عَرَفته في أَواخِر عام 2006 فَقط ، وانغمست معه مُذّاكَ في أحاديث عميقة تارة ، وعَرَضية تارة أُخرى ، فَوجدته خلوقًا ، هادئًا ، رصينًا ، رزينًا ، متواضعًا .. وثَقِفتُه جريئا أيضا ، حينما يضطر لأن يخالفك الرأي ، لكن بذكاء و حِنكة ، ولا يقاطعك إلاّ لِيصحّح هَنّاتك ، بأدب جَمٍّ و حِكمة .. فَقدناه في زحمة خَبْطَ عشواءَ ، في لحظات بات فيها الجميع مَعنيا بنَعي مقدّر محتوم عاجل أو آجل .. افتقدناه رغماً عنّا ، في غفلة منّا ، عَنه و عن كثير من الأحبّة الفنانين ، كنّا نشتاق إليهم و هُم بين ظَهرانينا ، فكيف الحال و قد غادرونا بلا رجعة ، وتركوا في نفوسنا ما لم يُسعفنا الوقت لِنبوح لهم به ، بتقديرنا لهم و لأفكارهم و منجزاتهم التّي لم ننتبه إليها في حينها ، فَيا لَيتهم يعذروا فينا انشغالنا و قُصورنا و تقصيرنا و قلّة اهتمامنا بما أنجزوا و أبدعوا ، وَهَا نحن أُولاء بعد افتقادهم لبُرهة من الزمن ، نأسف على وقت ثَمين أَهدرناه برفقتهم ، ولم نُولِهم بَالنا و أسماعنا و أبصارنا ، و ما جَنينا من حدائقهم الغنّاء من رُطَب ، ولم نَغترِف كِفايةً من عَذب أحاديثهم و الشَغف بِبناتِ أفكارهم .. أتُرانا قصّرنا كعادتنا في الإفادة من رَصيد العربي مفلاح الإعلامي الفَذّ الهاديء ، ورُؤاه الثاقبة لأجل بَلورة صحافة مثقّفة تصنع الوعي و تصْدع به ؟.. هل أنصفنا هذا المبدع المَسكون بالمسرح والحوار و حُرقة السؤال ، وأصغينا لِطرُوحاته الناضجة عن إمكانات صياغة نصوص درامية ، من خلال مُقاربات نصّية تُزاوج بين القصة و المسرحية ، إمّا اسْتلهاما أو اقتباسا ، وتحفظ لكلّ منهما طبيعته و خصوصياته ..؟ لم تجمعني بهذا المثقّف الرّصين لقاءات كثيرة ، ولكن مُروره كان يرُجّ عقلي وخاطري ، مثل نسيم الصَّبا ، يسعدني و ينعشني ، ويَملؤني في كلّ مرّة نَضرة و سرورا ، فأنطلق معه في حديث حميم صميم ، تُشبه كلماته ومفرداته تلك التّي صاغها توفيق الحكيم لِراهب الفكر .. لم أسمع في أحاديثه إليّ قَطُّ قَدحًا أو ذمّا أو تجريحا، تصريحًا أو تلميحا اتّجاه أيّاً كان من الكتّاب أو الفنانين ، بل إنّه كان يقدّر أيّ جهد يبذل في مجال الإعلام ، وكذا على صعيد الإبداع الفنّي والأدبي ، وقد كانت قناعته الراسخة في ذلك ، أنّ الإبداع في بلادنا ، مشروع بِصدَد التّمأسُس و التّبَلور: مِثل بِناء شاهق ، يسهم فيه كلّ مبدع بلمسته و إضافته الخاصة به ، المُتأتّية من اجتهاده الشّخصي وجهده الخالص .. لقد كانت له آراءه الخاصة به عن التأليف والتمثيل والإخراج ، ولكنّه كان يُلقي بها إلى مَن يتحدث إليهم ، بشكل ودّي وحميم ، وكان يسعد بأيّ منجز فنّي أو أدبي، ويعتبره لَبنة جديدة لصرح الإبداع .. و قد أشاد أمامي عدّة مرّات بكلّ الجهود والمحاولات الإبداعية لشباب المسرح الهاوي والجامعي ، وأكّد بأنّ بعض أعمالهم قد تُقارع وتنافس مسرحيات تنتمي إلى المسرح المحترف .. وأحسب فعلا أنّ العديد من كتابات ونتاجات فنّية شبابية تستحقّ الإشادة و التنويه ، بالنظر للأثر الطيّب الذي تُخلّفه ، وهنا أتذكر اسْتحسان الراحل بمسرحية الخيش والخيّاشة، وتقديره الكبير للإمكانات الفنّية لفريق العمل الشّاب ومؤهّلاتهم؛ وأعتقد جازمًا أنّ فرحه الدائم بإنجازات الشباب وإسداء النُصح لهم بإخلاص ، مَردّه بالأساس لِتمرّسه حبّه وافتتانه بالمسرح ، الذي يرى فيه وسيلة مُثلى للتربية الإجتماعية والجمالية للناشئة ، ومَنبرا لإشاعة قيم ومُثل المحبة والإخاء و السلام بين أفراد المجتمع بوجه عام .. وإنّ إمعان النظر في مُجمل أعمال العربي مفلاح المسرحية والنقدية ، يُحيلنا إلى استشفاف هذه القَصدية التي آمن بها وكرّسها إبداعًا ونقدا ، وعمل على انتشارها بين مُرتادي المسرح وبخاصة الشباب ، الذين دائما ما يُعوَّل عليهم في تنشيط و إضفاء الحركية المرجوّة على المشاريع الفنيّة و الثقافية ، بالنظر لامتلاكهم روحا حيّة مِطْواعة ينبغي استثمارها لضمان حراك ثقافي مُستديم ، يَطال تأثيره الوعي و الشعور المجتمعي حاضرا وتَاليًا .. ولا يمكن في هذا الحيّز المحدود ، التفصيل و بَسط رُؤى الراحل حول المسرح عموما و النقد و الكتابة الدرامية خصوصًا ، و نكتفي إجمالًا بالتأكيد على حِيازَتِه فعلا لتصوّرات واقعية عن الإبداع يمكن تمثّلها و تبنّيها عَمليًا ، لِكونها تقوم على استثمار وعي ووِجدان و مقدرات المبدعين للتبشير بِسلاسة بالقيّم الإنسانية النبيلة ، عَبرَ وسائط جمالية حداثية طيِّعة، تشدّ انتباه المتلقي و تثير فية رغبة و إرادة تمثّل الخطاب الفنّي واسْتساغَته بوعي و تبصّر ، للوصول بالنِِهاية إلى تفاعل و انفعال الجوهر الإنساني إيجابا مع دافعية و غائية الفن الخالدة : المعرفة الراقية ، و المتعة الرفيعة ... تِلكم باقتضاب شديد هيَ نظرات الراحل العربي مفلاح إلى الإبداع و فاعِليتِه ، و أحسبُني قَصّرت في بَسْطها و توْصيفها ، لاسيَما فِيما يتعلّق بمشاريع نُصوص كانت قَيْدَ الإنجاز و الإنتاج .. ويكفيني فَقَط أنّي حاولت ، و لا أملك إلاّ أنّني استذكرت مَناقِب الرجل و سَجايَاه ، بِكلّ صِدق ومحبّة وإخلاص ..!؟