ما أن تهدأ موجة الصخب المثارة حول تفاصيل جريمة قتل في العراق، حتى تبدأ موجة جديدة، وتتابع تداعيات فصل جديد من فصول العنف في هذا المجتمع المكلوم. والمجتمع العراقي لا يختلف عن بقية المجتمعات التي تشهد جرائم عنف وقتل، لكن المختلف في الأمر، أو ما يمكن أن نطلق عليه الخصوصية العراقية، هي ارتباط الجنائي بالسياسي، بشكل أكبر وأكثر وضوحا من مجتمعات كثيرة. ربما يربط بعض الباحثين ازدياد انتشار ظاهرة العنف الإجرامي في العراق بالظروف التي مرّ بها هذا البلد، ومن المعلوم تفاقم موجات العنف الإجرامي في فترات ما بعد الحروب والأزمات والكوارث الطبيعية، نتيجة لضغط هذه الظروف على الأفراد، وربما كان ازدياد العنف نتيجة الاعتياد على مشاهد الموت والدمار في حقب الحروب، كما أن سهولة الحصول على الأسلحة وانتشارها بين أفراد المجتمع يعمل على انتشار معدلات العنف الجنائي، من دون شك، كل ذلك يعد عوامل مسهلة تساعد على انتشار الجريمة، وهي كلها متوفرة بشكل واضح في المجتمع العراقي اليوم. وربما كانت المفارقة العراقية تكمن في الوجه السياسي للعنف الإجرامي، إذ مثّل عنف أجهزة الدولة القمعية على مدى عقود ماضية، الخطر الأكبر على حياة الافراد، والأمر الأكثر تهديدا من عصابات الجريمة الجنائية، فالقتل في الحروب الخارجية والداخلية، مثّل الجانب الأكبر للوفيات بين الشباب، كما مثّلت عمليات الإبادة الجماعية والقتل على أساس الشك في الولاء، وتصفية الخصوم السياسيين والمعارضين للنظام، وسائل عنفية انتشرت وأشاعت ثقافة استسهال الموت في المجتمع. الحرب الطائفية التي عاشتها مدن العراق عام 2006، وما أنتجته من ظاهرة إلقاء الجثث المشوهة في الطرقات والشوارع العامة، وعلى أكوام القمامة، أحدثت تهتكا في القيم الاجتماعية، وكسرت تابوهات القيمة الإنسانية التي كان لها نوع من القدسية في نظر الناس، كل ذلك أدى إلى ضعف دور الدولة وأجهزة الضبط الاجتماعي عبر منظومات القوانين، وباتت البنى التقليدية كالقبيلة والطائفة هي الحامي الأكثر فاعلية للفرد، وبالتالي اختلط العنف الإجرامي المرفوض بالعنف السياسي المبرر على أسس طائفية وقبلية ومناطقية وحزبية. كما شهد العراق بعد 2003 تصفية الناشطين السياسيين، والفاعلين الاجتماعيين بعمليات الاغتيال، بأسلحة مجهزة بكواتم الصوت، فبات أي شخص غير آمن على حياته في ظل هذه المستجدات، إذ ربما يفاجئه منفذ الاغتيالات في بيته، أو في الشارع أو في ميدان عام، وأمام كل الجموع المحتشدة، ينفذ عملية تصفيته، من دون وجل أو خوف من اكتشاف الجريمة، ولم تكشف الأجهزة الأمنية والقضائية الحكومية عن أي قاتل قام بتنفيذ عمليات اغتيال طوال العقدين الماضيين، ما جعل أصابع الشك تتوجه إلى الحكومة والطبقة السياسية وأحزابها، باعتبارها شريكا في عمليات القتل، أو على الأقل مدلسا عليها. الجرائم الجنائية في العراق كالقتل والخطف والاغتصاب والسرقة، كانت تلاحق بين حين وآخر، ويتم كشف الجناة وحتى عرضهم في برامج تلفزيونية وهم يدلون باعترافاتهم في بعض الأحيان، لكن حتى هذه الحالات طالتها شبهات الفساد، في ما أشيع عن صفقات قذرة يتم فيها الاتفاق مع الجناة على تسريبهم، أو تسهيل هروبهم مقابل مبالغ مالية كبيرة، تدفع رشى للأجهزة الحكومية المسؤولة، هذا الأمر سهل انتشار الجريمة، نتيجة استسهال العواقب وعدم الخوف من العقوبات الصارمة. الجريمة الأخيرة التي حدثت في حي المنصور الراقي في بغداد، قبل أيام، أثارت موجة من الاستياء والغضب في الشارع العراقي، إذ ذهبت ضحيتها عائلة كاملة تم قتلها طعنا بسكين، والعائلة مكونة من الاب، المحامي دارا رؤوف، وزوجته وابنته الصيدلانية شيلان دارا رؤوف، وهي شابة كردية من بغداد، في منتصف العشرينيات من عمرها، وكانت ناشطة في انتفاضة تشرين، وعملت مسعفة في ميدان التحرير في بغداد أيام الانتفاضة. اللافت في هذا الحادث كان السرعة المذهلة في الكشف عن الجاني، وإلقاء القبض عليه في