لا تجد الأنظمة العربية أحسن من تعريف سوروكين الذي يرى أن الثورة فيها شذوذ وانحراف، تماما كما يرى فيليب جوستاف أنها جهد ضائع، لأن المجتمع يمكنه أن يتحصل على مطالبه دون التضحيات والخسائر التي تطلّبتها الثورة· بينما جاء تعريف الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو للثورة بتعبير آخر فهو الذي يرى أن الطغيان هو النظام الطبيعي في الثورات، رغم أن نظرياته أثرت في نظام الحكم بالولايات المتحدةالأمريكية وفلسفته تحولت إلى مرجعية فكر لقادة الثورات الشعبية التي عرفتها أروبا منتصف القرن التاسع عشر· ورغم أنه مفكر الثورة الفرنسية الذي يحب القذافي مثلا مطالعة كتاباته، فإنه لم يتردد عن إطلاق هذا الوصف المثير على الثورة·ويختلف التعبير الفلسفي ووجهات النظر من مفكر وقائد لآخر حول الثورة، فهذا ماكسمليان روبسبير الذي يوصف بسفاح الثورة الفرنسية (توفي وعمره 36 سنة)، هذا المحامي الفرنسي يرى أن الثورة حرب الحرية ضد أعدائها، وهذا وصف مزعج بطبيعة الحال لأنه يمنحها شرعية تصفية الخصوم· أما جورج سوبر بيتي فيؤكد أن الثورة هي إعادة بناء الدولة، بل إن العقيد القذافي في تنظيره للثورة لم يتردد في اعتبارها علم لتغيير المجتمع، لكنه قمعها عندما دقّت أبواب سلطانه·وفي هذه الظروف التي يمر بها العالم العربي والمتّسمة باشتعال فتيل الثورات من تونس إلى مصر وليبيا ثم اليمن وسوريا والبحرين، رافقت هذه الثورات مفردات دخلت قاموس التعامل الرسمي معها، من الأجندات الأجنبية إلى القنوات المأجورة مرورا بحفنة الخونة والعملاء، لذلك شكلت هذه المصطلحات لغة التعامل الرسمي مع الثائرين والشعوب الغاضبة، هذا التصوّر أدى إلى أزمة فهم واستيعاب لدى الحكومات، وفتح هذا الأمر باب التعفين السياسي والأمني إلى درجة دخول حرب غير محسوبة النتائج كما نراه في الحالة الليبية· كما عكست أزمة فهم رسمية متأخرة لما تريده الشعوب من وراء ثوراتها، وهو ما أدى إلى ارتفاع فاتورة تلك الثورات وفي الحالة الليبية وصلت درجة التدخل الأجنبي لحماية المدنيين من جنون ''الأخ القائد''، كما قد تفتح باب حروب لا نهاية لها في دول أخرى إذا تواصل الفهم المتأخر لمطالب الجماهير الثائرة التي تتعامل مع الثورات بمنطق السبق ونزعة الأنا الشعبية في إشعال فتيلها، وهذا ما يجعل الكثير من المفكرين والدارسين يتنبأون بالمزيد من الانفجارات الشعبية التي قد تظهر العالم العربي على أنه ضحية مؤامرة مثلما بدأ يتشكل هذا الحكم أو الفهم لدى فئات معينة، لكنه في الحقيقة استفاقة قد تدفع العالم العربي نحو مرحلة سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة على الطريقة التي عاشتها دول غربية عدة خلال القرن التاسع عشر فقد عاشت أوروبا غليانا شعبيا ضد أنظمتها، في فرنسا ثار الناس على الحكم حينما طالبت الأحزاب والطبقات العمالية بإصلاحات سياسية داخلية وموقفا حازما من الملك فليب ضد الإنجليز، وعندما رفضت الحكومة تلك المطالب خرجت الجماهير في عصيان مدني شامل انتهى به المطاف إلى ثورة مسلحة وقف فيها الحرس الأهلي إلى جانب الثوار، فهرب الملك إلى بريطانيا تاركا العرش لحفيده· وفي نفس العام 1848 اندلعت الثورة الدستورية في النّمسا وأجبرت مترنيخ على الفرار إلى بريطانيا وأذعن الإمبراطور لمطالب الثوار فرفع الرقابة عن الصحف ووافق على وضع مجلس تأسيسي ودستور جديد للبلاد فتح أمامها آفاق التطور والتقدّم، ولم يظهر من يقول إنه نكران لتاريخ النمسا والإمبراطور رغم الانقلاب الإمبراطوري الذي جاء بعد ذلك لكن سيطرة الملكية لم تدم طويلا في هذا البلد لأن روح التغيير غلبت على المجتمع· وفي المجر وعلى الرغم من سحق الثورة هناك، إلا أنها فتحت أبواب التطلّع والتغيير على أروبا· كما عرفت إيطاليا ثورة تمرد أنماط الديكتاتورية تلك الثورة التي عبّأت الإيطاليين ضد كل أشكال الظلم· أحببت أن أعرّج على هذه المحطات والتي كتب عنها الكثير من المؤرخين والمفكرين حتى باتت معروفة للجميع، لكن إعادة قراءتها على ضوء الأحداث الحاصلة في العالم العربي، تعكس مبدأ طالما ردّدناه· إن العودة إلى أنماط الحكم القديمة في أي بلد عربي·· مستحيل·· مستحيل·· من يفكر بالإبقاء على نمط العائلة الحاكمة والحزب الحاكم يراهن على الفشل، بل يفتح باب حرب طاحنة من أجل الحرية، لا يمكن بعد هذا الشوط الذي قطعته الثورة في العالم العربي الإبقاء أو حتى محاولة الحفاظ على الأساليب القديمة في الحكم أو التعامل مع الجماهير، هنالك ثورة في الإعلام الشعبي، ووعي لدى الجماهير، واتصال فعال يتجاوز كل ما تضع الحكومات يدها عليه·· لذلك يبدو الوقت مناسبا للنظام العربي تسريع وتيرة ''الفهم السياسي'' لطبيعة المرحلة التي تمر بها الأمة العربية·