قد يتحول الحاضر إلى متاهة ودروب مسدودة.. لو قررنا يوما إغراقه بسيل من "انحرافات" الماضي. يجب أن نضع التاريخ قريبا منّا.. وأن نتناوله برفق كلما دعت الحاجة إلى ذلك.. لكن دون أن نتركه يبسط سلطانه علينا.. أو أن يصبغ بفرشاته ملامح أفكارنا. لا يقبل إطلاقا أن نستدعي الموتى من قبورهم.. ليقرروا بدلنا.. بفهمهم الخاص.. وبانحرفاتهم.. وبجنونهم أحيانا. الأحياء الذين يقبلون الانجرار إلى الخلف.. أو الانسياق وراء التاريخ بعيون مغمضة.. محكوم عليهم أن يموتوا في زمان غير زمانهم.. وأن يرتدوا ملابس غير ملابسهم.. وأن يواجهوا استحقاقات القرن الحادي والعشرين بمقتضايات العيش في زمن عاد وثمود. بعض الناس يتخيلون الدنيا كائنا ثابتا في موقعه كالشجرة.. أو مثل البالوعة حيث تيار الماء يلتف حول نفسه لينهار إلى الأسفل.. فلا شيء يتبدل.. ولا جديد يمكن أن تشرق عليه الشمس اليوم أو غدا.. والتاريخ مغلق ومكرر.. وما البشر سوى قطع غيار كلما اهتلكت واحدة استبدلت بأخرى. كلما تنلقت في المنطقة منزوعة السلاح بين الشيعة والسنة.. اكتشفت ماذا يعني الاصطدام بجبل من التاريخ يعلو ألف سنة أو يزيد.. بركامه من الصراعات والأفهام الخاطئة والغلو والأوهام والجنون المسلح بالخناجر والبارود.. فمن يقدر على الصعود إلى أعلى وينحدر إلى أسفل؟ لم يعمل التاريخ بعنف.. كما عمل بين الشيعة والسنة.. وقف سورا منيعا بين الطرفين.. وراكم أكداسا من التوجس الذي لا يزال يغذي زراعي الفتن.. أولئك الذين يسعدهم مشهد السيوف وهي تخطف الرؤوس.. ويجتهدون في مد المسافات بين أتباع الدين الواحد. لو وضع التاريخ جانبا.. لانتهى الخلاف بين السنّة و"الشيعة الإمامية" حالا وإلى الأبد.. ولانطفأت نار الفتنة التي ظلت مستعرة ألفا وأربعمائة سنة.. ولكف الناس عن رمي بعضهم بعضا بالحجارة الملتقطة من عباءة التاريخ. في فهمنا للإسلام.. قد نتوارى خلف أهوائنا.. ومن هناك نطل برؤوسنا.. لنومئ إلى الخارجين على الدين.. بأن اللّه لن يغفر لهم.. فيصبح الشيعي ضالا.. والسنّي مارقا. ويصير من الواجب الديني أن نطرد هؤولاء وأولئك من المنطقة التي حيّزت بالوراثة.. وبموجب فهم خاص للنصوص والأحداث. نعبئ عقولنا بقذائف التاريخ التي نرمي بها أعداء الدين من "الرافضة" ومن أعداء الحسين على السواء.. أما المشركون فلا مانع من عقد السلام معهم.. ومخاطبتهم بالحسنى..! *** الإسلام بريء من معاركنا.. ومن تصنيفاتنا.. ومن أسلوب قراءتنا للتاريخ.. ومن طريقة تعاملنا مع الواقع.. ولن يكون سيفا يمنح النصر لطائفة على حساب أخرى. لقد طلب المسلمون الأوائل سيوفا تتكلم.. لتقول إن هذا على باطل.. حتى يقاتلوا.. وفي ذورة الهجمة التي شنها الخوارج على علي رضي الله عنه.. قال عنهم "هم إخوان لنا بغوا علينا". الذين جاؤوا من بعده.. وباسمه طبعا.. بكوا على مصرع الحسين عليه السلام.. ثم بادورا إلى سيوفهم يعملونها في أجساد خصومهم السياسيين.. وجاء أيضا من يحصر المسلمين الحقيقيين في فرقة واحدة ناجية.. أما الفرق الأخرى فمرمية في النار. هكذا جرى الاستثمار في الخلافات.. ونسي الناس الكتاب.. والنبي الواحد.. وتفرقوا على هوامش التاريخ يفتشون عن سياج يفصلون به بين حيازاتهم. *** بين الأمس الذي لا تعنينا أوزاره.. واليوم الذي ننوء بتبعات ما نقترف فيه.. لم يتغير إلا القليل.. ما طرأ فعلا هو دخول أبو جهل جديد على الخط.. هذه السياسة العربية التي ترفض الدين.. وهؤلاء السلاطين الذين لم يحكموا يوما بما أنزل الله.. ولا جلسوا على كرسي الحكم بإرادة الأمة.. لكنهم يتحولون إلى سنة من الدرجة الأولى عندما يتعلق الأمر بإيران وحزب الله.. كما صور ذلك عربي فتش عن مبررات لقطع علاقاته مع إيران.. فادعى أن الشيعة يتآمرون على عقيدة الشعب.. ونتساءل كيف يصح الحديث عن الإسلام ممن شيد سجن تازمامارت.. وحشر فيه خلق الله ليذوبوا في الظلام قطرة قطرة..! في مصر.. يتحول الإخوان المسلمون إلى إخوان الشياطين في نظر الحاكم.. وهم عامة أهل السنة.. لكن عندما يتعلق الأمر بحزب الله.. فإن هذا العدو الشيعي يجب أن يحاكم.. ويطلب رأس زعيمه بأي ثمن.. أما نتانياهو فحمامة سلام بيضاء!. في السعودية يكفر عادل الكلباني الشيعة.. وتنزل الهراوات