« أنا ميت ميت .. نموت في بلادي خير لي» تلك العبارات وجهها الممثل الراحل سيراط بومدين و هو على فراش المرض بمستشفى مستغانم لما عرض عليه والي الولاية نقله إلى فرنسا من أجل العلاج. عبارات لا يمكن ولا يحق لأي منا ممن عرفوا « ديدن» سواء من بعيد أو من قريب أن ينسوها أو يتغاضون عنها، حينما يذكرون مناقب الرجل و مدى حبه و اعتزازاه بالوطن. عاش عملاقا رغم تواضعه وبساطته لدرجة أنك تكاد لا تراه و هو يتجول بين أزقة و شوارع وهران، و مات عظيما على سرير مستشفى بلده، تاركا وراءه رصيدا فنيا غنيا رغم صغر سنه 47 سنة. . لم يخشى الموت ولكنه خشي أن يأتيه الأجل و هو بعيدا عن الأهل و الأصدقاء، بعيدا عن اجواء مهرجان المسرح الهاوي التي أن نقل منها في يوم من ايام شهر أوت من سنة 1995، بعد أن اصيب بوعكة صحية. لم يخشى الموت و هو الذي كان يصنع الحياة على خشبة المسرح. كان ينسج من الألم حبالا للأمل يتمسك بها ليرسم البسمة على شفاه جماهير المسرح، بل كان يرسمها حتى خارج أسوار المسرح بنكته المسلية و حيويته المذهلة. طبعا يعود الفضل في اكتشاف هذا الكنز البشري إلى أب « الدراماتورجيا» المسرحي ولد عبد الرحمان كاكي، حينما طلب منه أن يستخلف أحد الممثلين خلال عرض لمسرحية القراب و الصالحين. و ترك الذهول والإعجاب حينها بصمته على وجوه الجماهير الغفيرة التي تتبعت العرض، وكم كان البارع في الآلة الراقنة بارعا في التمثيل. كانت تلك أولى خطوات سيراط بومدين في مضمار أبي الفنون. انطلقت بعدها مسيرة الألف خطوة. «إفريقيا قبل العام الأول»، «اللثام» «اللي كلا يخلص» «البلعوط»، «العلق» «الخبزة» «حمام ربي» «الأجواد» ،« التفاح».. مسرحيات ستبقى خالدة في أذهان من شاهدوها. و لم تنتهي مسيرة «ديدن» عند هذا الحد، بل استمرت لتشمل تجارب أخرى مع تعاونية أول ماي التي أسسها الراحل عبد القادر علولة و كذا فرقة القلعة التي التحق بها المرحوم برفقة صونيا ومحمد بن قطاف وزياني شريف عياد وعز الدين مجوبي، و كانت له مشاركات معهم في أداء مسرحيات مثل «ألف تحية للمشردة» ومسرحية «آخر المسجونين». كان الممثل القدير سيراط بومدين يصنع الحدث و يجلب الجماهير أينما حل و ارتحل، بحيث كان لأدائه الرائع نسبة كبيرة في الإقبال القياسي لجماهير المسرح، وانتقلت شهرة الرجل من المسرح إلى الشاشة الصغيرة بمشاركاته في عدة أعمال تلفزيونية على غرار مسلسل «عايش بالهف» للمخرج محمد حويذق ومسلسل «شعيب الخديم» للمخرج زكريا. ثم إلى السينما في أفلام ، «الرماد» ،«حسن نية 2» و فيلم «الصورة» الذي كان آخر عمل له قبل أن يتوفاه الأجل. لم يخطف موهبة المسرح الجزائري قلوب جماهيره و محبيه فحسب بل انتزع اعترافات و إشادات حتى منافسيه من كبار الممثلين العرب على غرار الممثلين القديرين عبد الله غيث و سميحة أيوب حينما انتزع ديدن منهما عن جدارة و استحقاق جائزة أحسن دور في مسرحية الأجواد بمهرجان قرطاج. شهرة الرجل و عظمته لم تمنعه من أن يكون رجلا متواضعا، كما أن حاجته إلى مسكن يأوي عائلته لم تنل من ترفعه عن مد يده، وعاش عزيزا غنيا بقناعاته متشبعا بمواقفه، و حين وافته المنية لم يترك لا أموال و لا أملاك بل ترك ما هو أغلى و أنبل ، اسم يبقى حيا مهما طال الزمن.