سجلت سلطة الثورة أن التعليم الجاري في الكتاتيب القرآنية لا يؤدي الغرض المناسب رغم ما أدخل عليه من تعديلات مثل محاولة تثبيت عطلة صيفية لم تنجح، ومثل التدريبات شبه العسكرية التي تعني رفع العلم والسير به سيرا عسكريا مع التغني بالأناشيد المختلفة التي لم نكن نميز فيها ما هو وطني وما هو غير وطني، فكنا ننشد: حماة الحمى يا حماة الحمى.. حيوا إفريقيا,, حيوا إفريقيا عباد.. علمي علمي يا علم العرب اشرقي واخفقي… من جبالنا طلع صوت الأحرار ينادينا للاستقلال؛ لاستقلال وطننا.. جزائرنا يا بلاد الجدد.. نهضنا نحطم عنك القيود.. وأخيرا قسما بالنازلات الماحقات…… وبطبيعة الحال لم نكن نفهم ما نردده بحماس وبأداء غير منسجم إلا في معانيه العامة مع كثير من تحريفات للكلمات والعبارات؛ وهي تحريفات تؤدي إلى معان جديدة طريفة لم تخطر على بال واضعي تلك الأناشيد .. ومثل تعميم التعليم فأصبح يشمل الإناث؛ ومثل تعليم الغباري بطريقة غير إجبارية.. فأنشأت تلك السلطة هناك بأعلى الدشرة لدى أقدام الجبل مدرسة بعيدة عن حينا بنحو خمس كيلومترات لتقدم لنا ما كنا نحن نسميه الدرس، بدل القرآن، وجلبت لها معلما شابا من الجزائر العاصمة (أصوله من الدوار من عائلة بن عنتر يسمى الطيب، وقد تمكن في الثمانينيات من أن يرتقي مفتشا للتعليم الابتدائي بوهران)؛ كانت المدرسة عبارة عن حجرتين مسقوفتين بالقرميد وهذا تطور لأن الجامع مسقوف بنبات الديس .. في الحجرة الأولى يدرُس مستويان ,, مستوى أعلى للفتيان اليافعين ومستوى متوسط .. وفي الحجرة الثانية مستوى أدنى؛ زج فيه كل رهط !.. وكان بين الحجرتين باب يتنقل منه المعلم بين الحجرتين .. ولا يجلس فيه بخلاف الجامع مادام المعلم هنا يكتب درسه على السبورة ويقوم بشرحه من هناك، فالجهد الحاسم هنا للمعلم لا للتلميذ.. وأول خيبة مريرة لي أصابتني في الصميم وزرعت في نفسي الإحساس بالدونية وبالنقص ربما طيلة حياتي هو أن المعلم ألحقني بالمستوى الأدنى مع أني كنت متقدما في حفظ القرآن وكانت قامتي فارعة وكنت في الجامع أتبوأ مكانة متقدمة..وقد يكون السبب في هذا التصنيف المدمر تعبيريا؛ إذ لم أكن أتحدث بغير الشاوية ولما أشدُ بعد في العربية ..وحين أسأل أرد بها بحسن طوية وكان في ظني أن العالم كله لا يتكلم إلا بالشاوية؛ تماما كما هو شأن الفرنسفونيين اليوم في الجزائر فهم يحسبون أن العالم لا يرطن إلا بالفرنسية مثلهم؛ وربما يكون السبب هيئتي الرثة التي ينبعث منها بول الأنعام.. فقد تم عزلي في هذه المرحلة من حياتي وقد تجاوزت العشر سنوات عن النوم في الغرفة التي ينام فيها الوالدان مع الإخوة الصغار..