ماذا يعني أن تكون فرنسيا؟ يبدو هذا السؤال غريبا لدولة مثل فرنسا.. ولشعب مثل الفرنسيين.. قاما منذ مائتي عام بتعريف نفسيهما بوضوح.. وقد لا توجد أمة عرفت ذاتها قانونيا وفكريا وسلوكيا كما فعلت فرنسا. ومن المفارقة.. أن يكون الشعب الذي شكل هويته من أضلاع (الحرية والمساواة والأخوة).. قد أنجب أخبث استعمار عرفته الدنيا.. يملك ''فيروسا'' يهاجم خلايا الهوية الوطنية للآخرين.. ليدمرها.. ويشل مناعتها.. ثم ينتهي إلى تسخيرها.. وإحالتها إلى خادم مطيع.. يحقق أغراضه الشريرة. لقد سعى في اجتثاث هويات الآخرين.. وسلخ جلودهم.. ليتركهم بلا انتماء وبلا لغة.. بغير زمان حقيقي ينتسبون إليه.. وبلا قيم وطنية يعتنقونها. كل الشعوب التي دخلت جحيم هذا الاستعمار.. خرجت منه بعد أن فقدت الكثير من جلدها وصوتها وسمتها.. فاستعارت شكلا أجنبيا بدلا عن شكلها الأصلي.. وتبنت صوتا آخر غير صوتها.. وتماهت في الأجنبي الفرنسي.. حتى لم تعد تعرف معنى لوجودها خارج صورته.. وأسلوبه في الحياة .. لقد تحول أغلبها إلى كائنات مستعارة.. تكاد لا تشبه شيئا.. ولا تملك تعريفا لنفسها.. من تكون؟ وماذا تريد؟ وكيف يجب أن تعيش؟ ٌٌٌٌ من حق الفرنسيين أن يتساءلوا عن هويتهم .. ربما تبدلوا كثيرا منذ أن شنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس.. فلم يعودوا فرنسيين كما كانوا من قبل.. ولم تعد القيم الجمهورية تعني الكثير بالنسبة إليهم..! وربما استشعروا خطرا داخليا يتهددهم .. بفعل المهاجرين الآتين إليهم من زوايا الأرض الأربع.. فتوشك فرنسا ألا تكون فرنسية..! وقد يكون البحث عن التميز.. واختراع شيء جديد لم يألفه الآخرون هو الداعي إلى التفتيش عن هوية فرنساالجديدة..! في كل هذا.. كان مما أثار انتباهي في الخلطة الفرنسية التي أعدها ساركوزي للفرنسيين.. هو ما أبان عنه استطلاع صحيفة فرنسية من أن (ثمانين في المائة من الفرنسيين يعتقدون أن اللغة هي المكون الأساسي للهوية الفرنسية يليها الإيمان بمبادئ الجمهورية والعلم والعلمانية). والأمر الآخر هو هذا التركيز على ما يسمونه ''البرقع''.. أي ما تضعه بعض المسلمات على رؤوسهن كي لا يبدو شيء من وجوههن.. بحكم السؤال الموجه للنساء في هذا السياق: (هل يمكن أن تكوني فرنسية وترتدين النقاب؟). ٌٌٌٌ إن دولة عريقة كفرنسا تتساءل عن هويتها.. لهو من الدواعي التي تحفزنا نحن على طرح السؤال ذاته على أنفسنا.. بسبب أننا كنا دائما في عين الإعصار الفرنسي.. إما لاعتبارات تاريخية، حيث شكلنا الطبق المفضل على مائدة الاستعمار الفرنسي. ولأن الأعداد الضخمة من الجزائريين الذين يعيشون في فرنسا.. يشكلون الثروة البشرية الثمينة التي تريد فرنسا امتلاكها بعقد ثقافي وسياسي .. بعد قولبتها في إطار يسمونه الاندماج. أو بسبب الصراع الثقافي الخفي الذي يحتدم عندنا.. بين أرض جزائرية ترفض الانتماء إلى الأشياء الفرنسية لغة وسلوكا وثقافة.. وأقلية موتورة جادة فيفرض الهوية الفرنسية على الأرض.. وتفصيل الإنسان على مقاس أسئلة ساركوزي. في السياق العام لأسئلة الهوية هذه.. تقف اللغة والدين في المقدمة.. إنهما الشيئان الجوهريان في كل نقاش.. ومحور حركة عناصر الهوية الأخرى. ٌٌٌٌ من المفارقة أن نجد أنفسنا نحن الجزائريين على هامش الأشياء الحيوية دائما.. إذ لم يعد الجزائري يعنيه تعريف نفسه من يكون.. أو البحث عن صورته خارج بطاقة التعريف التي يضعها في جيبه.. أو التساؤل عما يلحق لغته العربية من انتهاك وإهانة.. وما يعانيه دينه الإسلامي من محاولات تفكيك وتهميش..! لماذا يتحرك الجزائري خارج نطاق الأسئلة التي تعنى بهويته..؟ ولماذا لا يبحث عن إجابات لما يطرأ من وقائع مرعبة تجره خارج مربعه التاريخي والحضاري..؟ إن العلم الوطني واحد من رموز الهوية الوطنية.. فحيث يعلو ثمة شيء اسمه الجزائر.. وما كشفت عنه الأحداث الأخيرة بين مصر والجزائر.. يحمل عنوانا كبيرا لمدلول الهوية الوطنية.. فهذا العلم كان في كل مكان.. وحتى الذين لم يكن يعني بالنسبة إليهم شيئا.. بحثوا عنه واقتنوه بما لديهم من مال. لم يفعلوا هذا بإكراه من الحكومة.. بل بإرادتهم الخاصة.. اكتشفوا أنه يرمز إلى شيء كادوا يفقدونه.. شيء يجمع بينهم.. يميزهم.. ويصلهم بتاريخهم.. ويضعهم في مربعهم الخاص.. لذا لجأوا إليه.. وتبنوه بقوة. أليس هذا ما يجب أن تنتبه إليه الحكومة؟ الحاصل أن ما تريد فرنسا تأكيده لنفسها.. ويتعلق الأمر هنا باللغة الفرنسية تحديدا.. وبالتضييق على المظاهر الإسلامية أيضا.. تعرضه عليها بعض الأطراف عندنا مجانا..! أليس مما يثير الاستغراب إلى حد الاشمئزاز أن تمكن الفرنسية على حساب العربية.. وتحقق عودة وانتشارا في الإدارة والجامعة والمدرسة ولغة الشارع بصورة لا مثيل لها؟ ٌٌٌٌ من حق فرنسا أن تبحث عن هويتها.. لكن لماذا نبحث نحن عن فرنسا؟! ألم نولد من رحم غير الرحم الفرنسية؟ نريدهم أن يجيبونا عن هذا السؤال.. وهذه بداية البحث عن هويتنا.