- تلك العينان ليستا غريبتين عنيّ.. بهذا حدثْتُ نفسي وأنا أردّ السلام بأحسن منه على ذلك السيد الذي لمحتُه منذ فترة من خلف الزجاج . أحسست أنه في انتظار خروجي من مكتبة العالم الثالث الواقعة بوسط العاصمة، المواجهة تماما لتمثال الأمير عبد القادر، حيث قضيتُ وقتا بين رفوفها. عند الرصيف وشمس الخريف اقترب مني بلطف، وربما بلهفة أيضا. طفلة صغيرة كانت برفقته، تشبه زهرة الخزامى، تحيط ساقيه بذراعيها النحيفتين، وعلى خجل تبتسم لي. يبدو أنه انتظرني طويلا . - ياك الدكتورة ربيعة جلطي.. مانيش غالط ؟ - لا لا ماراكش غالط .. مَرْحْبا بيك . هذا الوجه.. هذا الوجه.. أين رأيته يا إلهي ..؟ ..كنتُ في عراكٍ مع ذاكرتي الخائنة.. مسحتُ على رأس الطفلة وقبّلتُ جبينها . - هل تذكرينني أستاذة ؟ كنت ساردّ عليه كعادة الناس بترديد"الأسطوانة " الجماعية نفسها، عن الذاكرة المتعبة في هذا العصر المتعِب، وما تفعله بنا من ألاعيب، إلا أنه أنقذ الموقف للتو : - أنا بوبكار عامر. قالها وابتسم بمرح أو ربما بألم . لا مهرب. مهما تغيرنا يفضح سرَّنا عمقُ العينين منا. إنه الشاهد الأمين علينا. كم تبدل بوبكار عامر منذ أن شاهدته خلال عشرية الجمر. لكن عمق عينيه ظل سالما. سالما على الرغم من أن سنوات الجراح الصعبة تلك، لم تترك شيئا دون شرخ ما، فينا جميعا .بوبكار الوهراني. زميلي بالدراسة في المتوسطة ثم الثانوية. والده كان فقيها يفهم في أمور الدين بعيدا عن أمواج السياسة و الإيديولوجيات المتلاطمة . لكن ابنه بوبكار مسته موجة صاعقة فناصر التشدد والمغالاة. انتسب إلى حزب إسلامي راديكالي وانخرط بقوة في الدعوة إلى تطبيق تشريعاته. وصلتني أخبار كثيرة عنه خلال سنوات ممتدة . إنه يقف قبالتي الآن وقد أضناه السقم. يكاد يعتذر عن الأذى الذي سببه لنفسه ولغيره. لم يعد بلحيته الحمراء الكثة التي كان يعفو عنها بينما يحلق شاربه .تخلص من لباسه الأفغاني ومن نعله، ومن ملامحه التي تحاول أن تبدو جادة دوما وقاسية أكثر من اللازم، وصوته ذي النبرات الناهرة. - دكتورة ربيعة أنا أحبك في الله . الشارع مكتظ وشمس الخريف هادئة ونحن قبالة تمثال الأمير عبد القادر المتألق في أهبة الفارس .الطفلة أصغر بنات بوبكارعامر تتقافز حوله بينما هو لا يتوقف عن الكلام. كأنه ممتلئ حتى التمام. ويريد أن يفضي بكل شيء.. والسلام. لم أقاطعه. كنت أنظر إليه كمن تستمع باهتمام. أحسست أنه بحاجة ماسة إلى البوح. - أن تندم على شيء لم تفعله أفضل من أن تندم على شيء فعلته..! هذا ما كانت حنّة، جدتي فاطمة الزرهونية، تردده باستمرار. شعرت أن الندم يعصره. شوكة ما مؤذية تتحرك في صدره. في ممر نفَسه مع كل كلمة. تنغص عليه. كأن جرحا ما لم يندمل منذ تلك السنوات المؤلمة. ظل موجعا له، ككل واحد منا .وفينا. بوبكار يتحدث بسرعة. يحرك رأسه ويديه ليقول كل شيء دفعة واحدة. يتلعثم. يحدثني بحرارة وكأنه يحنّ إلى زمن المدرسة الأول النقي قبل أن تتأذّى نفسه بما أقدم عليه. يذكر أشياء عن داخل حزبه المتشدد، وعن تجربة انتخابات البلديات. ذكر تفاصيل صغيرة، تبدو غير ذات أهمية إلا أن بها يمكن أن تُبْني أجزاءُ الحقيقة. أفضى باعترافات خطيرة ومثيرة ومحزنة. تمنيت لو أنني لم أعرفها.. صوته يبتعد قليلا قليلا. لم أعد أبصر سوى ملامحه المتغيرة، ولم أعد أسمعه. وجوه أخرى تحضرني فأمتلئ بها فجأة، في أعماق عيونها تتلألأ صورة الجزائر، تمدّ طوق النجاة من وهران، وجه ابن وهران البارّ سويح الهواري (1015-1990) أول نائب عمدة لها، والوالي الأول لها بعد الاستقلال. سويح الهواري ،ذلك الرجل المقاوم المتميز. من الرجال صُنّاع التاريخ المضيء. تذكرتُ "قائمة الباهية " القائمة الحالمة التي كنتُ من بين أسمائها في الانتخابات البلدية: الصايم الحاج، وعبد القادرعلولة، والأستاذ محمد بهلول، والأستاذ امحمد فرحات، والأستاذ غوادني، والأستاذة فاطمة الزهرة ساعي..وغيرهم وغيرهم.. أسماء من نور. وجوه وهران ونجوم الجزائر المضيئة. وجوه كانت تريد أن تعبر بالبلاد نحو الحلم بالحضور والتجمعات ومقاومة اليأس. الحلم أن تصبح جنة على الأرض، بينما كان بوبكارعامر الذي أمامي الآن ورفقاؤه في الجهة الأخرى من الحلم، يريدون أن يعْبُروا من وهران إلى جنة مِنْ وَهْم. لا تهمُّ الخسائر!. انتبهت للطفلة التي تشبه زهرة الخزامى وهي تجذب طرف سترة بوبكار تريد ماء. لم تكن سيارتي بعيدة فناولتها منها قنينة ماء صغيرة. وأنا أستعدُّ أن أودعهما شعرتُ بحزن عميق داخلي. أشفقتُ على بوبكار المريض جسدا ونفْسا. لوّح لي قائلا: - أحبك في الله أخيّتي دكتورة ربيعة! . أجبته من أعماق قلبي: - وأنا أيضا أخي بوبكار..أحبك في الله والوطن والإنسانية..وتبا للسياسة!. وانزلقت من عينيّ دمعتان.