مع التطورات السياسية الأخيرة في الجزائر بات هذا البلد العربي الشقيق يحظى باهتمام مكثف من الصحف ووسائل الإعلام حول العالم فيما قدم الجزائريون إبداعات متوهجة في الثقافة العربية كما حظوا بحضور واضح في الثقافة الغربية خاصة في فرنسا. وإذ تستعد الجزائر لكتابة صفحة جديدة في مسيرتها وسط آمال المصريين والعرب ككل لهذا البلد الشقيق بغد أفضل بلبي طموحات كل الجزائريين في ظل الوئام الوطني، فإن الثقافة الجزائرية مكون عزيز من مكونات الثقافة العربية كما أن هذا البلد اقترن بأسماء مثقفين وأدباء كبار في العالم على رأسهم الكاتب والفيلسوف الوجودي الفرنسي الكبير البير كامو الذي ارتبط ارتباطا وثيقا بالجزائر والهاماتها الثقافية. ومن هنا قيل بحق انه إذا كان الأديب النوبلي نجيب محفوظ هو الكاتب الذي عبر أفضل تعبير عن القاهرة والمصريين، فان البير كامو الذي ولد في السابع من نوفمبر عام 1913 في قسنطينةالجزائرية وقضى في الرابع من يناير عام 1960 لا يذكر إلا وتذكر معه الجزائر التي بقت حاضرة دوما في وجدان وابداعات هذا الأديب النوبلي المناوئ للاستعمار والهيمنة وصاحب “أسطورة سيزيف” و”المتمرد” و”الغريب” و”الطاعون” و”سوء تفاهم” و”كاليجولا” و”الرجل السعيد” وهي سيرة ذاتية عن حياته في الجزائر. وأن اضطر بعضهم للكتابة بالفرنسية بحكم عوامل ومعطيات تاريخية فرضت عليهم أثناء السنوات الطويلة للاستعمار فإن المبدعين الجزائريين الكبار مثل آسيا جبار التي قضت في السادس من فبراير عام 2015 وكان اسمها يتردد من قبل ضمن المرشحين المحتملين للفوز بجائزة نوبل في الآداب ارتبطوا كل الارتباط بشعبهم وقضايا مواطنيهم واستقلال الوطن وهموم وأماني أمتهم العربية. ومن حيث الجوهر الإبداعي لن يختلف الأمر كثيرا على هذا الصعيد بين آسيا جبار التي ولدت عام 1936 باسم “فاطمة الزهراء” وأبدعت بالفرنسية روائع في الرواية مثل “نساء الجزائر” و”الجزائر البيضاء” و”لامكان في بيت أبي” و”العطش” و”نافذة الصبر” و”ظل السلطانة” و”بعيدًا عن المدينة” وبين مبدع روائي جزائري آخر يكتب بالعربية هو الطاهر وطار الذي قضى في الثاني عشر من أغسطس عام 2010 مخلفا روائع في أدب المسرح والقصة والرواية مثل “الشهداء يعودون هذا الأسبوع” و”الزلزال”و”تجربة في العشق” و”رمانة” و”الشمعة والدهاليز”. وهكذا كانت وصية آسيا جبار التي عاشت سنوات طويلة في باريس أن تدفن في مسقط رأسها “شرشال” بغرب الجزائر لتواري ثري الوطن الذي عاش فيها شأنها في ذلك شأن الطاهر وطار الذي ولد في العام ذاته الذي ولدت فيه تلك الكاتبة الجزائرية الكبيرة والتي أبدعت بالفرنسية ومعها ثلة أخرى من المبدعين الجزائريين مثل محمد ديب وكاتب ياسين ومالك حداد وكلهم ارتبطوا بالجزائر ودافعوا عن استقلالها وانعتاقها من الاستعمار. أما الشاعر مفدى زكريا الذي ولد عام 1908 وقضى عام 1977 فهو يوصف “بشاعر الثورة الجزائرية” ومؤلف نشيدها الوطني: “قسما” الذي لحنه الفنان والموسيقار المصري محمد فوزي فيما ترك لديوان الشعر العربي إبداعات خالدة مثل: “اللهب المقدس” و”الياذة