اكتسحت ظاهرة التشرد الشوارع و تفشت في أكبر المدن بمختلف دول العالم وتعد مدينة وهران من بين أكبر مدن الجزائر التي لم تسلم من هذه الظاهرة الاجتماعية فحين يحمل المتسولون رزمهم و حزم الدنانير التي جمعوها عند آخر كل مساء ليهبَوا نحو بيوتهم قبل حلول الظلام يقبع المتشردون منهم في الشارع أمام المحلات و محطات الحافلات و القطارات و على الأرصفة يفترشون الأرض و يلتحفون القش الرث يصنعون من الكارتون جدرانا ، اختلفت حكاياتهم بمآسي حاكها الزمن و نسجتها الظروف القاسية و اجتمعوا على هامش المجتمع ليحملوا ذات اللقب "المتشردون" . ليلة الأربعاء 4 فيفري الجاري كانت ليلة شديدة البرودة بدرجتين تحت الصفر رافقت الجمهورية فرقة المساعدة الاجتماعية الاستعجالية المتنقلة التي تجوب شوارع المدينة كل ليلة لتتفقد المتشردين الذين رفضوا الالتحاق بمراكزالحماية و الاستقبال و تمد يد المساعدة لهم في محاولة لإعادة إدماجهم في العائلة و المجتمع من جديد ، كانت الساعة تشير إلى التاسعة ليلا حين انطلقت سيارتا التضامن الاجتماعي ترافقها سيارة الشرطة من قرب مقر الأمن الولائي لتجوب مختلف شوارع وهران كانت أعين العناصر تترقب هنا و هناك لعلها تجد أحد المتشردين ، أول مجموعة تم العثور عليها كانت بالقرب من محطة نقل المسافرين بالحمري تتكون من ثلاث أشخاص اثنان يغرقان في نوم عميق و ثالثهما جالس يتسامر مع قنينة خمر ما إن اقتربنا منه حتى خبأها عن الأنظار،قامت عناصر فرقة المساعدة بإيقاظ صديقيه اللذان رفضا مرافقة الفرقة رغم أسلوب الإغراء الذي اعتمده الأخصائي النفساني محاولة منه لجلبهما نحو المصلحة للمبيت و دراسة حالتيهما أما صديقهما فقد دخل في مشادات كلامية تم استفزازه من خلالها بطريقة جعلته يعبر عن عدم خوفه من الجميع و على ذلك الأساس رمى قنينته و ارتدى حذائه و صعد السيارة ليكون أول حالة يتم استدراجها للالتحاق بالمصلحة تلك الليلة،و مرة أخرى بشارع العربي بن مهيدي ينام شيخ على الرصيف اقتربنا منه تم إيقاظه حاول العناصر إقناعه للذهاب معهم يرفض بشده يلتف كل من عناصر الفرقة و الشرطة حوله في محاولة أخرى لإقناعه بالمبيت بالمصلحة و الاطمئنان على صحته ومن تم يمكنه المغادرة إن شاء ذلك في الصباح يزداد غضبا و يملأ المكان صراخا رافضا الذهاب تفشل المحاولة، يغادر الجميع نحو شوارع أخرى شيئا فشيئا تقل حركة المارة و تزداد درجة الحرارة في الإنخفاض تستمر المحاولات في العثور على المتشردين بين الحين و الآخر يظهر أحدهم هنا أو هناك منهم من يتعرف على سيارة التضامن فيلتحق بالمجموعة يقول أنَه سيقوم بمرافقة الفرقة شرط أن يسمح له بمغادرة المصلحة صباحا، منهم من يفر بمجرد أن يلمح سيارة الفرقة التي كتب عليها بالبند العريض "تضامن" ، آخرون يرفضون بشدة و البعض ينتابهم الخوف ، منهم من يعد بالالتحاق بالمصلحة خلال اليوم الموالي و منهم من يرفض رفضا مطلقا و منهم من يقبل المجيء بعد إلحاح شديد منهم أشخاص من مدمني الكحول و الغراء يقبعون بالقرب من منازلهم و يفضلون البقاء خارجا في ليل بارد ،صادفنا تلك الليلة أكثر من 20 متشردا من بينهم امرأة وسط المدينة تجلس على الكرتون و اثنتان نائمتان على فراش رث و يلتحفون القش و البلاستيك كي يحميهم من زخات المطر بالقرب من مقر الأمن الولائي رفضن جميعهن الالتحاق بالمصلحة و كانت طريقتهن في الكلام أكثر حدة و عدوانية ، آخرون لم يستفيقوا من نومهم العميق