انتهاء مهمتي البرلمانية في يناير الماضي بعد عهدتين متواليتين في مجلس الأمة الموقر أتاحت لي فرصة تلبية دعوات كثيرة للمشاركة في تظاهرات ثقافية متعددة، كنت أفر من بعضها لالتزامات كثيرة يفرضها الجهد البرلماني. وسعدت بالمشاركة في لقاء الصحافة العربية بدبي حيث تسلمت جائزة الصحافة العربية من الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وتم اختياري عضوا في مجلس إدارة الجائزة، ثم شاركت مرتين متتاليتين في اجتماع مؤسسة الفكر العربي ببيروت تحت رئاسة الأمير خالد الفيصل بن عبد العزيز، حيث كرمت باختياري عضوا في هيئة المستشارين للمؤسسة، وشاركت في تظاهرة عيد الجلاء السوري بمحاضرة ألقيتها في منطقة الشيخ بدر السورية، بالإضافة إلى أنني استعدت مقدرتي على الكتابة في الداخل حيث أعددت خلال الشهور الثلاثة الأولى من العام كتاب "أربعة أيام صححت التاريخ العربي" الذي نشر أولا على حلقات في صوت الأحرار والجمهورية، وأخذت في كتابة مقال أسبوعي في صحيفة الصباح التونسية، بالإضافة إلى بعض الحوارات المتلفزة، في غير التلفزة الجزائرية بالطبع. وكان من أهم النشاطات التي شاركت فيه ملتقى التواصل بين المشرق العربي والمغرب العربي بمدينة الياسمين الأسبوع الماضي بدعوة من الأديب الكبير الدكتور رياض نعسان أغا وزير الثقافة السوري. كان فكرة التواصل هائمة في سماء المشرق العربي منذ عدة سنوات والتقطها الدكتور العسكري رئيس تحرير مجلة العربي في الكويت حيث تم لقاء متميزا كان المفروض أن يتواصل لكن ذلك لم يحدث، ولم يترك الدكتور رياض الراية تسقط فالتقطها ليقيم الملتقى الأول الذي حقق نجاحا كان وراء الإصرار على إقامة الملتقى الثاني تحت رعاية الرئيس السوري بشار الأسد، وكان المضمون إدراكا من المشرق العربي لمدى مشاعر الإهمال والتناسي التي يشعر بها أدباء ومفكرو المغرب العربي تجاه تجاهل إنتاجهم ونشاطهم ومساهماتهم في مجال الثقافة العربية،. وكان توقيت اللقاء هذه المرة تجسيدا للذكاء السوري المعروف، حيث لم تترك قضية الهجوم الإسرائيلي على قافلة الحرية التركية تضيع في الهواء، ولم تسر القيادة السورية في تظاهرة التعليقات البائخة لبعض المراجع العربية التي راحت تقزم الميادرة التركية وتدعي بأن تركيا تحاول الدخول إلى الساحة العربية لمحاولة الضغط على أوربا لتسهيل دخولها إلى منظمة الوحدة الأوربية، وهي تعليقات أكدت شعور البعض في الوطن العربي بتراجع دورهم الإقليمي وتضاءل تأثيرهم القومي وشحوب صورتهم الدولية. وهكذا عقدت سوريا مؤتمرا متميزا للعمل على رأب الصدع الذي نشأ بين العرب والأتراك كواحد من النتائج الكارثية لأكذوبة الثورة العربية الكبرى التي قادها ونظمها الجاسوس البريطاني لورنس لتجييش العرب ضد الإمبراطورية العثمانية. وسبق لقاء المشرق والمغرب لقاء كان محوره العلاقات التركية العربية وضرورة تدعيمها وإثرائها وإزالة كل الشوائب التي أصابتها خلال الحرب العالمية الأولى وما تلاها. ولقد كان المشرق العربي نقطة استقطاب المغرب العربي لسبب رئيسي هو البقاع المقدسة، وعرفت بعض بلدان الطريق إلى مكة وجودا مغربيا عربيا (ولا أحب تعبير "مغاربي"، المخطئ سياسيا ولغويا على حد سواء) وكان المشرق العربي متقدما على المغرب