الجزائر” و”من وحي الأطلس” و”تحت ظلال الزيتون” وكان ينشر بعض قصائده في الصحف المصرية أثناء انخراطه في المقاومة ضد الاستعمار والثورة التحررية التي آزرتها مصر بكل الإخلاص حتى نالت الجزائر استقلالها عام 1962. وعشاق الأدب والرواية على وجه الخصوص في مصر يعرفون جيدا أعمال الكتاب الجزائريين المعاصرين مثل واسيني الأعرج صاحب “البوابة الزرقاء” و”طوق الياسمين” و”نوار اللوز” و”سيدة المقام” و”حارسة الظلال” و”البيت الأندلسي” و”رماد الشرق” و”نساء كازانوفا” وكذلك بشير مفتي صاحب: “أمطار الليل” و”الظل والغياب” و”بخور السراب” و”شاهد العتمة” ولعبة السعادة”. والشاعرة الجزائرية المقيمة في فرنسا لويزا ناظور وصاحبة ديوان:”تنهض بي بعيدا” تحظى باعجاب عشاق القصيد لعذوبة شعرها الإنساني كما أنها لم تختلف عن غيرها من المبدعين الجزائريين الذين عاشوا في الخارج غير أنهم ارتبطوا كل الارتباط بهموم وآمال شعبهم فضلا عن قضايا الأمة العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. وبحكم ثورتها الفريدة ودورها المميز في العالم الثالث وحركة عدم الانحياز، لم يكن من الغريب ان تلفت الجزائر اهتمام مثقفين غربيين مثل الأمريكية إيلين مختفي التي تزوجت من الجزائري “مختار مختفي” التي أصدرت كتابا بعنوان “الجزائر عاصمة العالم الثالث” ويحمل رؤيتها لحركة التحرر الوطني في هذا البلد العربي او “وطن المليون شهيد”. و”أرواح الشهداء في وطن المليون شهيد” لابد وانها حاضرة في الضمير العام للشعب الجزائري الأبي والدعوات المخلصة للحفاظ على مقدرات الوطن ومكتسبات المواطنين ومرتكزات الدولة الوطنية عبر مسيرة التطور التاريخي للجزائر التي قدم أبنائها تضحيات اسطورية وملاحم نضالية خالدة من اجل التحرر والاستقلال في مواجهة استعمار دام اكثر من 130 عاما واتخذ طابعا استيطانيا وسعى لإلحاق الجزائربفرنسا. والمثقف والشاعر الجزائري الكبير مالك حداد الذي ولد يوم الخامس من يوليو عام 1927 في قسنطينة وقضى في الثاني من يونيو عام 1978 كان يقول إنه “يبكي أحيانا لعدم قدرته على الكتابة بالعربية” لكنه كان دوما يحلم بالعربية مثل كل مواطنيه وان كتب بالفرنسية. ومالك حداد هو أحد المبدعين الذين تركوا ابداعات خالدة حول “الأم” وكانت والدته تشعر بالجزع عندما يتعرض للاعتقال من جانب سلطات الاحتلال الفرنسي ليقول في قصيدته “بداية منفى” :”جاءوا إلى بيتي بقسنطينة.. جاءوا مساء فهم يزعجون الأحلام دوما في المساء.. والدتي وجلة وبيتي يغمض عينيه”. ثم أن مالك حداد هو الذي خاطب بالحنين طائر الحسون في قصيدته “العودة” ليقول :”ايها الحسون حدثني عن والدتي” كما تحدث عنها في قصيدته “سأداوم الحراسة هذا المساء” كما استدعاها في “كليرمون فيرون” بقوله :”أمي تدعى يما وأنا اسميها والدتي” ثم أنه القائل: “كتبت دومًا لأجل أن استحق أمي”. ومن نافلة القول إن الجزائر تحظى بمكانة عزيزة في الوجدان المصري والذاكرة الثقافية للمصريين التي تستدعي بالتكريم “وطن المليون شهيد” وتعتز بكفاح الشعب الجزائري لنيل الاستقلال والتحرر من