رغم هزَ أجسادهم و رائحة الخمر تفوح من ملابسهم المبللة، آخرون ابدوا استياؤهم الشديد لأنَهم كانوا يغرقون في النوم و تم إزعاجهم و كأنهم يعبرون عن سخطهم تجاه المجتمع بالقول " حتى فالزنقة و لحقتونا"،خلال 3 ساعات جابت الفرقة جل الشوارع خاصة الرئيسية منها تم خلالها نقل حوالي 8 متشردين بصعوبة ، كانت الساعة تشير إلى منتصف الليل حين سارت المركبات نحو طريق العودة الى مقر المصلحة بحي الكميل و كانت الروائح الكريهة تفوح من أجساد "الضيوف" من افرازات جسدية و خمور تضاعفت حدتها بتدخين السجائر و نوافذ المركبة مغلوقة ، كان أحدهم يشرب سيجارة وآخر يغرق في النوم و الثالث يدندن مرددا أغنية، والرابع يلقي شعرا و آخر يصرخ" أيها السائق لقد غلبني النعاس توقف هنا و أنزلني أريد أن أنام " و نحن في طريق العودة يتصل رئيس فرقة المساعدة بالسيدة "عائشة" ألو .. نعم .. إنهم ثمانية حضري العشاء و رتبي الأسَرة "... بعد دقائق كان الجميع داخل المصلحة للإلتحاق بالمجموعة التي وصلت في الليلة السابقة و قد تمَ فصل عمي عبد القادر عنهم لأنَه كثير الحركة و الكلام حضرت له غرفة خاصة و بقى على مقربة من عون الأمن و في غرفة أخرى توجد سميرة ذات 19 سنة لا تغيب عن نظر السيدة عائشة . عمي عبد القادر من قبطان في البحر إلى شخص مجهول كانت الفرصة مواتية لنا للتقرب من عمي عبد القادر لمعرفة حكايته مع الشارع ، ينظر إلى سريره يحمل الغطاء بين يديه ينظر إليه جيدا ثم يرميه بعد ان اغرورقت عيناه بالدموع قائلا "حتى لون الغطاء لون لامارين.. البحرية" يقول عمي عبد القادر أنَه من مواليد 1962 سكن الشارع منذ عدة سنوات بعد أن خسر عمله كقبطان في البحرية بسبب مشكل لم يفصح عنه و اكتفى بالتحسَر يقف من جديد يستعَد ثم يقدم تحية القائد البحري يخرج من جيبه شارة ترمز لسلك البحرية و يحمل بيده قلما ازرقا، يتحدث مرة بالعربية و مرة أخرى بالانجليزية و الفرنسية ،يغرق في حزن عميق يذرف دمعا يردد حكما و اقوالا مبعثرة عن الحياة ،يقول أن أمه حليمة التي يضع خاتمها بيده قد غادرت الحياة من 61 يوما وهو ما زاد من حزنه.. يقول أنا الليلة ضيفكم و غدا سأغادر المكان علي أن أعود إلى الشارع .. يدندن و هو يردد إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر لابد أن يستجيب القدر سميرة تحنَ إلى بيت أبيها في انتظار قراره بإنتشالها من الشارع سميرة شابة في العقد الثاني من عمرها قدمت من إحدى الولايات المجاورة جابت الشوارع طيلة سنتين أمضت معظمها بالقرب من مصلحة الأمراض المعدية بالمستشفى الجامعي بن زرجب تقول أنَ وفاة أمها احدث خللا كبيرا في حياتها و زواج الأب من امرأة قاسية جعل أيامها جحيما لا تطاق، تدفعها للهروب من المنزل لتفتح على نفسها باب جحيم آخر نحو عالم التشرد، و بعد محاولات متكررة من قبل عناصر الفرقة التحقت سميرة بالمصلحة بعد الاستحمام و أخذ قسط من الراحة فتح معها باب الحوار أبدت سميرة نيَتها في العودة إلى المنزل و في حديثها أنين و حنين لأبيها الذي رفض رجوعها بعد البحث و الاستقصاء تم الاتصال بعمها و عمتها و إمام الحي و كذا عناصر الشرطة بمنطقتها في محاولة للتوسط واستعطاف الوالد ليمد يده لفلذة كبده و ينتشلها من وحل التشرد بعد إلحاح و إصرار أبدى هو الآخر نيته في فتح باب الحوار ما جعل الفرقة و على رأسها السيد بن تازي تتأهب للسفر ليلة أمس للاتفاق مع الوالد .... قساوة الشارع تسلب