العربي في مجال وفرة الإنتاج الثقافي والفني، وسنجد الريادة في القاهرة وبيروت ثم عرفت الستينيات، ببروز الكويت، نشوء المثلث الذي كان مركز إشعاع على الوطن العربي كله، فالقاهرة عرفت طه حسين والعقاد والمازني ومؤسسات مثل الرسالة، وبيروت عرفت جبران ومطران ومؤسسات مثل الآداب، والكويت عرفت مؤسسات متميزة في طليعتها مجلة العربي. وهكذا ظلت الشمس تشرق من الشرق. وكان مما ساهم في ترسيخ الوجود الفني المصري في الوطن العربي أن كل الفنانين العرب الذين احتضنتهم القاهرة كان عليهم أن يستعملوا اللهجة المصرية، وهو ما شاهدناه ابتداء من فوزي الجزائري (الجزائري) في الثلاثينيات وليلى الجزائرية ونجيب الريحاني (العراقي) في الأربعينيات وأنور وجدي (السوري) وفريد الأطرش وأسمهان وصباح ونور الهدى (اللبنانيين) وأخيرا وردة في الخمسينيات والستينيات ونانسي عجرم وهيفاء وهبي في القرن الجديد. ومع الطفرة البترولية وتصاعد مستوى التعليم سنجد أن أعدادا كبيرة من أبناء الوطن العربي اتجهت للدراسة العلمية، وهكذا ظل الميدان الثقافي حكرا على بلدان بعينها، إلى أن تدخلت السياسة ووضعت حواجز لا أرى ضرورة للتعمق في معطياتها، ويكفي أن أقول أن الإعلام، بمفهومه الشامل الذي يضم الثقافة والفن، تم احتكاره اليوم من قبل مراكز نفوذ عربية معينة بعضها حكومي وبعضها ماليّ، وكان الهدف في نهاية الأمر السيطرة على الساحة الإعلامية، وهو ما حدث بالفعل، ويكفي أن نلقي نظرة على الفضائيات المنتشرة. في المغرب العربي كانت قنوات التلفزة كلها مرتبطة بالدولة، وتميزت في معظمها بالرداءة والعجز عن تجاوز حدود الدولة، وهكذا جرت تزكية الشوفينية المحلية بحجة المحافظة على الأصالة الوطنية، سياسيا وثقافيا. وكان النشاط الفني في كل من تونس والمغرب أكثر انتشارا على ساحة المغرب العربي من النشاط الفني الذي يبث من الجزائر وموريطانيا، وكان هذا بفضل أسماء لفنانين فرضوا وجودهم لأنهم كانوا أقرب إلى الجمهور العريض في المنطقة، وهو ما حاول اللحاق به فنانون جزائريون من أمثال المناعي وخليفي أحمد ورابح درياسة والهاشمي قروابي، وانضم إلى هؤلاء مطرب عاصمي فرض نفسه بشكل يثير الدهشة وهو دحمان الحراشي. باختصار شديد، لم يكن لدى المغرب العربي الكثير الذي يقدمه للمشرق العربي، وكان من المضحك بالنسبة لتلفزتنا أنها كانت تقدم في القناة الموجهة للمشرق العربي فقرات مطولة من غناء الحاج العنقا، الذي لا يتابعه كثيرون خارج تخوم العاصمة الجزائرية. وبالرغم من أن ليبيا آنذاك كانت تتجه أكثر للمشرق دون المغرب، فإن شخصية فكرية مثل الدكتور محمد علي خشيم لم يكن معروفا في المشرق، تماما كما لم يكن المشرق يعرف قامة فنية مثل حسن عريبي (وكلاهما ليبي) وكان الأمر في تصوري مزيجا من الاكتفاء المشرقي والقصور، وربما التقصير المغربي. الأمور تغيرت الآن. -من ناحية الكتابة، اختفى جيل العمالقة في الشرق العربي، فلم يعد هناك أحمد أمين أو العقاد أو محمد حسين هيكل، وهذا، للأمانة، ظاهرة عالمية، فلم يعد هناك شكسبير أو همنغواي أو فيكتور هيغو. -ومن ناحية الفن، اختفى أيضا جيل العمالقة فلم يعد هناك عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش وتضاءل وجود فيروز ووديع