سألني رئيس تحرير جريدة الجمهورية الأستاذ محمد الصالح، بمحبته الاعتيادية، إذا كان لدي موضوع يشغلني للكتابة عنه. قلت له نعم. سأكتب عن متحف وهران، الذي يبدو أنه أصبح قبرا حقيقيا. قصة هذا المتحف قصة. زرته العديد من المرات، وفي كل مرة أخرج أكثر حزنا. آخر مرة غادرته مجروحا من شدة الإهمال الذي يعاني منه. كيف لمتحف جميل، يحتوي على ميراث إنساني نادر، وإسباني كبير، كيف يخرج هذا الفضاء من دائرة الضيق والموت وما هي السبل لمنحه بحض الحياة. كان نورالدين مالكي، الذي سيصبح مديرا له لاحقا، أستاذي في اللغة الإسبانية في جامعة السانية بوهران وابن قريتي. أكثر من هذا كان صديقا جميلا على الرغم من فارق السن إذ كان يكبرني ببعض السنوات. وهو الابن البكر لأستاذنا الأول مالكي، باللغة الفرنسية في فترة ما بعد الاستقلال. من أقدم أساتذة التعليم في قرية السواني. منظم بشكل محكم وكبير. كان نور الدين يتقن الإسبانية من أمه. كان المتحف قبله عبارة عن فضاء يكاد يكون قبرا وفي حاجة لمن يحركه. حتى أن بعض الوثائق سرقت، وبعض اللوحات غابت فجأة والكثير من المخطوطات يعلم الله أين ذهبت. إما هربت أو بيعت كما حدث للكثير من مقتنيات المكتبة الوطنية. من أجل الكتابة عن المتحف لصالح الجنورية، تجولت في داخله كزائر حيادي. أتذكر أن إحساسا غريبا انتابني فجأة، وشعرت بالبرد، فقد بدا لي كأني كنت أتحرك داخل قبر. رائحة بول الفئران، ممزوجة بالرطوبة التي أكلت الكثير من المخطوطات القديمة. أدركت يومها أيضا أن مأساة الميراث متعددة الجوانب. الجيل الأول خرج من هذه الدنيا، بعد فترة ما بعد الاستقلال، ولم يترك وراءه جيلا جديدا قادرا على التسيير لأسباب لغوية بالدرجة الأولى. الجيل الأول كان مفرنسا وباسم التعريب حرم من تمرير خبرته المعرفية خارج أية إيديولوجية، للأجيال المعربة التي أعقبته. ولم يتم التأسيس لجيل جديد قادر على السير بالمؤسسات بشكل فعال. العربية كانت مجيّشة أكثر من التفكير في عربية تضمن التواصل الثقافي والحضاري. العربية السياسية الجاهزة ابتلعت عربية الفكر. كانت تحتاج إلى جهد ثقافي وليس إلى شعار وهو ما أفقدها جوهرا ما. ليست المشكلة في اللغة نفسها طبعا ولكن في الثقل الأيديولوجي الذي تمت صياغتها داخله. . أي لغة تصلح وتنظم العبرية القديمة، التركية، الصينية وغيرها. في أية يجب أن تحدث شيئين. يجب أن تستجيب للحلجة الثقافية والحضارية والتوصلية. العربية بقيت محرومة من بعدها التواصلي وظلت تعيش فقط في المدرسة. ظلت في الأغلب الأعم لغة دينية يسندها خطاب سياسي وثوقي لا يقبل إلا يقينه. ومع ذلك ظللت ملتصقا بها. الصحافة أكدت يقيني على وجود لغة عربية قابلة للتعايش مع الأوضاع وتوصيفها بحيوية. بجانب العربية، كنت أتعلم الإسبانية عند الأستاذ نور الدين مالكي الذ جعلني أحبها بقوة. وعندما أصبح نور الدين مديرا لمتحف زبانا، كانت سعادتي كبيرة. شعرت بأن شيئا سيتغير في المتحف وسيصبح له وجه آخر. أولا بعد أن كان مغلقا مثل مقبرة لا تحوي إلا رفاة من الورق والخشب، مر عليها زمن زمن بعيد، أصبح المدير داخلها كأنه حارس مقبرة قديمة، الفرق الوحيد هو أن حارس المقبرة يمكن أن تراه؟ ويساعدك على معرفة قبر عزيز تريد أن تقف عليه لقراءة الفاتحة. بينما مدير متحف وهران لا تراه أبدا. لا أعرف لماذا أغلب مدراء مؤسساتنا لا يرون؟ هل لأنهم مهمون جدا ورؤيتهم ومناقشتهم تزيل عنهم وجاهتهم الوهمية أم يخافون من أن نكتشف جهلهم ونصرخ: هذا السيد واش راه يدير في المتحف؟ ربما كان مديرا لسوق الفلاح؟ أو مكلفا ببيع قطاع غيار السيارات في السوناكوم، ووجد نفسه فجأة في مكان لا يمكن أن يشعر به مطلقا؟ أم لأن البعد يستر العورات؟ أم أنها صفة من صفات المدير أن يظل بعبعا مخيفا لا قوة تخرجه من غاره إلا قوة أقوى منه؟ عندما غطيت متحف وهران وقتها قبل مجيء الأستاذ مالكي، كان هذا انطباعي العميق وأنا أضع المقالة على مكتب رئيس التحرير وعندي شك في أنها ستنشر. مع الزمن تعلمت شيئا مهما وما زلت أسير عليه إلى اليوم: وظيفتي أن أكتب بصدق وحرية عما أراه، وللرقيب حريته في القيام بعمله. كنت أرى أن المتحف يلفظ أنفاسه ويموت بهدوء. قال محمد الصالح، رئيس تحرير الجريدة. ننشره. مهم لأنه يثير الانتباه إلى معلم وطني يموت بسبب الإهمال. لكن يا السي واسيني وجّد ظهرك. لن يمر نقد مثل هذا بصمت؟ ما توقعه رئيس التحرير حدث. فقد زار الجريدة شخص مخول من مدير متحف وهران، قدم عارضة احتجاجية على المقالة. واعتبر كل ما قيل فيها مسّ بالثورة والشهداء الذين ضحوا بالنفس والنفيس. كنت أعرف هذا الخطاب البائس وأقوم أنا نفسي بإتمامه إمعانا في السخرية: وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الاستعمار وأزلامه ما يزالون بيننا ويجب تنقية مؤسساتنا الوطنية المعطاءة منهم. يريدون أن يوقفوا زحف الثورة ولكن هيهاااات هيهااات. نحن لهم بالمرصاد. أعتقد أن هذا الخطاب المجلل بالكذب والتهديدات، يقدم خدمة جليلة للاستعمار الذي يحتاج إلى مثل هذه الأشياء الجوفاء. طبعا هدد برفع قضية لكننا كنا نعرف مسبقا أنه لن يفعل ذلك لأن كل ما قيل عن إهمال المتحف كان له ما يقبله في الوضع البائس الذي كان يعيشه. مجي شاب ممثل في مالكي نور الدين غير كل شيء. فجأة أصبح المتحف حيا ومشاركا في النقاشات الثقافية العامة. مشكلة التراث، حماية المخطوطات، الميراث الأندلسي، التاريخ الاسباني في وهران، المسكوكات النقدية وغيرها. معارض ثقافية متنوعة عن تاريخ وهران وخصوصيتها. أصبح المتحف فجأة واحدا من أهم المؤسسات الثقافية الفاعلة كلما تعلق الأمر بالنشاط في وهران. فقد أعطاه نور الدين من شبابه وحياته. وتعدديته اللغوية والثقافية. أصبح يتنفس النور والحياة، وكف عن أن يكون مجرد مقبرة محمية. كان مالكي علامة من علامات وهران الثقافية. للأسف، سرقه الموت مبكرا بسكتة قلبية وهو في عز عطائه وحبه لعمله. التقيت به أياما قبل وفاته، وكان قد دعاني في العديد من المرات لزيارة المتحف، لم أستجب إلا لواحدة أعتقد أنها كانت عن ترحيل الأندلسيين. رأيته يومها متعبا. قال. يا واسيني الذي يقتل في هذه البلاد ليس العمل ولكن الدوران في فراغ طاحونة الوقت الضائع. الفراغ ينهك لدرجة القتل. يجعلك تتآكل كما الشمعة تحت فعل النار. وعندما يسأل الإنسان نفسه، ماذا أنجز؟ يكتشف أنه كان يعمل فقط على تسيير وضع متخلف. والدوران داخل المشكلات التي يفتعلها الذين وجدوا أنفسهم في مكان لا علاقة لهم به. التدخل السافر للخطاب السياسي عطل كل شيء. ونسي المسؤولون فجأة أن المهمة الأساسية للمتحف هي ثقافية وحضارية ويجب تعليم الناس على اكتشاف جانب من شخصيتهم الخفية التي صنعتها هذه الظروف التي يحتفظ المتحف ببعض ملامسها. لهذا كله كما كان يقول نور الدين رحمه الله، يجب تقريب المتحف من الناس. فهم يخافونه بمجرد ما يقرؤون الشارة: متحف وهران، أو متحف زبانا، وكأنه مستشفى أو بلدية، لأنهم يذعرون من البيروقراطية الهالكة والخطيرة. بينما المتحف يفترض أن يكون ذاكرة حية يدخلها كل الناس، من المثقفين والبسطاء وأطفال المدارس ليتعرفوا على الثقافات الأخرى والأقوام التي دخلت إلى وهران وتركت آثارها. كان نور الدين مالكي يحلم بأن يجعل من متحف زبانا منجزا ثقافيا كبيرا بإعادة تأهيله، لكن الموت سبقه إليه فسرقه تاركا وراءه مشروعه الكبير معلقا. آخر جمل نور الدين كانت: نحب هذه الأرض. عشنا فيها ونموت فيها. لكنها ستنتفي يوم يسيطر فيها الجهل والضغينة، وينتصر على العقل والمعرفة. أنظر من حولك وسترى هذه الحقيقة المرة، لا أحد في مكانه وفاقد الشيء لا يعطيه. لم أتفق معه يومها لأني شعرت به يحكي بألم لخيبة ما، لكن مع مرور الزمن، أن ما قاله نور الدين لم يصدر عن مسألة شخصية يريد تصريفها ولكن عن خوف من أن يبتلع الجهل وسوء التسيير والخطاب المفرغ والبيروقراطية كل بذرة لحياة ممكنة. أن يحرق أرضا ويأكل وطنا.