محمد عافيته في عزَ شبابه محمد شاب في ربيع العمر 20 سنة فقط غادر البيت بسبب قسوة زوجة الأب ، عثرت عليه الفرقة قبل سنة و نصف بأحد الشوارع رفض يد العون التي قدمت له و فضل البقاء في الشارع وهاهو اليوم يزور المصلحة بين الحين و الآخر و هو مصاب بمرض مزمن أضَر بكليتيه و هو مضطر لتصفية دمه بانتظام بالمستشفى مدى الحياة... في الليلة التي تنتظر فيها سميرة القرار الذي سيتخذه والدها ويفكر عمي عبد القادر في مغادرة المكان صباحا و يأخذ محمد موعدا للعلاج ينام في الغرفة المجاورة أكثر من 20 شخصا ينتظرون ما يخبؤه لهم القدر،في الوقت الذي يسكن الآلاف من أمثالهم أرصفة الشوارع ينتظرون مد يد العون، ينتظرون الفرج كما ينتظرون الموت تماما . عقود عمل تغيَر مصير مصطفى وعلي ومنصور في تلك الليلة أيضا لم تستح السعادة أن تزور من لا مأوى لهم فهي أيضا تجوب الشوارع أين يقبع عباد الله الذين لم يخفوا عن عينه التي لا تنام ،يتعلق الأمر ب3 أشخاص تم العثور عليهم في الشارع أولهم يدعى مصطفى البالغ من العمر 40سنة أعزب دفعته المشاكل مع عائلته إلى مغادرة المنزل ليتخذ من الرصيف سريرا له طيلة سنة كاملة و بعد العثور عليه تم التكفل به و خلال 24ساعة تم إدماجه في المجتمع مهنيا بالجزائر البيضاء و هي مؤسسة مصغرة تابعة لمديرية النشاط الاجتماعي خاصة بالنظافة وقَع عقد لمدة سنة قابل للتجديد سيمكَنه من الحصول على راتب يقدر ب18 ألف دج حفَزه للاتصال بإخوته ليزف لهم الخبر المفرح، و الذين تقدموا مباشرة نحو المصلحة و قرَروا مساعدته بكراء منزل و تزويجه. علي صاحب 35سنة انفصل عن زوجته دون تطليقها بسبب مشاكل مادية ارتمى هو في أحضان الشارع و لجأت هي إلى بيت أهلها، بعد إدماجه أيضا مهنيا بالجزائر البيضاء اتصل بها و وافقت على العودة إليه مباشرة بعد سماع الخبر و قرر كراء منزل بحي فوضوي مقابل 4الاف دج للشهر و يستأنف حياته الزوجية. أما منصور البالغ من العمر 42 سنة فلم تسعه الفرحة بعد توقيع العقد و قرر كراء منزل و العيش لوحده و متابعة العلاج فهو يتناول أدوية نفسية منذ مدة و خطط لبناء حياته من جديد رافضا الاتصال بعائلته التي يحمَلها الكثير من المسؤولية لما عاشه من آلام بالشارع. التكفل ب 857متشردا و إعادة إدماج 263 بعائلاتهم سنة2014 مصلحة الاستعجالات الاجتماعية المتكونة من سائق و عون امن و أخصائي اجتماعي و أخصائي نفساني تابعة لمديرية النشاط الاجتماعي انطلقت في عملها منذ سنة 2010 تتكون من طاقم إداري و فريقي عمل أولهما ينشط بالنهار يهتم بجمع المتسولين و الفريق الثاني ينطلق في عمله خلال فترة الليل مرفقا بعناصر الشرطة يهتم بأمر المتشردين، طيلة 4 سنوات قامت من خلالها الفرقة بالتكفل بأكثر من أربع آلاف شخص بدون مأوى معظمهم من صنف الرجال بنسبة 66 بالمائة بأغلبية تقل أعمارهم عن 50سنة ،و قد تم التكفل ب857 متشردا خلال السنة الفارطة من بينهم 423متشردا جديدا و434 متشردا اعتادت الفرقة التكفل بهم استطاعت أن تعيد إدماج 263 منهم بعائلاتهم في حين تم تحويل 549 على مستوى مراكز الإيواء على مستوى الولاية أما عدد الأشخاص الذين تم توجيههم نحو مديرية النشاط الاجتماعي التابعة لولاياتهم فقد بلغ عددهم 22 شخصا كما تم توجيه 13 منهم نحو مستشفى الأمراض العقلية و 3 أشخاص نحو العيادات متعددة الخدمات و 7 قصر نحو مصلحة الأحداث . أما خلال شهر جانفي من السنة الجارية فقد تم التكفل ب38 شخصا