استيقظ سكان حارتنا بعد ليلة خريفية ماطرة مع مطلع شهر أيلول بعد صيف شديد الحرارة سنة 1974 ليتفاجأوا بالوادي القريب من حيًنا، وقد امتلأ عن آخره فلا مجال للمغامرة من أجل العبور إلى الضًفة الأخرى «إنًها سنة خير إن شاء اللًه» هكذا قال والدي لتعقب عليه أمي قائلة : إن شاء الله . .. بدأت تنتشر أخبار اللًيلة الممطرة ليتداولها الصبيان والنًسوة والرجال ،انقطاع للماء في الحنفيات وفقدان لمادة الخبز في حوانيت الحارة وأخبار الحوادث المؤلمة التي شهدها الطريق الوحيد الذي يمر به الوادي والذي يربط مدينتنا بمدن سيدي عقبة جنوبا وآريس شرقا ... هرع سكان الحي لمعاينة الوضع ،أما الأطفال فكانوا أسبق من الكبار إلى المكان ليشاهدوا رجال الحماية المدنية، وهم يقومون بإنقاذ من علق بالوادي إثر حادث السًيارة التي جرفتها مياهه الغزيرة ،ولكن للأسف فكل أفراد العائلة فقدوا في منحدرات الوادي الخطيرة ولم ينجو منهم سوى فتى صغيرا لا يتعدى عمره الخمس سنوات، أخرجه رجال الإنقاذ من وسط هيكل السًيًارة المقلوبة ،ولازالت في مخيًلتي صورته وهو يرتجف من الخوف والبرد وهو يحمل عنقودا من العنب كان بيده قبيل الحادث، لقد كان آخر عنقود له مع عائلته التي قضى أفرادها في هذا الحادث المؤلم ... وبينما كنًا نشاهد رجال الإنقاذ وهم يقومون بمهامهم كانت مياه الوادي تزداد قوة و كانت الغيوم تغطي سماء قريتنا والأمطار، تتساقط من الحين إلى الآخر رذاذا خفيفا حينا ووابلا قويا أحيانا أخرى بينما كانت قلوبنا تعتصر ألما لحال ذلك الفتى الحزين بعنقوده وهو الذي مازال لم يفق بعد من هول الصدمة فبدا فالمعتوه أو كمن وضع في مكان غريب عنه ... تنهدت الممرضة سعاد ابنة حارتنا وهي تقول : « هذا حال الدنيا» ،وراحت تسرح بخيالها لتنحدر على خدها عبرات الفقد ، فهي الأخرى لم يمض على فقدها لأخيها سعيد اكثر من سنة في نفس الوادي وتملكت جسدها النحيف قشعريرة من أثر البرد البرد الشديد جعلتها ترتعد بينما كانت مياه الوادي تزداد قوة ووابل المطر يزداد غزارة ،بينما كان عمي فرحات الشانبيط يمسك بيد ذلك الفتى وهو يمسك بعنقوده ليأخذه معه إلى البيت، بينما كان شريط الضحايا الذين فقدوا في هذا الوادي يمر أمام مخيًلته ولم يسعه الموقف الحزين إلا أن يردد على مسامع الحاضرين : لا حول و لا قوة إلا باللًه ،الأمر أمره والنًهي نهيه ويبقى مقام «سيدي زرزور «، وهو يتوسط الوادي صامدا في وجه المياه التي تحيطه من كل جهة... كلما حلً أيلول تعود بي الذاكرة إلى هذه الحادثة المؤلمة والحزينة فأتذكرها كلوحة زيتية أبدعتها يد فنان لا تغادر مخيًلتي لما فيها من التعاسة والجمال في زمن كانت تنقش فيه الذكريات على صخور صلبة رغم غزارة المياه الطوفانية التي غطت كل مكان.