن يشاهدها جميعا على مدار الشهر، ولكن ليس من الضروري أن يفعل ذلك، لأن كل ما يشاهده له استقلاله النسبي، وهو عمل ممتع في حد ذاته. خاصة وأن كثيرا من المسرحيات التي تدور في بريطانيا تبدو وكأنها لاعلاقة لها في أغلب الأحيان بالحرب وتبدو بعيدة عنها كل البعد، ولكنها متصلة بها في الوقت نفسه، بطريقة مراوغة وماكرة. فهناك أربع مسرحيات في كل مسرح من المسارح الأربعة التي تتناثر في شتى أرجاء العاصمة البريطانية، ولأنها مسرحيات قصيرة فإن كل مسرحيتين تعرضان معا. وقد كان من الممكن أن تعرض هذه المسرحيات في عرض طويل يستغرق نصف يوم أو حتى نهار كامل، لكن كيفية عرضها بهذه الطريقة الفريدة التي تتبعثر فيها أشلاؤها في أربعة أرجاء المدينة يجعل بنية العرض تناظر بنية أثر الحرب على المجتمع الانجليزي، وهو أثر متفرق يتخلل أرجاء المجتمع كله، ويؤثر على حياته بطريقة يصعب تجميعه معها في بنية خطية أو تسلسل طبيعي أو منطقي. ويتوزع بين جبهة الحرب في العراق وساحة المجتمع الانجليزي بتنويعاتها الواسعة. بل إن برنامج المسرحيات، يقول أنه يمكن للمشاهد أن يشاهد هذه المسرحيات أو يقرأها بأي ترتيب يشاء، فلكل مسرحية استقلالها عن المسرحيات الأخرى، ولكنها جميعا تكشف لنا عن هذا الأثر المعقد والمركب والمراوغ لتلك الحرب على المجتمع الانجليزي. وكيف يتغلغل في جغرافيا المجتمع المكانية والاجتماعية والبشرية معا. ومع أنه من المستحيل الحديث بأي قدر من التفصيل عن عمل بهذا القدر من التراكب والتشابك والتعقيد، ينسج تفاصيل الوجع القومي الناجم عن شعور قطاعات كبيرة ممن عارضوا الحرب ولم يستطيعوا التأثير على قرار مجتمعهم بشأنها بالعجز والإحباط، لأن كل مسرحية من مسرحياته الست عشرة تستحق التوقف عندها وتمعن كل تفاصيلها ودلالاتها المختلفة. فأنني أود أن أشير إلى أن أكثر ما أعجبني في هذا العمل هو أنه من الأعمال الأدبية القليلة التي تستشعر في بنيتها قبل موضوعها تغيرا جذريا في الحساسية الفنية، وتسعى إلى طرح حلولها الدرامية له. وسوف يبقى هذا العمل في ذاكرة المسرح الانجليزي مرتبطا بموضوعه العربي. قلت أن العمل يتكون من 16 مسرحية قصيرة، لكل منها استقلالها الدرامي كمسرحية من فصل واحد، ولكنها كلها تتفاعل وتتحاور وتتكامل في بنية غير خطية تعتمد على جدل التغاير والتجاور. ويستطيع كل مشاهد أن يخرج منها بفهمه الخاص وانطباعه الناتج عن الترتيب الذي شاهدها به وإن كان جل المشاهدين الذين تتبعوا هذا العمل وطاردوه في أنحاء لندن وأحيائها المختلفة وانا منهم قد شاهدوا المسرحيات الثمانية الأولى بنفس الترتيب، لأن المسرحيات الأربع التي عرضها المسرح القومي عرضت أولا، ثم عرضت بعدها في الأسبوع التالي مسرحيات الرويال كورت الأربع، أما المسرحيات الثمانية الأخرى قد تزامن عرض سبعة منها معا في الفرقتين التجريبيتين، وأذيعت المسرحية الأخيرة بعد انتهاء عرض جميع المسرحيات في البرنامج الثالث، وهو البرنامج الثقافي، في راديو هيئة الإذاعة البريطانية. وإذا كان العمل كله يحمل اسما واحدا (أضرب/ اقتنص الكنز/ كرر العملية) وهو العنوان الذي يحمله الكتاب المطبوع الذي ضم بين دفتيه المسرحيات كلها، وكان يباع بسعر مخفض «أقل من نصف ثمنه» أثناء تلك العروض. فقد لجأ الكاتب إلى حيلة تناصية دالة في تسمية مسرحياته القصيرة عن طريق استعارة اسماء أعمال مشهورة لأغلب مسرحياتها. فهناك (الجريمة والعقاب)، و(الفردوس المفقود) و(الأوديسة) و(بناء الأمة) و(الميكادو) و(الأم) و(الطرواديات) و(نساء عاشقات) و(الحرب والسلام) و(حرب العوالم) وهكذا. وتوشك العلاقة التناصية مع تلك الأعمال أن تكون علاقة تضاد أو مفارقة لإرهاف وعي القارئ بمدى التغيرات القيمية والموقفية التي انتابت الواقع المعاصر. والواقع أن هذه المسرحيات تقدم لنا تفاصيل تلك البانوراما الواسعة التي تتبع آثار تلك الحرب الدامية على المجتمعين الانجليزي بالدرجة الأولى والعراقي بالدرجة الثانية، وتمارس معظمها تناصها مع الأصول التي أخذت عنها عناوينها إما بالتضاد والمفارقة، أو بالتماثل والحوار كي توسع أفق التجربة الدرامية، وكي تبقيها فاعلة خارج مواضعات اللحظة الحضارية والتاريخية التي صدرت عنها. وكل ما قدمته بصددها هو مجرد إطلالة سريعة أن تستثير القارئ لقراءتها، أو حتى المترجم لترجمتها إلى قراء العربية. فهذه الدورة الملحمية من المسرحيات القصيرة تستحق الترجمة بحق، لأنها تقدم ردها البليغ على ما في الخطاب السياسي والإعلامي عن الحرب من سخف وضحالة، وتكشف عن خواء كل الشعارات التي تذرعت بها بريطانيا لتبرير حربها العدوانية على العراق، والتي يعاني منها المجتمع الانجليزي، كما عانى منها المجتمع العراقي المكلوم