جديدا و 20 متشردا قديما تعوَد على الالتحاق بالمصلحة و مغادرتها بين الفترة و الأخرى ، منهم من يتصل بالمجموعة إذا ما كان بحاجة إلى الاستحمام أو اللباس أو عيادة الطبيب أو الأكل الذي يتم جلبه من دار الحضانة خلال النهار أما وجبة العشاء فيتم جلبها من دار الأشخاص المسنين بشكل يومي أما القهوة فيتم إعدادها بمطبخ المصلحة . البطالة المشاكل العائلية و الزهايمر و الجنون يصنعون الكارثة و انتهت دراسة الحالات على مستوى المصلحة إلى نتائج مفادها أنَ السبب الرئيسي الذي يرمي بالعديد من الأشخاص العاديين للمبيت بالشوارع هو قدومهم من ولايات مجاورة للبحث عن عمل فيصرفون ما بجعبتهم من أموال في رحلة البحث عن الأكل و تأمين أماكن للمبيت بالفنادق و بعد أيام ينتقلون للمبيت بأماكن أخرى على غرار قضاء الليالي بالحمامات مقابل 175دج لليلة الواحدة و هناك أشخاص يسكنون الحمامات طيلة سنوات و كثيرا ما يجد البعض منهم مضطرا بعد نفاذ أموالهم للمبيت على الرصيف و الأقبية و من تم تبدأ رحلتهم نحو عالم التشرد رافضين العودة إلى عائلاتهم و تأتي المشاكل العائلية من بين الأسباب التي تدفع بالأشخاص للهروب من جحيم المنزل خاصة بالنسبة للأشخاص الذين تفوق أعمارهم 50سنة هذه الفئة بها أفراد أهملهم أهلهم ، و من بينها أشخاص أصيبوا بالزهايمر و تاهوا بالشوارع لفترات متفاوتة منهم من يتم إرجاعه إلى حضن عائلته و منهم من لا يزال تائها، أما فيما يتعلق بالنساء فإنَ مشاكل الطلاق و التفكك الأسري تأتي في مقدمة الأسباب التي تدفع ببعض النساء لمغادرة البيت أو الطرد منه ،إضافة الى فئة أخرى من النساء و هي فئة الأمهات العازبات الهاربات من الفضيحة ووصمة العار. الأخصائي النفساني بن محمود أحمد المتشرد فاقد للثقة بالآخرين و متمرد على القوانين هذه الفئة ترفض التنقل إلى مراكز الإيواء لان هذه المؤسسات تحكمها قوانين داخلية مهمتها ترميم الذات لدى الشخص بدون مأوى باعتبار أنه تعرض إلى ضغوطات و مشاكل عديدة ،جعلته يفقد الثقة بالآخرين. هذه المراكز تعلمه سلوكات حضارية افتقدها في الشارع و هنا تظهر فئتين، فئة غلبها عامل الزمن و أطالت البقاء في الشارع ترفض السير وفق النظام و تتمرد على القانون الداخلي وكي تكون أكثر حرية تفضل البقاء خارج المركز متحررة من القوانين تأكل متى تشاء و تنام وقتما و أينما تشاء كما تقضي حاجتها البيولوجية في أي مكان ما، أما الفئة التي لم تمض وقتا طويلا بالشارع فيمكن إنقاذها و إعادة إدماجها من جديد و هناك تقنيات يستعملها الأخصائي النفساني لتحقيق الاتصال الجيد و الانسجام مع المتشرد في مكان تواجده بالشارع و هي اولى الخطوات لمساعدته. صافر خديجة أخصائية نفسانية تربوية مكلفة بالإدماج التشرد ظاهرة اجتماعية صنعها الرفض والتهميش المجتمع هو أول مساهم في تفاقم مشكلة التشرد حيث أن الرفض و التهميش لهذه الفئة هو السبب الأساسي في هذه الظاهرة، فالمتشرد هو ضحية مجتمع وبدايته من الأسرة بسبب تفككها أو رفضها المساهمة في بناء شخصية الفرد و تحمل المسؤولية كاملة تجاهه فمعظم هؤلاء هم نتاج أسر متفككة ،و هناك عامل آخر يتعلق بالنمو الاقتصادي و التنمية التي مست مناطق دون أخرى إضافة إلى العوامل التربوية و الثقافية ، زيادة على ما يشهده العالم اليوم من أزمات و صراعات و رفض للحوار،على هذا يبقى الحوار أهم طريقة لمساعدة المتشرد على استعادة الثقة التي فقدها في نفسه و في المجتمع عامة.