جمود العقل الثقافي الإسلامي وعجزه عن العطاء منذ أكثر من سبعة قرون ونصف، حوّل البيئة الثقافية عندنا إلى أرض بور من الأفكار، يقول بن نبي إنه حين تغيب الفكرة يبزغ الصنم، تعبيرا منه على العاطفة التي تحل مكان الفكرة، وهذا ليس فقط في المجال السياسي بل حتى في الدين، فعدم قدرتنا على رؤية المساحة الفارقة بين النص والرأي تجعلنا نتعامل مع الطرح الديني بدوغمائية شديدة، فنرى كل معارضة فكرية لهذا الرأي معارضة للنص الديني ! لطالما كانت الشعوب الإسلامية محاربة للأفكار والمفكّرين، ذلك أن سيكولوجية الجماهير كما يعرضها غوستاف لوبون تحرّكها المشاعر والتطرّف الأعمى أكثر من الأفكار، فالمخاطب الناجح للجماهير هو الذي يعمل على ضرب هذا الوتر الحسّاس، بينما صاحب الأفكار عادة ما ينصرف الناس من حوله لأنهم لا يفهمونه!، أو لا يريدون إعمال عقولهم في ما تقرّر لديهم من ثوابت، وهذا نجده بارزا جدا في السياسة عند مجتمعات العالم الثالث، حيث يشحن السياسي الجماهير بكلمات رنّانة ملهبة حول معاني وجدانية كالوطن والوطنية، فيخرج الواحد من الحضور وعيناه تذرفان الدموع بينما لا يتساءل عقله حول ما طرحه السياسي من أفكار عملية!، كذلك الأمر في الخطاب الديني أو فيما قرّرناه من مفاهيم على أنه دين، إذ هو انعكاس للنموذج السلفي الذي لا يقتصر على فئة معينة تحمل مفاهيم مخصوصة، فهو نمط تفكيري في التعاطي مع النصوص الدينية، هذا الأخير الذي لا يحترم الفارق الواسع بين ما ينتجه كآراء وكثيرا ما يطلق عليها مصطلح "الأحكام" وبين النص الديني الذي يحمل حقيقة تتعدد مقارباتها ووجوهها، وقد تعرّض الكثير من أعلام الثقافة والفكر في العالم الإسلامي إلى محن وتقتيل باسم التهييج العاطفي الديني للجماهير، فهذا ابن رشد أحد أعظم فلاسفة المسلمين تعرّض في آخر حياته لمحنة شديدة حيث رماه فقهاء الأندلس بالكفر والإلحاد وأمر أبو يعقوب يوسف بإبعاده إلى مراكش حيث مات بحسرته هناك !، وهذا الجعد بن درهم المعتزلي الذي قتلته السلطة الأموية بمنتهى الوحشية بدعوى خلق القرآن وأن الله لم يكلّم موسى تكليما، فصعد إلى المنبر خالد بن عبد الله القسري وكان واليا على الكوفة، حيث فرّ إليها الجعد بن درهم من بطش الأمويين بسبب آرائه السياسية المعارضة، فقال القسري : " أيها الناس ضحّوا تقبّل الله ضحاياكم، فإنّي مضحّ بالجعد بن درهم، فإنه يزعم أن الله لم يكلّم موسى تكليما، ولم يتخذ إبراهيم خليلا !" ونزل فذبحه في أصل المنبر !!!، مع أن مسألة خلق القرآن هي من المسائل التفصيلية وليست أصلا من الأصول عند المعتزلة أنفسهم فالأمر كان دافعه سياسيا بامتياز، والأمثلة في هذا لا تعد ولا تحصى .. تتضح إذن جليا الخيوط السياسية لاستغلال وترويج الدين الشعبوي، الذي يتطبّع بطباع أهله وبيئته فيصبح خطابه متهافتا ضئيلا سطحيا يمجّد الخرافة ويقمع الأفكار باسم "الربّ" ! ، أذكر أن لي صديقا يعمل إماما خطيبا دائما ما يشتكي لي سخط الناس إذا ما حدّثهم بالمواضيع العملية والأفكار التي من شأنها أن تغيّر واقعهم نحو الأحسن، مطالبين إياه بالإكثار من الخطاب الوعظي القصصي الذي لا يزيد إلا من خمود وركود العقل!، وهي حالة تعبّر بصدق عن غياب التفكير في البيئة الإسلامية، فالناس ينصتون أكثر لمن يحدثهم عن الحلال والحرام عن الذي يحدّثهم كيف نهضت الأمم من حولهم !، ولهذا الخطاب الديني السقيم أعلامه ومروّجوه الذين حرصوا كل الحرص على الحضور الدائم في الوجدان الإسلامي بدل العقل!، بل هذه المفردة الأخيرة هي منقصة وتهمة عندهم، لأنهم أقنعوا المسلم بأنه إن فكّر ضلّ وزاغ فسلّم عقله للشيوخ في صورة مبتذلة للكهنوت الديني !، ورحم الله ابن حزم الأندلسي الذي ثار على كل هذه السلطات الرمزية الوهمية التي صنعها العقل الفقهي!، فنبذ التقليد والاتباع ورمى إلى تحرير المسلم من دوغمائيات آراء الفقهاء والسابقين، فثار عليه جموع المالكية في الأندلس وشرّدوه، وقاموا بإحراق كتبه علانية في إشبيلية وهي عقوبة لطالما تكررت في الأندلس كلما ضاق أهلها بمن يخالفهم من العلماء، ومات بعيدا في قرية نائية جنوب غرب إسبانيا، هكذا كان تاريخنا مع من يخالف السائد وما تقرّر في الأذهان أنه من صلب الدّين وما هو كذلك، وهكذا هو تاريخ الشعبوية الدينية عندنا في قمع الأنوار، وهذا ما عرفت السلطات السياسية المختلفة والمتعاقبة على المسلمين كيف تستغله أحسن استغلال في الانتقام من معارضيها!.