تُعلِّمنا تجارب التاريخ أنّ أبناء كلِّ مدنيّةٍ يحملون الاعتقاد أنّ مدنيَّتهم تتفوَّق على غيرها من المدنيَّات السابقة أو المعاصرة لها. والاعتقاد والشعور بذلك طبيعي لأنه ينبع من الأنا الجَمْعيّة، ومن نظرتها إلى نفسها بوصفها المصدر الذي لا مصدر غيرَهُ لأيّ معيار تُوزَن به الأشياء وتتراتب في القيمة والأهميّة. والنظرةُ التي من هذا الجنس هي، حكمًا، نظرة متمركزة على الذات (أو مركزيّة ذاتيّة)، تُدْرَك فيها الذاتُ هذه بحسبانها مستودع الحقائق والقيم، وتُقْرَأ فيها الذّوات الأخرى تَبَعًا لمعيار قربها من، أو بُعدها عن، تلك الحقائق والقيم فيُحْكَم عليها، بالتّبِعية، على ذلك المقتضى. ولا تَعْري جماعةٌ اجتماعيّةٌ وثقافيّة من هذا الشعور بالتمركُز الذاتيّ حتى وإنْ هي أصَابَها في تطوُّرها الكَبْوُ الشديد، وتَعَطّلت فيها فاعليّةُ العطاء والإبداع، ودخَلَتْ في أدوارٍ من الانحطاط والتكلُّس، بل حتى وإنْ هي انكسرتْ أمام المتغلِّب وأُجْبِرت على الخضوع لسلطانه. من البيّن، إذن، أنّ الشعور بالتفوُّق وما يرافقه من منازِع من قبيل النظر إلى الآخر نظرةً دونيّة، وتخطِئتِه في اعتقاداته وقِيَمِه ليس سمةً خاصةً، وعلى نحوِ حصْريّ، بالمجتمعات المنتمية إلى المدنيّات المسيطرة والغالبة، بل هو يطال حتّى تلك التي لم يبْق لها ما تَعْتَدّ به سوى مدنيّاتها الماضية وأمجادها الغابرة. على أنّ فارقًا، هنا، ينبغي أن نلْحظه ولا نُسيءَ إدراكَهُ، حين يشعُر مَن يشعُر بتفوُّقِ مدنيّته، وهي في حال غَلَبة، يتلازم شعورُهُ هذا مع مَيْلٍ صريحٍ إلى احتقار الآخر، غيرِ المنتمي إليها، وإلى الإزدراء بقيمه وعدِّها مجافيَةً للحضارة. أمّا حين يشعُر مَن يشعُر بتفوُّق قيمه – بعد زوال مدنيّته – فلا يكون شعُورُه ذاك، في حساب الواقع، أكثر من تَعْزيةٍ للنفس ومحاولةٍ لبعث التوازُن فيها بعد أنِ اخْتَلَّ بسلطان مدنيّةٍ أخرى. التمركُز الذاتيّ لدى المجتمعات الغالبة له من الموارد الماديّة والمعنويّة ما به يُعَزِّز نفسَه ويأخذها إلى فكرة تفوّق النموذج الحضاريّ الذي تنتمي إليه مجتمعاتُه، وهو لذلك فعّال، اقتحاميّ، وداعٍ باستمرار إلى التحاق المجتمعات الأخرى بنموذجه. أمّا التمركز الذاتيّ للمجتمعات المغلوبة فما من موردٍ له سوى الموارد الرمزيّة، لذلك هو يبدو انكفائيًّا حتى والمعبّرون عنه يدعون غيرهم إلى مشاركتهم اعتقاداتهم الصحيحة وقِيَمَهُم السديدة، ذلك أنّهم إنّما يحملون فكرةً رمزيّة – وربّما متخيَّلَة – عن نموذجٍ حضاريّ بديل شهِد على شكلٍ من التحقُّق في التاريخ، ولو في زمنٍ مضى، وأملهم إنّما في استعادته ثانيًا. على