الحلقة 34 أبو العباس أبوالرحايل ومع أشعة الشمس الأولى كان أوائل العسكر يقفون قرب البيوت في حيّنا وهم يقتادون كل من صادفوا أمامهم من الذكور البالغين الذين وجدوهم في المشتى، ولم يكونوا يتورعون من أن يوجهوا لهم ضربات بأعقاب البنادق وصفعا وركلا إن حاول أحدهم أن يتفوه بلفظة، وقد انهالوا ضربا على أحد الكهول الضعاف بمجرد أن حاول أن يقول كلمة ما في لغتهم عن القيد الثقيل الذي وضعوه في قدمي العساس ..وكان صاحبنا عيسى ابن التأتاء؛ الفتى المغوار الرازح تحت عبء جهاز اللاسلكي على ظهره يتقدمهم حافي القدمين الرافلتين في سلاسل مثقلة من حديد..لقد كان هذا الرجل الذليل الآن هو الذي صفعني ذات يوم في الجامع لأني أبيت أن أذهب من الجامع إلى بيوت أناس لا أعرفهم لأشحت له طست ماء.. لقد سبق أن تمنيت له كل عذاب وحتى الموت لكن ليس على يد هؤلاء..وهاهو الآن في حال تستوجب التعاطف.. تجمعنا نحن الصبية والنساء كالعادة كلما خرج العسكر في زقاق أحد البيوت مرتجفين منتظرين ما سوف يحل بنا.. قام العسكر باقتحام البيوت وتفتيشها .. فيما البعض واقف بإزائنا؛ وأيديهم على الزناد؛ وإذ فتحت أبواب الأحواش على رؤوس الأغنام خرجت سارحة متجهة بحرية وإهمال نحو طرحة البيدر، حيث السنابل معدة للدرس.. فصاحت في جدتي: عباس!.. أجرِ .. رد الرؤوس على طرحة البيدر.. فنظر أحد أفراد العسكر ذات اليمين وذات اليسار يبحث عن هذا العباس؛ فلما رآني في حالة مزرية من أسمال بالية؛ وبشعري المنفوش المشعث .. عقب على العجوز متهكما ساخرا: واش من عباس!!..وردت العجوز بتلقائية لا تُسمع العسكري بل تُسمع نفسها " ..لسوف يكبر وترى!!.." لقد ورد في خاطر العسكري من خلال صيحة العجوز اسم السياسي فرحات عباس الذي كان متداولا وقد التحق بثورة التحرير؛ وكان ذلك مغزى تعقيبه على العجوز.. ومع علمي أني لن أحوز مكانة فرحات عباس بمثل ذلك الوضع الذي كنا فيه من الفاقة والحرمان إلا أنه رسب في وعيي؛ أنه يجب علي أن أكون" شيئا " حتى أحقق حين أكبر نبوءة جدتي ويكون لي صيت مثل صيت فرحات عباس ..و ظلت الجدة بعد الاستقلال تردد على الناس هذا الموقف كلما التقيت بها؛ مفتخرة بي ومفتخرة بنبوءتها وبردها على العسكري؛ خاصة حين تم توظيفي وصرت معلما..