أحالَتني احتفالات هذا العام بذكرى مولد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، إلى عمق الذاكرة ، و ما علِق بها من ذكريات جميلة عن محطات احتفائية طفولية بهذا الحدث العظيم .. و لقد كان لفيلم « الرسالة « لمصطفى العقّاد الأثر البالغ في ترسيخ قصة الإسلام في نفوسنا و عقولنا ، و في إلهامنا أنموذجا نقلّده في الشارع كلّما تجدّدت المناسبة . فقد كنّا ، و نحن دُون سن العاشرة ، نذهب عشيّة الذكرى ، إلى نجّار الحيّ و نرتجيه أن يصنع لنا من بقايا الخَشب سيوفا لإشهارها ( ليلة المولد ) في المعركة الحاسمة بين الحقّ و الباطل .. و لقد كنّا نجلس قبل بدء موقعة بَدْر في فِناء الوليّ الصالح سيدي المُوَفّق لنشكّل مجموعتين متساويتين : المسلمين و المشركين ؛ و غالِبًا ما كان النقاش يحتدم بيننا عَمَّنْ ينتمي لصفِّ حمزة ، و مَنْ ينتمي لجماعة أبِي لَهب ، و غالبًا ما كان ينتهي بنا الأمر إلى إجراء القرعة لتحديد تركيبة المجموعتين .. و مع تعاقب السنين ، تخلّينا عن إجراء القرعة ، لأنّنا أدركنا مع التكرار و النضج المبكِّر ، أنّ المعركة ليست سوى مجرد لعب طفولي ، و لم يعد يهمّنا طبيعة الأدوار التي يُوكلها إلينا عادة أكبرنا سنًّا ، و ذلك بعد أن يختاروا لأنفسهم أدوارا تليق بهم و تُوائم بُنياتِهم المورفولوجية ، و قد أصبح الأهم بالنسبة لنا هوَ أن نمارس مشهد الإقتتال بحَزم و مهارة فقط ، لِعلمنا بأنّنا سنعود بعد نهاية اللعبة إلى ممارسة أدوارنا اليومية المَنوطة بنا فعليًا في الحياة كأطفال و تلاميذ .. و مع انتقالنا إلى الطور المتوسّط ، تطوّعنا ، للاحتفال بالمناسبة ذاتها ، لتمثيل المعركة نفسها ، بإشراف أستاذ يوزّع الأدوار تبعًا لإمكانات كلّ واحد منّا لاسِيَما حُسن الإلقاء للحوارات .. و لقد حظيت - بعد التجريب - بدور أبي سفيان ، وألزمني الأستاذ بحفظ حواراتي ، و لمّا لم يلحَظ منّي الحماس المطلوب ، ركّز كلّ جهوده لإقناعي بأنّ هذه الشخصية ذات أهمية بالغة ، بالنظر للدور المحوري الذي لعبه أبو سفيان الداهية بعد إسلامِه في انتشار رسالة الإسلام .. و حان موعدنا مع جمهور الأساتذة و التلاميذ ، فَجسّدنا ثلاثة مشاهد من فيلم « الرسالة « ، و حظينا بالإعجاب الشديد ، و نصحَنا الأستاذ بالاجتهاد أكثر و مواصلة التمثيل ، و الانضمام على الفوْر إلى إحدى الفرق المسرحية الناشطة بالمسرح البلدي وقتذاك .. و رغم أنّنا صرنا مع مرور السنين نمثّل بشكل أحسن و مستمر بالثانوية ، إلاّ أنّنا بقينا نعيش على أمل أن نمثّل في مسرحية مصنّفة ضمن المَوْلِديات، و لكن لم يتأتَّ لنا ذلك إلى أن التحقنا بالجامعة ، وبدأنا حكاية جديدة مع حياة مغايرة ومسرح من نوع مختلف عمّا درِجْنا على تمثيله في الأطوار المُنقَضية .. و بَينما أنا أحضّر رسالة ماجستير حول مسرح توفيق الحكيم ، صادفتُ ضمن أعماله مسرحية « محمّد - سيرة حوارية - ألّفها عام 1936 ، فعَاودَني و أنا أقرؤُها الحنين إلى عهدنا القديم الجميل الذي - أجزِمُ - بأنّنا تشرّبنا فيه حبّ التمثيل والمسرح بواسطة اللّعب و التقليد لا غير ، من خلال تقمصِنا البريء الخالص لأدوار نُحاكي فيها شخصيات نبيلة تتصارع و تقْتتل لأجل قضية أو موقف متعلّق بموضوع ذي أهمية بالغة .. و أحسب أنّنا كذلك رَضَعْنا محبّة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، و تعلّمنا منذ نُعومة أظافرنا الانتصار للحقّ و الفضيلة و الحريّة من احتفالنا عَبْرَ مظاهر مختلفة بالمولد النبوي الشريف ، و قراءة سيرة ابن هشام و بُردة البوصَيري وحكايا المدّاحين و الجَدّات مثل قصّة السيّد عَلي و الكُفّار ، هاتِه المَحكيات و المَرويات من دُرَر تراثنا المتنوّع هِيَ التي صقلت عقولنا و وسّعت مداركنا و وثّقت عُرى تواصلنا الوجداني و الثقافي بعناصر هويتنا و انتمائنا الحضاري .. و الجدير بالذكر هاهُنا ، أنّ المسرح الجزائري بدوره قَد احتفى بمولد خير البريّة و بسِيَرِ أصحابه ، فكتب المؤرخ الأديب الشيخ الراحل عبد الرحمن الجيلالي عام 1949 مسرحية « المَوْلد « ، و أتبعها لاحقًا بمسرحية الهِجرة ، و قبْلَذاك ، نشر الشاعر الراحل : محمّد العيد آل خليفة عام 1938 مسرحية بِلال بن رباح ، لِتتوالى مسرحيات من هذا النوع في الظهور ، وهيَ بالإجمال نُصوص اتّخذ مؤلفوها من التاريخ « وسيلة طيِّعة تُعينهم على الخَلق الدرامي « من منطلق أنّ التزامهم « يتصل بالواقع التاريخي لاَ بالواقعة التاريخية « على حدّ تعبير الأستاذ الباحث الراحل « مِيراث العيد «، الذي صنّف المسرحيات المذكورة في كتابه « المسرح الجزائري « ، ضِمن النصوص المسرحية التاريخية .. و أَحسبُني في نهاية المطاف لا أُغالي إذا قُلتُ بأنّ مجرد ابتهاجنا البريء بمولد سيّد المرسلين ( ص )، و محاكاتنا الطفولية لسيرته العطِرة و لِفصول نورانية من جهاده في سبيل نشر قيم المحبّة و التسامح و السلام بين بني الإنسان ، قدْ أوصلنا جميعنا إلى الشغف بالجمال ، و اعتناق مذهب أبي الفنون ، و الإيمان المطلق بدوره الرِسالي و غايته الأزلية النبيلة : البناء الحسّي و المادي للإنسان ؛الإنسان الأنموذج : الذي آمُل أن أكونَهُ أنا ، و أن تكونَهُ أنتَ ، و أن نَكونََهُ جميعا في يومٍ مَا ..