القدس العربي حين نشر إيمانويل كانط مقالته الشّهيرة ما التنوير؟ كان ثمة مزاج عام أوروبي حول إصدار أسئلة تتعلق بالتنوير وإشكالياته، ومن هنا، فقد حدد كانط التنوير بعدد من المبادئ التي تعرض لها نقدياً ميشيل فوكو في درس له في الكوليج دو فرانس 1982 وتنطلق من أثر السلطة الكنسية التي ميزت التنوير، وهكذا فقد أدركت أوروبا ما للتنوير من تداعيات أتى على بيانها الزواوي بغورة من خلال المقدمة التي وضعها للكتاب الذي ترجمه بعنوان ما التنوير؟ وقد حددها عبر عدد من الإشكاليات التي نتجت بفعل التنوير، ومنها أسئلة تتعلق بالوطنية، والهوية، والاستعمار، والطابع اللاهوتي للعقل تبعاً لهيغل، فضلاً عما أشار له أدورنو من أن التنوير قد أفضى إلى المزيد من الممارسات البربرية، في حين أن ما بعد الحداثة ممثلة بفرانسو لوتار، ومدرسة فرانكفورت فقد أتيا على بعض الجوانب السلبية لعملية التنوير، وفقدانها لبعض الأسس الإنسانية. نهضت مقاربة كانط حول سؤال التنوير عبر عدد من الأسس التي يمكن من خلالها تحقيق التنوير، وتتحدد بأهمية الحرية، فضلاً عن التخلص من الوصاية، وفقدان الجرأة، ونقد كسل العقل، ولهذا فقد وضع مجالين للتنوير، وهما المجال الخاص المرتبط بالوظيفي، والمجال العام المتصل بالشأن الإنساني (المواطن)، لقد بدأت مقاربة فوكو الفلسفية إلى حد ما بمراجعة مفهوم الأداة النقدية من حيث الاتصال بمفهوم ما الحقيقي، كما المعرفة التي مارست أثرا سلطوياً، وبذلك فقد استطاعت أوروبا التوصل إلى التنوير، غير أن تداعياته ومفرزاته أوجدت مشاكل متعددة، أسهمت في تنشيط الحركة النقدية، وهذا ربما يقودنا بطريقة أو بأخرى إلى ماهية التنوير العربي، بالاتكاء على النهضة، وأثرها في هذا المجال. لا شك في أن المتأمل في أحوال أوروبا قبيل التنوير قد يقع على تماثلات تطال أي تجربة تسعى إلى التوصل إلى التنوير تبعاً لسياقات محددة، ومنها العربية، فالتنوير حسب قاموس أوكسفورد يحيل إلى حركة فكرية وثقافية ظهرت في القرن السابع عشر، تذهب إلى تأكيد اعتماد المبدأ العقلاني، والفردية مقابل نبذ التقاليد، ولقد انتشرت هذه الحركة مع ديكارت ونيوتن ولوك وغيرهم. ولعل المتأمل في هذا التعريف يتصل بمبادئ واضحة، تهدف إلى تجاوز المعارف المتعالية بأصولها إلى معارف تذهب إلى افتعال البرهان والجدل، والمنهج البحثي، أي أن ثمة نزعة واضحة في تكوين المعرفة، وتتحدد من كونها منجزة إلى كونها مجالاً حيوياً لإعادة المبدأ النقي، ونبذ التسليم المطلق، وهذا يعني بطريقة أو بأخرى تقويض منظومة معرفية منجزة، ولكن الأهم من ذلك القيم والأجسام السلطوية الكامنة خلف هذه المعارف التي كانت أقرب إلى الوصي لجعل العالم كما هو، أو كما أوجدته السلطات المتعالية. إن المبادئ الجديدة لاكتشاف العالم أو تفسيره، لا تخضع فقط لهيمنة منظورات بعض الفلاسفة، إنما أتت من لدن علماء