عيناه مفتوحتان، لا تطرفان كأنّهما بئران صغيران ركد بسطحيهما الماء..صارعتا الكرى و لم تظفرا إلا بالسهاد، و هو يداعبُ جفنيه اللذين جعلهما البرد القارس خفيفين كجناحي فراشة مسافرة في الأفق المترامي .. أجال ناظريه في زوايا السقف الملوّن عن قصد ثمّ انحرف بهما كالمستجيب إلى المغناطيس فتوقف بهما على مرآة كبيرة ظلت ترقبه في صحوه لمّا كان غائبا يستقرئ هُيول جسده.. حدّق إلى كتفيه.. تفرّس في وجهه الممتلئ ، ليفاجئ ظلّهُ بعد ذلك بنظرة خاطفة من الأسفل إلى الأعلى فإذا بالأوصاف الكاملة تنساب من فيه الظامئ : _ أرى تمثالا جميلا ..لا بل هيكلا ممشوقا لم ينصفه الزمن اللعين و لم يشأ وضعه في المكان المناسب.. و لم يلبث أن عاد يتأمل صفحة وجهه مليّا ليصدر حكمه الفاصل كنتيجة حتمية لما أسفرت عنه جولته الاستكشافية في تضاريس جسده الشامخ .. _ و الله هذا الوجه الجميل ينبغي له أن يكون معرفة لا نكرة في موسوعة الحياة حتى يبعث بعد ممات.. صعدتْ هواجسه المحمومة.. طافت الأفكار بتلافيف جمجمته تتناوب على رأسه المحشوة بألوان الموضة و أنواع السيارات و أغاني الشباب و أشياء أخرى علّها توقظ عقله من إجازته الطويلة.. و تسقط فكرة جديدة برأسه صوّرتْ له حجم الصدفة بكل المقاييس و الألوان على أنّها صانعة الأحلام و كيف أنّ أسماء كثيرة معلومة اليوم وصلت إلى ما هي عليه بفضل الصدفة لا غير .. ردد على مسمعه مقولة للفيلسوف شيلر ( إن أصل الفن ميل الإنسان إلى اللعب ) أعجبته كثيرا العبارة فردّدها على مسمعه عدة مرات كمن أراد أن يلبسها لحنا من عنده وبعد أن فرغ منها قال بصوت مسموع :فلماذا إذن لا أجرّب اللعب، و على أوتاري الخاصة و بطريقتي الخاصة ؟! اقترب بخطى وئيدة نحو طاولته الصامدة..جلس على كرسي جلدي وثير..اشرأب بعنقه إلى السماء.. نطق حرفا تلاه حرفا آخر.. أوصل الحروف ببعضها.. ركب كلمة ، أفرغها على البياض بعد أن لاكها في فيه مترنما بجعجعتها.. و توالت الكلمات تباعا ليحيك منها فقرة دون أن يعي فكرتها الجوهرية.. تسرّب إلى رئتيه هواء الغرور بذراته الثقيلة حتى انتفخ صدره و ما هي إلا لحظات حتى أخذ يتجاذبه تيار السؤال العقيم بمده و جزره : _ ما مصير هذه الكلمات ؟! راح يضخّم الموقف أكثر ليلبسه زيّا مزركشا .. بل ما مصير هذا الاحتراق يا ترى ؟ _ و الله حرام أن أظلّ مغمورا و قلمي استثناء.. ! ارتمى على فراشه الحريري مستشعرا الاطمئنان، و كمن وجد حلا لمعضلة قال مهللا : _ سأرسلُ نصي إلى تلك الصحيفة . بعد أسبوع واحد فقط ابتاع الجريدة من كشك الحيّ الذي يقطن به.. تصفحها بلهفة غريبة.. توقف مليّا عند الصفحة الأدبية.. جحظتْ عيناه، و قف مشدوها تملكه الانبهار و هو يقرأ نصه منشورا تحت عنوان ( الذات المنكسرة).. دار حول نفسه و الجريدة بيده عدّة دورات و كأنّ بالأرض الممتدة لم تعدْ تسع جسده الذي ازاد ثقله..انطلق يجوب الشوارع و الأزقة الملتوية وهو يردّدُ بصوت مسموع : لقد وجدتُ طريقي و جدتهُ وجدتُهُ ، كأنّهُ أرخميدس زمانه ..