الاستعمار الطويل فيما اطلق اسم الموسيقار المصري محمد فوزي على المعهد العالي للموسيقى في الجزائر تكريما لهذا المبدع المصري الذي لحن النشيد الوطني الجزائري. ومن يقرأ رواية شهيرة في الأدب الجزائري هي رواية “نجمة” للكاتب الجزائري الراحل كاتب ياسين الذي كان يكتب بالفرنسية سيجد عبر إشارات خاطفة تقديرا وحبا لمصر المنفتحة حضاريا فيما يتناول في هذه الرواية الشهيرة الكثير من تفاصيل رحلات الحج للجزائريين ومنهما “سي مختار ورشيد” اللذين يركبان البحر من قسنطينة قاصدين الحج في مكةالمكرمة. وإذ يشير كاتب ياسين الذي ولد عام 1929 في قسنطينة وقضى في الثامن والعشرين من أكتوبر عام 1989 في روايته “نجمة” لمصر وانفتاحها الحضاري، فإن المطرب الجزائري خالد حاج ابراهيم والشهير عربيا وعالميا ب”الشاب خالد” قد وصف مصر “بالمدرسة الكبيرة التي يتعلم منها كل المطربين والفنانين العرب” منوها إلى أنه “تعلم الكثير من الموسيقى المصرية خلال مسيرته الفنية”. والجزائر الشقيقة كانت ضيف شرف في دورة معرض القاهرة الدولي للكتاب في عام 2018 وحظيت ثقافتها بالحفاوة على مستويات متعددة في هذا المعرض ومن بينها السينما التي لم تغفل أهمية إبراز الفيلم الشهير “معركة الجزائر” الذي أنتج عام 1966 وتوج من قبل بجائزة “الأسد الذهبي” لمهرجان فينسيا السينمائي ويعرض بطولات لأبناء الجزائر إبان معارك الاستقلال. وكان من الطبيعي أن يتضمن هذا العرس الثقافي المصري الذي اختار المبدع عبد الرحمن الشرقاوي كشخصية المعرض فيلمه الشهير “الأرض” الذي كتبه فيما أخرجه يوسف شاهين ليكون من روائع السينما المصرية فيما اشترك الراحلان العظيمان أيضًا في صنع فيلم “جميلة” الذي لم يغب عن الدورة الحالية لمعرض القاهرة الدولي للكتاب ويحظى دوما بإعجاب المصريين ببطولات المناضلة الجزائرية جميلة بو حيرد. ووسط ترحيب كل المصريين قامت المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد بزيارة في شهر فبراير من العام الماضي لمصر للمشاركة في عدة فعاليات ثقافية وحظت بتكريم المجلس القومي للمرأة برئاسة الدكتورة مايا مرسي بوصفها أيقونة من أيقونات المقاومة الخالدة ضد الاحتلال والاستعمار. وفي سياق هذه الزيارة، قالت الدكتورة مايا مرسي إن جميلة بوحيرد صاحبة تاريخ حافل بالتضحية والإيثار وحب الوطن حتى باتت “رمزا خالدا للكفاح من أجل الحرية” لافتة إلى أن اسمها يستدعي دوما اسمي معاني النضال والتضحية وروح البطولة. وكانت وزيرة الثقافة الدكتورة إيناس عبد الدايم قد أعربت عن سعادتها البالغة بزيارة جميلة بو حيرد لمصر ووجهت التحية لهذه المناضلة الجزائرية التي ولدت عام 1935 في حي القصبة بالعاصمة الجزائرية.. مؤكدة أنها ستظل دوما في قلوب الجميع. وعندما اندلعت الثورة الجزائرية في بداية شهر نوفمبرعام 1954 انضمت جميلة بو حيرد وهي شابة في العشرين من عمرها لحركة المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي وقامت بعمليات فدائية حتى اعتقلت في عام 1957 بعد إصابتها برصاصة في الكتف لتتعرض لممارسات تعذيب وحشي على مدى