قادرين على تكوين المبدأ التجريبي، وآلية المختبر، علاوة على نقد عقلنة السلطة، في حين أن إشكالية التنوير العربي اتصلت بعقول لا تمتلك هذه الآلية، كونها محاصرة بأسئلة تتعلق بالقيمة الاجتماعية والإنسانية، كما مظاهر التنوير في تكوينه الظاهري، فليس ثمة رؤية معمقة لأسئلة العالم كونها باتت منجزة في الوعي، فضلاً عن المعرفة التي اختبرت حيث كانت متصلة بنيوياً بتكوينات السلطة التي حرصت على جعلها في مجالات محددة فحسب، أي في المجال الوظيفي، وبهذا فالعقل بات خاضعاً للسلطة. غير أن الأهم يتمثل بأن التنوير العربي قد وقع على أزماته، من دون أن يتحقق التنوير حقيقة، أي أننا نعاني من أزمات التنوير على الرغم من عدم وجود تنوير، فالذي نراه أمامنا ما هو إلا مظاهر التنوير التي أوجدتها السلطات المتحكمة بقيم المعرفة، أو العقل، والتي حولتها إلى المجالات الخاصة في حين تم نفي العناصر القادرة على إحداث التغيير. هل ثمة تنوير في العالم العربي؟ أم هل ثمة أسئلة تتعلق بالتنوير؟ ولكن قبل ذلك، ينبغي أن نختبر الأداة النقدية بوصفها الدّفة التي يمكن من خلالها تحقيق التنوير على الرغم من سعينا إلى تجاهل الأحكام القيمية التي تتصل بما هو خير وشر، إننا بصدد البحث في آلية تكون التنوير تبعاً للفعل النقدي، أو الآلية التي نتمكن من خلالها التوصل إلى هذا المبتغى. لا شك في أن أبرز مجال يحجب الأداة النقدية المتعلقة بتحقيق التنوير تلك المتعاليات من المفاهيم التي تتصل بفن الحكم، أي السلطة باختلاف تمظهراتها، التي تتيح تحديد ما الحقيقي، وما هو الخير، أو الصواب، وبما أن النقد أدوات غير قابلة لأن تحدث تشريعاً قانونيا، فإنها ستكون أداة تابعة لمجالات الأدب والاقتصاد والأخلاق حسب ميشيل فوكو، ومع ذلك فإن ثمة قوة أو سلطة للتنوير وتتحدد بالمعرفة في المجال العام، وكي نمتثل لهذا الأثر لا بد من إطلاق طاقات العقل، وتحرير المعرفة من تلك الإكراهات التي يمارسها من يتقنون فنون الحكم، أي أن ثمة وصاية على العقل يتيح توجيه مسار التاريخ، أو تحقيق ما هو مفيد، وضار، ولاسيما في عالمنا اليوم، فعلى الرغم من تحقق مظاهر النهضة الوهمية، بيد أن المعرفة التي شهدتها تلك النهضة قد احتكمت إلى عملية القدرة على فن الحكم، وإحكام الهيمنة، أو بعبارة أخرى تم استغلال هذه المعرفة كي توظف في سياق السلطة، وهكذا كان العقل العربي المتصل بالعامة منغلقا، كان ثمة جبن، وكسل، آفات تحول دون التنوير حسب منطق كانط، كما كان ثمة إيمان بأدوار السلطة، والخطابات المتعالية التي تقود مصائر البشر، والتسليم بها، فمع انتشار التعلم، والطباعة، والمؤسسات العلمية، غير أن متعاليات السلطة أحكمت سيطرتها على كيفية توفير المعرفة، وطرائق توظيفها، لقد رسمت خطوطاً ينبغي ألا تحيد عنها العقول، إذ لا يمكن القول بأنه قد تم وضع خطة لحمل هذه المعرفة للعقول المتعطشة كي لا