الصافي، وظهرت على سطح الحياة الفنية، ومع استثناءات تؤكد القاعدة، ظواهر فنية أقرب إلى البثور. وهذا أيضا ظاهرة عالمية، فلم يعد هناك بيتهوفن ولا موزار ولا روسيني ولا بيزيه ولا غيرشوين. -من ناحية الصحافة، لم يعد للصحافة المشرقية، والمصرية واللبنانية على وجه التحديد، ذلك البريق الذي عرفناه في الخمسينيات والستينيات وبعض السبعينيات، وكان للتغيرات السياسية النصيب الأكبر من المسؤولية، وجاءت الإنترنت لتقضي على ما بقي لتلك الصحف المشرقية من نفوذ، وهو ما أضيف له ضعف المقروئية بشكل عام،. ذلك كله وكثير غيره طرح في دمشق خلال لقاءات التواصل بين المشرق والمغرب، وفي جو ساده اليقين العام بأن على المشرق العربي أن يدرك بأن مياها كثيرة مرت تحت الجسور وبأن مساهمات المغرب العربي في الثقافة العربية هي أكثر بكثير مما يتصور الكثيرون. وأشار التنظيم السوري للملتقى إلى هذه القضية بشكل ضمني واضح الدلالة، فقد ألقى كلمة المشاركين في افتتاح الأشغال المثقف المغربي الكبير الدكتور محمد الأشعري، بينما كلف أخوكم بإلقاء كلمة المشاركين في اختتام الملتقى، وعهد إلي برئاسة أحد جلسات المؤتمر. و كان أكثر من ثلث المشاركين من المغربي العربي بأقطاره الخمسة، وإن كنت الجزائري الوحيد الذي شارك في الأشغال. ولعلي أعود يوما لاستعراض مضمون اللقاء، لكن ما علي أن أقوله اليوم أن واجبنا في المغرب العربي أن نقدم كل المعطيات لأشقائنا في المشرق العرب، ويجب ألا يظل لقاء التوصل مقصورا على عواصم المشرق العربي، هذا إذا كنا نريد أن نكون طرفا فاعلا ومؤثرا في مسيرة الفكر والثقافة في الوطن العربي. انطباعات عابرة قضيت ساعات جميلة مع الانطلاقة الرائعة للتليفيزيون العربي، الذي يبث من مصر ويحمل نفس العنوان الذي انطلق في منتصف الستينيات، وأعادنا لمرحلة الخمسينيات بجمالها وتألقها، سياسيا وثقافيا، ولم يزعجني إلا أمران، أولهما ميوعة لا داعي لها لنيللي، التي كلفت بتنشيط الاحتفال بيوم إنشاء التلفزة المصري في يوليو 1960، أي منذ خمسين سنة، فتخيلت حضرتها أنها عادت خمسين سنة إلى الوراء وراحت "تقظبط" و"تتزعبن" وتتحدث كأنها صاحبة أربعة عشر ربيعا. لكن الأمر الثاني كان أكثر أهمية، فقد كان الشعار المرفوع والمتكرر في فقرات البرامج: كبارٌ بدأنا وكبارٌ نستمر، وذلك برفع كلمة كبار، التي كنت أتصور أنها يجب أن تكون منصوبة. ولم أستسلم للقاعدة التي درج البعض هنا وهناك على ترديدها وهي أننا أقل معرفة باللغة العربية من أشقائنا في المشرق العربي، وفي مصر على وجه التحديد. وهكذا، وعبر موقعي في الفيس بوك، انتقدت الأمر وتفاعل معي كثيرون خصوصا من الجزائروتونس ومصر نفسها. وفي اليوم الثالث من نشر التعليقات حذف الشعار، وحل محله شعار نصبت فيه كلمة "كبار"، تماما كما طالب بذلك كثيرون في الفيس بوك. وتذكرت على الفور ما حدث مع قناة النيل المصرية للأخبار، الذي كان مخرج حصتها الرياضية قد حذف العلم الجزائري من خلفية الصورة بحماقة غير مسبوقة، وتنبهنا للأمر، العزيزة فاطمة بن حوحو وأنا، وتحركنا على الفور، وفي اليوم الثالث لمباريات المونديال أعفي مخرج الحصة من مهمته وعاد العلم الجزائري إلى موقعه مع بقية الأعلام. وهذا كله مما يستحق الشكر والتقدير.