ثلاث سنوات في سجنها وصدر بحقها حكم بالإعدام قوبل باحتجاجات عالمية ومشاعر غضب في كل مكان فعدل للسجن مدى الحياة إلى أن أطلق سراحها بعد نيل الجزائر استقلالها في عام 1962. وإذ أكدت جميلة بو حيرد أنها لن تنسى تضامن شعب مصر مع الثورة الجزائرية من أجل التحرر والاستقلال فإن هذه المناضلة تسكن بكل الإجلال في الذاكرة الثقافية المصرية كايقونة للمقاومة ضد الاستعمار. وجميلة بو حيرد ألهمت الشعراء العرب بنحو 70 قصيدة من بينها قصائد لشعراء كبار كمحمد مهدي الجواهري ونزار قباني وصلاح عبد الصبور وبدر شاكر السياب، فيما قال الشاعر فاروق جويدة أن زيارة جميلة للقاهرة “تحمل كل ذكريات البطولة والزمن الجميل”.. مضيفا حينئذ: “جاءت ابنة ثورة المليون شهيد إلى قاهرة المعز لتعيد ذكريات زمن الكرامة والشموخ الذي وحد شعوب هذه الأمة”. وإذا كانت جميلة بو حيرد تعيد للأذهان ما يعرف “بزمن الرومانسية الثورية” فإن الكاتبة والمبدعة الجزائرية أحلام مستغانمي من أشهر الكاتبات العربيات المعاصرات في الرومانسية الحداثية وهي معنية بقضايا المرأة وصاحبة الكتب الشهيرة مثل “فوضى الحواس” و”الأسود يليق بك”. والروائية أحلام مستغانمي التي ولدت في الثالث عشر من ابريل عام 1953 وتحظى رواياتها بإعجاب الكثير من القراء العرب خاصة الشباب في مصر ابنة مناضل من مناضلي الثورة الجزائرية وحاصلة على الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة السوربون بباريس فيما تحولت إلى ظاهرة في الثقافة العربية بقدرتها على جذب جمهور كبير من القراء لتحقق كتبها نسب مبيعات عالية للغاية. والأدب الجزائري يسهم بفعالية في التفاعلات الثقافية مع الغرب خاصة الأدب الفرانكفوني، كما يتجلى في حالة الكاتب الصحفي والروائي الجزائري كمال داود الذي فاز في عام 2015 بجائزة” جونكور المخصصة لأول عمل روائي عن روايته “موسو.. تحقيق مضاد. وقد استلهم داود في عمله الإبداعي الروائي الأول أجواء رواية “الغريب” للكاتب الفرنسي الكبير البير كامو الذي ارتبط تاريخيا بالجزائر وهو لا ينكر اعجابه وتأثره بأسلوب كامو كما انه لا ينفي أنه يضع عينه على الجائزة الكبرى أي جائزة جونكور التي فازت بها في عام 2016 ليلى سليماني المنحدرة من أب مغربي وأم جزائرية-فرنسية والتي ولدت في الرباط عام 1981. وفيما يعتز الجزائريون بأن زين الدين زيدان كأحد الأسماء الشهيرة عالميا كلاعب ومدرب في كرة القدم ينحدر من أصل جزائري، فمن الطريف أن يقول الكاتب الجزائري محمد حسين طلبي أن “هناك نوعا من الغيرة التي يبديها بعض الأدباء تجاه معشر الرياضيين نظرًا لحجم ونوعية الرعاية التي يحظى بها اللاعبون وعلى الأخص في كرة القدم”. وبعيدًا عن هذا الجدل بين أهل القلم ولاعبي كرة القدم، فإن للجزائريين إبداعاتهم في كل أوجه الحياة الإبداعية العربية.. والآن فإن كل العرب يتمنون أن تبقى شجرة الإبداع الجزائرية مثمرة وأن تغرد الأصوات المبدعة بكل ما هو جميل في البلد الجميل.. بين أمواج الزمن وأسئلة المرحلة يبقى الوطن ملهما لكل المخلصين والطامحين للمستقبل الأفضل.