هناك أسئلة حائرة تدور حول حجم معاناة البشرية التي كان يتوقع لها أن تتضاءل في ظل مسيرة التقدم العلمي الباهر في عالم اليوم وما شابها من تعدٍ وتحدٍ، ومن أخطاء وتجاوزات عكرت صفو الشعوب المغلوبة على أمرها، بل حتى أكثر الأفراد داخل المجتمعات "المتقدمة" ذاتها -والتي تشكل في مجموعها الأغلبية الغالبة من سكان المعمورة- يعانون من فجوة أخلاقية عميقة، وبالتالي من الفوارق والتباينات الاقتصادية والاجتماعية رغم الإمكانات والموارد التنموية الهائلة التي تزخر بها دولهم. ولعل من الأسئلة الكبيرة التي تتبادر إلى الأذهان، والتي تُردد مضمونها وسائل الإعلام، خاصة الحديثة: ما حقيقة ما يجري في عقول الجنس البشري في أيامنا هذه؟ ولماذا هذا التقاتل والتدابر والتطاحن والتباين الإنساني بين مختلف الطبقات والشعوب؟ هل يرجع ذلك إلى خلل ما لم يستطع التقدم العلمي بوثباته الهائلة إلى الأمام تشخيصه ومعالجته بهدوء معالجة أخلاقية رفيعة تتوافق مع سرعة إيقاع ذلك التقدم؟ ألا تعود عاقبة ذلك على الناس جميعهم في المستقبل بحيث تكون طامة كبرى تسحق الأشرار والخيِّرين، السفهاء والمارقين، العقلاء والمصلحين، بحيث لا تبقي ولا تذر. ما مدى صدقية وفاعلية اللقاءات والندوات والمؤتمرات الدولية الكثيرة في هذا السبيل التي تصدر عنها التوصيات الطموحة والمبادرات التصحيحية والنوايا الحسنة، ليبقى معظمها حبيس الأوراق التي كتبت عليها؟! ماذا عن مستقبل النشء بوجه عام -خاصة في الدول الغنية- في ظل الحاجة الماسة إلى ردم الهوة التعليمية السائدة -التحصيلية والأخلاقية- التي نجمت عن "تطور" وتنوع وسائل وأفانين اللعب واللهو والخوض مع الخائضين؟ من المفارقات أنه قد ذكر لي أحد المسؤولين الكبار في إحدى الدول الغنية "أن أكثر أبنائنا باتوا أبعد ما يكونون عن طبائع الإنسان وأقرب إلى طبائع الحيوان في غمرة حياتهم ذات النمط الاستهلاكي المحض". وفي تقديري أن مصيرهم هذا نجم عن اعتبارات عديدة، منها عواقب الإسراف والتخمة والفراغ والترهل الذهني، وأنهم لا يقيمون للوقت أو للبذل والحافز الشخصي أي اهتمام، بالإضافة إلى أنهم -مثلا- ينامون في التوقيت الخطأ ويأكلون الطعام الخطأ مخالفين بذلك الفطرة. هذا عدا أولئك الذين يتناولون الممنوعات ويرتكبون المنكرات دونما استثناء أو حياء، مما نجم عن ذلك مصائب وأمراض لا حصر لها، وأخطرها مفاسد الحياة الحديثة وأمراض العصر، ومنها الأمراض النفسية من كآبة وقلق وخواء روحي، والأمراض الجسدية كالسرطانات الخبيثة والفيروسات المباغتة المهلكة، وغير ذلك مما لا يتسع المجال إلى الخوض فيه بالتفصيل. ولا ريب أن ذلك يؤدي حتما إلى تبعات وخيمة على المديين القريب والبعيد على حد سواء، وفقا لما تشير إليه الدراسات الجادة الأمينة في ذلك المضمار، إضافة إلى الأمراض الأخلاقية كفنون التحايل والاختلاس والغش والكيد على مستوى الدول في ما يعرف بتأمين المصالح العليا، وكذلك على مستوى كبار المسؤولين بعدما أضحت مقدرات بعض الشعوب المستضعفة منهوبة في العلن قبل الخفاء وفي وضح النهار كضرب من "المهارات" التي لا يتقنها إلا المقتدرون "الأذكياء" -وفق تقديرهم- بحيث يُكافؤون عليها أحيانا، وبكل أسف. لقد شهد شاهد من أهل الغرب بحتمية التراجع والاضمحلال حينما استاء العقلاء هناك مما يجري حينها وسيجري في المستقبل، وكانت رؤيتهم مطابقة تماما لواقع اليوم، إذ قال -مثلا- رئيس الوزراء البريطاني الأسبق أنتوني إيدن في بعض خطبه في وصفه "بداية نهاية" الغرب "إن أهل الأرض كادوا يرجعون في هذا القرن إلى عهد الهمجية والوحشية ويعيشون عيشة سكان الكهوف والمغارات". ويقول جيرالد هيرد "إن الغرب تعس ومتخلف بتحكيمه القانون العلمي في كل شيء، حتى غدا الإنسان آلة قابلة للتحكيم والتحكم، وما دام كل شيء ماكينة فكل شيء لا هدف ولا أخلاق ولا قيم له". وفي هذا السياق، يمكننا متابعة القول: هل هذا العلم يعتبر كله علما "عاقلا" نافعا، بحيث يحقق للمرء الأمن النفسي الذي هو غاية الغايات إن جاز هذا السبك؟ يقول الشاعر: وأُفٍ على العلم الذي تدَّعونه إذا كان في علم النفوس رداها فهل حقق العلم الحديث كل الأهداف المبتغاة من تطوره؟ أم هنالك تحفظات عليه في كثير من الجوانب؟ وهل سرعة إيقاع الحياة باتت تسعد إنسان اليوم أكثر من إنسان الماضي؟ وما جدوى ما يؤلف من مؤلفات وما ينشر ويبث عبر الإعلام التقليدي والحديث إذا لم يسع ذلك في مضمونه لمعالجة الأمور من الجذور تنبيها وتضمينا وتأهيلا؟ بحيث يغدو عائده خيرا عميما على البشرية في حاضرها ومستقبلها على السواء، بما يحقق السلام والطمأنينة وغيرها من متطلبات الحياة الهادئة الهانئة ذات الصراط السوي المستقيم كما أشرنا قبلا. فسياسة الجشع والطمع والجمع ومجرد الربح والاستحواذ بالأسلوب الميكيافيلي "الغاية تبرر الوسيلة" وبلهفة لا تجدي نفعا ما لم تكن هنالك قيم وضمائر تردع الناس من فعل الشرور وتحضهم على فعل الخيرات بأن تكون هناك قناعة إيمانية من صميم الفؤاد بالبذل والعطاء في هذا السبيل. وعلى صعيد آخر "كم من سعادة في الأكواخ، وكم من شقاء في القصور!" كما يقال، وليست هذه دعوة إلى القهقرى نحو الحياة البدائية كما تنادي بها الآن بعض الأصوات اليائسة الحائرة، ولكن لا بد من علم عاقل يقرّب لا يبعّد، ويجمع لا يفرق، ويُسعد لا يُشقي، ويسمو إلى مراقي الفضيلة السمحاء. إن هذه الآلات والمصنوعات الذكية بحاجة إلى "أنسنة" بحيث تكون إنسانية، أي ذات رحمة ونبل وعقلانية، حتى لا يعيش المرء في جحيم مقيم من العذاب الداخلي، وإن لم يبدُ ذلك على سمته وتحركاته، بعبارة أخرى: وإن لم يصرح بذلك علنا خشية التهمة بقلة المواكبة وبرفض مجاراة صرعات التطور والتقدم حتى وإن كان التقدم إلى الهاوية. فالنظام الاقتصادي العالمي الذي يكاد يسود العالم اليوم ليس كله خيرا محضا، بدليل أنه أخفق في أن يوفر أقل متطلبات الحياة المعيشية الضرورية لكل أبناء الدول المتقدمة، ناهيك عن أبناء الدول الفقيرة "المتأخرة"، وحُقَّ للأخيرة أن تتأخر لأنها مسلوبة على كافة الأصعدة، قديما وحديثا، بطرائق مباشرة "خشنة"، أو غير مباشرة "ناعمة". حدثني أحد الإخوة الذين يعيشون في دولة غربية أنه لا يكاد ينام ليلا إلا النزر اليسير من الوقت بفعل هاجس الخوف من المساءلة المالية، وليس هذا فحسب، بل إنه يصحو من نومه مذعورا مهموما لأن البنك يطلب منه سداد قيمة البيت والأجهزة الضرورية كالثلاجة والغسالة وغيرهما والتي حصل عليها بالأقساط وإلا سيكون مصيره كزميله الذي انتزع منه البنك بيته وممتلكاته وجعله يكاد يفترش الثرى ويلتحف السماء مع أبنائه الصغار في طقس شديد البرودة بعد أن تخلى عنه ليغدو مذموما مدحورا لولا تدخل ذوي الرحمة والشفقة -على قلتهم- في آخر المطاف بعد أن استطعم هو وأبناؤه مرارة الحرمان والأسى، نفسيا ثم جسديا. والقصص في هذا المجال كثيرة ومثيرة في ظل العبودية (غير المعلنة) لمن يملكون المال الوفير حتى ولو حصلوا عليه بطرق آثمة جراء الزيادة الحرام مثلا، وكم من مريض توفي لأنه لا يملك المال الكافي لشراء الدواء؟! وكم من طفل وفتى في ريعان الشباب حول العالم (لا يُحصَون عددا) ماتوا موتا بطيئا جراء ذلك؟! وكم من اضطر أن يبيع عرضه أو أجزاء من جسمه ليعيش؟! هذا، عدا أولئك الذين يموتون جوعا وتأبى الآلات الحديثة المتقدمة أن تواري سوءاتهم نقلا ودفنا، لأن ذويهم لا يملكون المال ولا حتى الطاقة الجسمية للقيام بذلك؟ هذه هي لمحات خاطفة من الحضارة المشوهة والتقدم المادي المبتور رغم ما أحرز من إيجابيات، حيث ينسحر وينبهر بكليِّته -دونما تمحيص وغربلة- الذين في قلوبهم عمى وفي آذانهم وقر. نعم، هذه هي جوانب من الحضارة التي لا يعلمها يقينا إلا من خبرها عن كثب لا عن كُتب، الذي عاشها عيانا بيانا بمرها وحلوها، ما يُحمد منها وما يعاب. من جهة أخرى، لا يقف كذلك على حقيقة ما يجري كاملة إلا الذين يقرؤون ما هو قيِّم وأمين مما ينشر من المؤلفات والبحوث والتدوينات الجادة والمحايدة، ويستوعبون ما يقرؤون. إذن، ليس هذا تحاملا أو تطاولا منا على الحضارة العلمية، فالحق هنالك عديد الإنجازات الناصعة والمقدرة كما ألمحنا في سابق حديثنا. ويمكننا القول في عجالتنا هذه إن الجوانب السلبية في هذا السياق أمر مفزع وموجع أيما وجع لمن يعي ويتدبر، لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ولكن لا حياة ولا حياء لمن تنادي إلا من رحم. الجزيرة نت