تحدث تحولاً، أو نسقا من الحرية، إنما كي تتصل بها بوصفها أفعالا من تكريس أنماط الهيمنة، لقد تحولت المعرفة إلى سلطة الحكم، أو عقل السلطة بكامل إفرازاتها السلبية. في المنظور العربي كان الفراغ السياسي الناشئ بعد انحسار الحكم العثماني فرصة لتشكيل المعرفة، وبرحيل الاستعمار كانت المعرفة مجالاً، بدأ يتحول إلى المجال العام، ولكن كانت ثمة رغبة كامنة في أن المعرفة يجب ألا تحتكم إلى الإنسان بتوصيفه المطلق، ولهذا فإن سنن التعليم، والتحديث العربي خضعت لمراجعة نقدية من لدن متعلمي وموظفي السلطة الذين تحولوا في ما بعد إلى برجوازية مصغرة، أو أنهم أتوا من خلفيات دينية، أو عسكرية، لقد أسهم هذا المسلك بطريقة او بأخرى في خروج مسار التنوير عن سبل الحقيقة، وهكذا، فإن مفاهيم كانط بتحديد التنوير قد اصطدمت بعوائق من الإنشاء الذي انتقل إلى الأذهان عبر سياسات مدروسة في المجال التعليمي والثقافي والإداري، ولهذا كان لا بد من الاستفادة من الأنساق الخطابية لبعض رجال السلطة، الذين عمدوا إلى تأسيس منظومة متكاملة لا خلل فيها، بهدف تجيير المعرفة لصالح الدولة، لقد أصبحت السلطات الوصي الشرعي على العقل العربي، وبأن المعرفة التي تأتي من الدولة هي المعرفة الحقيقية، والخير المطلق، والتي تحتكم إلى قيم الحق والعدل والجمال، وأي خروج عن هذا، فإن ذلك يعني شغباً معرفياً، أي إعاقة لأدوار البناء والتحديث المنشغلة بها الأنظمة الناشئة حديثاً، وكي تكتمل الدورة، ينبغي للكل أن ينخرط في خطابات مؤسساتية، وشيئا فشيئا تحولت المعرفة إلى معرفة عقيمة، لا منتجة، أي نحو المجال الخاص (الموظف) لا العام حسب التعبير الكانطي، وبذلك فهي تتكرر، وتستند إلى إرث سلطوي عميق، لقد حُجبت المعرفة، ولكن الأهم من كل ذلك، أنه قد حُجبت أدوات تحصيل المعرفة، ومباحث نقدها، ولهذا فإن أنساقاً من الارتداد الحضاري باتت قائمة في العالم العربي الذي أدرك بعد عقود بأنه يرزح تحت وطأة جهل مطبق، لا مجال للحرية، ولا عقل نقدي، ومن هنا كان التحول لتحرير المعرفة، وتحقيق التنوير عبر الدعوة إلى الثورة، أي بوصفها الأداة الأسهل في سبيل الحرية، بيد أن كانط أدرك بأن هذا المجال ربما يؤدي إلى مزالق تقود إلى تفاقم الأزمة، ولهذا اتخذ من بعض مفكري الثورة الفرنسية موقفا متشككاً. لا شك في أن التوصيف السابق ربما لا يكون قابلاً للتطبيق على الواقع العربي من حيث أثر الثورة، وصلاحية تطبيقها للوصول إلى التنوير، غير أن ثمة أجزاء كبرى تبدو قابلة للتحقق، ومنها أن الثورة احتكمت هي الأخرى إلى سلطة إلغاء العقل، وبهذا فإننا ما زلنا بحاجة إلى أهمية الانطلاق من فصم المعرفي عن السلطوي، ولعل هذا يتصل بأنساق من أنماط التربية الحديثة التي ينبغي أن تتخلص من هيمنة أنساق السلطوية إلى مؤسسات تتصل بالمجتمع بهدف تحرير طاقات العقل، والتخلص من الاشتراطات المؤسساتية.