مدينة أربيل عاصمة أقليم كردستان العراق، التي فرّ إليها في محاولة للخروج من العراق. الكثير من ردود الفعل الغاضبة ربطت ارتكاب جريمة القتل مع نشاط شيلان دارا السياسي والاحتجاجي، وجاءت اعترافات القاتل لتزيد من موجة الشكوك، إذ اتضح أنه يعمل شرطيا في حماية السفارة الروسية الملاصقة للعمارة التي تسكنها العائلة المغدورة، الواقعة في منطقة محمية أمنيا ويصعب اختراقها وتنفيذ جريمة بشعة كالتي حدثت، إلا إذا كان المنفذون من ذوي الصلاحيات الذين يستطيعون الوصول لضحاياهم حتى في أكثر الاماكن تأمينا. اعترافات الشرطي القاتل أحالت دوافع الجريمة لغرض السرقة، إذ اعترف بأنه كان يراقب هذه العائلة، وهنالك معرفة تربطه بهذه العائلة نتيجة قرب مكان عمله من مكان سكنهم، وأن عملية القتل التي نفذها كان دافعها سرقة مبالغ من المال وصلت إلى بضعة آلاف من الدولارات، كانت في بيت المجني عليهم، كما اعترف الجاني بعدم اشتراك أحد معه أو معاونته في ارتكاب الجريمة، وأنه كان مدمنا على الكحول بل كان يشرب الكحول أثناء تنفيذ جريمته. أسئلة المشككين كلها انصبت على التعجب من الكشف عن جريمة بهذه البشاعة والخطورة بعد أقل من 24 ساعة فقط، إذ تم تنسيق العمليات بين قوات وزارة الداخلية في العاصمة بغداد، وقوات (الأساييش) الأمن في إقليم كردستان التي حددت مكان الجاني في أحد فنادق أربيل، وقامت بإلقاء القبض عليه وترحيله إلى بغداد، في غضون يومين فقط من ارتكاب الجريمة، وكانت أغلب المسروقات ما تزال بحوزته، ما أدى إلى إدلائه باعترافات متلفزة انتشرت كالنار في الهشيم على منصات التواصل الاجتماعي مصحوبة باستنكار المتابعين وتكذيب مفاده أن هذا الشخص لا يعدو كونه كبش فداء للتغطية على جريمة سياسية. المفارقة أن تهويلا وتضخيما انصب على أحداث الجريمة منذ اللحظة الأولى للكشف عنها، إذ أشارت تسريبات كثيرة إلى بشاعة عملية القتل، وذلك بقيام المنفذ بتشويه جثث ضحاياه بقطع رؤوس المجني عليهم بعد قتلهم، كما قام باغتصاب الناشطة الشابة شيلان دارا بعد قتلها، ثم قام بتقطيع أطرافها. لكن صور موقع الحادث التي انتشرت، والاعترافات، وتصريحات الأجهزة الأمنية، كلها نفت هذه التفاصيل، إذ لم تظهر الصور أي جثث مقطعة، كما نفت الأدلة الجنائية وجود أي آثار لاغتصاب أو فعل جنسي تعرضت له الناشطة المغدورة شيلان دارا. كما أنصبت أسئلة المعلقين على الجريمة على نقطة محورية مفادها، لماذا تم الكشف هذه المرة بسرعة فائقة عن الجاني؟ بينما جرائم قتل الناشطين مرّت عليها سنوات، ولم تظهر التحقيقات أي نتائج، وتذكروا آخر من تعرض للاغتيال من الشخصيات الفاعلة، وهو المحلل السياسي هشام الهاشمي الذي أمطرته مجموعة مسلحة بوابل من الرصاص أمام باب منزله قبل أشهر، وقد سجلت كاميرات المراقبة الحدث كاملا، ووعد رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي بالكشف عن الجناة ومتابعة الامر بشكل شخصي، وها هي الأشهر تمر بدون أن يتم الكشف عن الجهة التي نفذت الاغتيال، مع العلم أن هنالك قرائن ومؤشرات كثيرة على تورط ميليشات مسلحة في تنفيذ هذه العمليات، لكن يبدو أن الحكومة ما زالت عاجزة عن مواجهة القتلة. في يوم تشييع جثث عائلة شيلان دارا المغدورة، التي نقلها أقرباء العائلة إلى مدافنهم في كردستان، صرح أحد الأقرباء لجهات إعلامية بمعلومات وتفاصيل الحادث، وكانت مطابقة إلى حد كبير لما أعلنته الجهات الأمنية من معلومات، لكن هذا الأمر لم يخفف من غلواء المعلقين على الحدث، واتهام عدد كبير من ناشطي وسائل التواصل الاجتماعي لجهات حكومية أو ميليشياوية بتنفيذ عملية القتل، وكأنهم بذلك يمارسون نوعا من الانتقام من الأجهزة الامنية والحكومية عبر موجات الشتائم والاتهام، ولا يهمهم في مثل هذه الحالات تحري الدقة والموضوعية في معرفة قصة الحدث، فعنف وبشاعة الجرائم لا يمكن مقابلتها، من وجهة نظرهم، إلا بهذا الكم الهائل من الشتائم والاتهامات. القدس العربي