كان يجوب المدينة ليلا ونهار ا، لم يكن يعرف لا الراحة ولا النوم، لا يستكين ولا يستقر في مكان كأنه آت من عوالم أخرى لا تنتمي إلينا تسكنه طاقة خرافية. يمشي مختالا كأنه سلطان زمانه، كأنه خرج من أسطورة يعرفها الجميع لكن لا أحد يعرف سرها، في ألبسته القادمة من أعماق العصور المنسية، وكأن جنية ما ماهرة في الحياكة كان لها مرور سري على مدينتنا. ألبسة لا أحد يعرف من أين كان يأتي بها ولا من كان يوفرها له ولا من يتحفها ويطرزها، ربما كان يأتي بها من سوق الأشياء العتيقة الذي يتوسط المدينة والذي كان عبارة عن ذاكرة متراكمة ومتراصة ومتواصلة عبر السنوات، بما كان يحتويه من أدوات متنوعة وأثاث وألبسة ولوحات فنية وماكينات خياطة، وكل ما يمكن أن يخطر أو لا يخطر على البال من أشياء مدهشة وغريبة. لما تراه يتهيأ لك أنه لا ينتمي إلى هذا الزمن إلا في في بعض التفاصيل الصغيرة. كان هو المجنون والبهلول والأحمق والأجدب والعڤون في أعين الناس، كل واحد يعطيه وصفا ونعتا حسب الظرف وحسب الحالة، لكن الغريب أنه لا أحد كان ينهره أو يتخوف أو يهرب لرؤيته؛ كان المجاهد عمي بوراس صاحب الحمام التركي، يشجعه ويغريه على الاستحمام، يساعده في ذلك الشباب المشرفون على راحة الوافدين على الحمام، الذي كان عبارة عن مأوى ليلي أيضا للعابرين ومعلمي المدارس الأهلية الذين يأتون من بعيد. بالعكس كان لما يصادفه الناس يتوسمون فيه خيرا ويتفاءلون، حتى بعض النساء والفتيات كن يتبركن به سرا أملا في الزواج أو الإنجاب. كان يوقف الشابات يتأمل أعينهن ثم يقع اختياره على إحداهن يقترب منها يتمتم في أذنها على ضحكات صديقاتها المرافقات: ستنحبين طفلة وسميها "حرية" إذا أردت أن يطول عمرها، ثم يربت على كتفها وينسحب بأناقة. غيابه المفاجئ والمتكرر في بعض الأحيان كان يحدث نوعا من الارتباك والخوف والقلق لدى السكان وكأن المدينة ينقصها شيء مهم، شيء ما كان يخلق توازنها وهدوءها. يحس الناس بغيابه الذي يخشونه كلما حدث؛ عندما يتكوم الأطفال على أنفسهم وتهدأ أصواتهم التي كانت تملأ الأمكنة عادة ويغلب عليهم الحزن، لا اللعب يحلو لهم ولا التسلية تستهويهم ولا الانبساط، حتى نبرة كلامهم تتغير. يتجمعون حوله يوميا وسط الحارات؛ لكل حارة معه يومها وتوقيتها، يحكي لهم قصصا وأحداثا مدهشة، يحمل أقلاما ملونة وأوراقا يوفرها له مدير المدرسة الطيب والنبيل، كان متعاطفا معه إلى حد كبير ، تعاطفا كان يحدث بعض الشكوك والريبة حول تلك العلاقة الغريبة بينهما. يتحلق حوله الأطفال بمتعة لا تضاهيها أية متعة، يحكي ويرسم الأحداث والخرائط والوجوه وفِي الأخير يوزع عليهم الرسومات التي تبهجهم. يغيب ويأتي على هواه، يتجول في الأسواق، يرتاد المقاهي والحانات، يدخل إلى المستشفيات وعيادات الولادة ، ينظف ساحة الثكنة وساحة السجن كلما سمح له العسكر بذلك وهو يردد بصوت عال " مهبول ويعرف باب دارو... مهبول ويعرف باب دارو" " زحّافة وتنڤز الحيطان طرشة وتجيب الخبر وين ماّ كان" "سكران واحد ما جاب اخبارو" . لا أحد كان يعلم لماذا هذا البهلول وهو يردد هذه الألغاز باستمرار كانت تنتابه نوبات بكاء حادة، وينادي على اسم امرأة لا أحد عرف سرها في المدينة. يدخل المقبرة ينظفها كأنها بيته، يتمدد على قبر بلا شاهدة هو وحده يعرف من مسجى فيه، ويغيب. يأتي مدير المدرسة يوقظه يجلس معه قليلا يسأله عن تفاصيل السجن والثكنة، يسلمه بعض الرسائل يرسم قبلة طويلة على جبينه، يردد "انتبه لنفسك، كن حذرا، الله يحميك". يرتب قبعته ويمضي..