أنّ من يستبدّ بهم الشعورُ بالتفوُّق الحضاريّ، ومدنيَّتُهم في حالٍ من الغلبة، لا يميّزون في الآخرين – غير المنتمين إلى مجتمعاتهم – بين من هو منكفئ على نموذج مدنيّته القديم لا يبغي غيرَه بديلاً ولا يجعل له منافسًا، فيرفض الاعتراف لنموذج المدنيّة الغربيّة القائم بشرعيّة الوجود أو، على الأقلّ، بشرعيّة أداء الدور الحضاريّ بما يُمكّن مجتمعات أخرى – غير غربيّة – من الاستفادة من ثمراته ومكتسباته، و(بين) مَن هو منفتح على مدنيّة الآخر، ناهلا من معطياتها وقيمها، ومقحما إيّاها في منظومة تفكيره وسلوكه، غيرَ رافضٍ لها كمدنيّة. هؤلاء وأولئك- على ما بينهم من اختلافٍ شديد – هُم واحدٌ يَجْمَعُهم وصفُ “الآخر” بالنسبة إلى المسكون بفكرتيْ التفوُّق والمغايَرة، ونظيرُ هذه الحال نجده في الضفّة الأخرى، المسكون بفكرة تفوُّق النموذج الحضاريّ القديم – الذي يرزح في قيود المغلوب – لا يميّز في آخَرِه بين المنكفئ على نموذج مدنيّته، الرافض لغيرها، والمنفتح على مدنيّات وثقافات وقيم أخرى. هؤلاء وأولئك، عنده، سواءٌ يجْمَعُهُم تَحَدُّدُهم بالنسبة إليه كآخر. ومن النافل القول إنّ الفريقيْن معًا يشتركان في حمْل النظرةِ المطلقيّة Absolutiste عينِها إلى الآخر، هذا الذي يبدو، في منظار كلٍّ منهما، كلِّيّةً مغلقة لا تناقُض يخترقها، بل ولا تَعَدُّد يغشاها! قلنا إنّ هذه النظرة المركزيّة الذاتيّة متولّدة من شعورٍ طبيعيّ لدى الجماعات الإنسانيّة الوَلعِ كلٌّ منها بأناهُ الجمعيّة،. وهذا أشبهُ ما يكون بشعور الإنسان المفرَد تجاه غيره، إنّه شعور الإعزاز للذات والاعتداد بها إلى حدود النرجسيّة وأحيانًا، إلى حدود الأنانيّة. غير أنّ المشكلة تبدأ حين يصير هذا الشعورُ الطبيعيّ شعورًا غيرَ طبيعيّ، أي حالاً مَرَضيّة متأزمة يولِّد الإفصاح عنها مشكلات وأزْمات؛ عند من يعبّر عنها وعند مَن يقع عليه تعبيرُ مَن يعبّر عنها. تلك، مثلاً، هي الحالة التي يُنجب فيها التمركز الذاتيّ شعورًا حادًّا بكراهيّة الآخر، والنقمة عليه والرغبة في إلحاق الأذى به، والانتقال به من محض مشاعر إلى أفعال ماديّة. ونحن لن نستطيع أن نفهم أسباب كثيرٍ من الظواهر السياسيّة العدوانيّة والخطيرة، التي تجري وقائعها على مسرح العالم اليوم، مثل الحروب الظالمة التي تُشَنّ على دولٍ ومجتمعات صغيرة من أخرى أكبر، والإرهاب الذي تمارسه جماعات متطرّفة منظّمة، على مجتمعات الآخر وعلى مجتمعاتها، من دون أن نعود بها إلى تلك اللحظة المَرَضيّة التي يبلُغها الشعور بالتمركز الذاتيّ، والتي تسوِّغ للمصابين بها إتيان أفعالٍ نكراء لا إنسانيّة. سكاي نيوز