الغليظة على زوار البقيع بدعوى البدعة.. لكن لا أحد تجرأ علي القول إن أكبر بدعة هي فصل السياسة عن الدين.. وإن أبشع السرقات هي ما يغله الحاكم من أموال الشعب.. وإن الاستبداد جريمة.. وإن الفقهاء الذين يترجمون رغبة السلطان ويتسترون على هواه هم شركاؤه في الجريمة. *** عندما كان صدام في الحكم.. اضطهد الجميع... وكان يوصف بأنه سني.. لكنهم لم يقولوا إن البعث لا دين له.. وعندما جاء من يرث سلطانه على ظهر الدبابة الأمريكية اضطهد السنة بعباءة شيعية. لقد تبادلت الشياطين الأدوار.. فأتباع الحسين المظلوم افتراضا أضحوا سفاحين بالجملة.. فملايين المنفيين في عهد صدام..استبدلوا بملايين قتلوا أو هجروا في زمن ورثة بريمر.. ولاتزال الدماء الغزيرة تسيل.. فريح الجنة على بعد ثانية من رائحة الدم! في الشام.. حيث يحكم العلويون.. تم نفي الألوف من منتسبي حركة الإخوان.. واضطهد الكثيرون من عامة السنه.. وليس وراء ذلك إلا شهوة السلطان تتماهى في المذهب وفي الطائفة.. ليظل السيد الحاكم حاكما إلي الأبد.. والمحكوم محكوما إلى الأبد. *** إن الولاء للحسين عليه السلام لا يتسنى بالبكاء علي أطلال موته.. غير أن من أراد البكاء فليفعل ما دامت دموعه لا تجرف الآخرين. خرج الحسين إلي العراق بحثا عن أرض تتسع لرفضه وندائه.. فاستشهد هناك.. ولن يذهب دمه الشريف هدرا.. فكم من صديقين أنبياء قتلوا في سبيل اللّه. ولايزال الحسين إلى اليوم رمزا لمقارعة الاستكبار ونبذ الذلة.. وهذا من قيم الإسلام الكبرى... فمن كان عبد اللّه... لن يكون عبدا لغيره أبدا. فهل يجوز لمن يسير على نهج الحسين أن يذل الناس في شوارع بغداد.. وينكل بهم.. ويسلبهم مساجدهم ودورهم وأموالهم.. ويجبرهم على الرحيل إلى المنافي البعيدة.. بادعاء أن هؤلاء سنة.. وهم من أشياع صدام حسين!. لقد تبدلت العباءات والعناوين.. وبقيت مضامين الظلم ثابتة.. ما فعله البعث الذي ينكر الدين.. يفعله التشيع السياسي الذي ينكر التسامح والعفو.. ولا تسع صدره إلا للحقد والضغينة. السيف الذي قاتل به الحسين في كربلاء.. ليس هو السيف الذي قطف به الحجاج رؤوس خصومه.. سيبرأ الحسين من المنتسبين إليه زورا.. كما برئ المسيح من النصارى الذين يزرعون الكراهية.. ويعلنون محبته!!. *** السنة ليست عنوانا لتكفير الشيعة.. ولا تصنيفا في خانات الخلاف المذهبي.. لكن ماذا نقول عن الساكتين عن الحق.. حين يتعلق الأمر بموالاة أعداء الله.. والانهزام أمام إسرائيل.. والتفريط في فلسطين.. والاستبداد .. وسرقة أموال الشعوب؟ إن السني الذي يصافح الأمريكان والإنجليز بحرارة.. ويفرش البساط الأحمر لنتانياهو.. ويقضم أنامله كلما سمع اسم حزب الله أو إيران.. مطالب بمراجعة موقعه.. فلعله لا يصلي إلى الكعبة الشريفة.. إلا وهو يطوف حول البيت الأبيض! إن الفقهاء الذين يوفرون غطاء شرعيا للفاسدين.. ربما لم يقرأوا قول الله "ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا" 108 النساء. عندما أتأمل حديث النبي (ص) عن المسلمين الذين يسلكون في الدروب التي سلك فيها أهل الكتاب.. أرى أن ما قيل لليهود والنصارى.. أريد به تنبيه المسلمين إلى أن الادعاء الأجوف لا يساوي عند الله شيئا.. وأن الانتساب إلى الإسلام بغير مضامينه الحقيقية ليس امتيازا.. بل سينكر انتماء هؤلاء الزائفين لأمة الإسلام يوم القيامة. ألسنا نقرأ قوله تعالى: "وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه، قل فلم يعذبكم. بل أنتم بشر ممن خلق. يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينها وإليه المصير" (20 المائدة) وقوله "وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى. تلك أمانيهم. قل هاتوا برهانكم إن كنت صادقين 110 بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون 111 البقرة" وقوله "وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب. كذلك قال الذين من قبلهم. فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون" (112 البقرة). ومن ثم.. ألسنا مطالبين بمراجعة ما نحن عليه.. لعل في ذلك ما يحزفنا على البحث عن أرض جديدة تخلو من الخلافات.. نقترب فيها من الله أكثر.. وننأى فيها عن زيف أنفسنا ما أمكن.