علينا أن نعيَ جيدا، حالنا كحال الطبيب الذي يعرف بالضبط من أيّ عضو سيبدأ تعفن الجثة، أنّ تعفن العالمِ، لوْ حَدَثَ يومًا، يمكن أن يبدأ من جهتنا، بمعنى أن تعفننا هو الذي سيؤدي إلى تعفّن العالَم". (مالك بن نبي، أكتوبر 1960″، مذكرات شاهد على القرن"). كان في عودة المظاهرات في تونس خيبة مؤلمة للعالم الذي منحها منذ فترة وجيزة "جائزة نوبل للسلام" لنجاح ثورتها السلمية. لم يبق يربط الثورات العربية بالعالم سوى خيط تونس الرفيع الهش، ونظرا لما قد يلحق بهذا الأخير من ضرر خطير فهو على وشك أن ينقطع و يرمى بها جميعا في قبر جماعي يُكتب على شاهده " هنا يرقد العالم العربي–الإسلامي العاجز عن إصلاح نفسه". تعتبر تونس استثناء في سلسة إخفاقات، وكنا نعتقد أن سر نجاحها هو وجود مجتمع مدني متحضر ومتشبع بضمير مواطنة يعود الفضل فيه لتعليم بورقيبة المعاصر. والآن لم يجد الأب الحاني المسن الذي قارب التسعين بمجرد توليه رئاسة الجمهورية أفضل من أن ينصب ابنه على رأس الحزب الذي أسسه لمواجهة التيار الإسلامي، إذ بمجرد تقلده للمنصب، فضل التضحية بحزبه و فقدان الأغلبية البرلمانية المشكلة من جبهة اليسار فقط كي يدعم ابنه، كيف لنا أن نفسر هذا الزيغ؟
لم يختف ظل الرسول عن الأرض، وبقي صدى صوته يتردد بين روابي المدينة، لم تزل ذكراه نضرة في الأذهان، عندما عرف الإسلام الانحراف الذي لازلنا نستشعر هزاته الإرتدادية إلى يومنا هذا: أدخله معاوية في منعطف شبيه بالذي تعيشه جزائر اليوم، تونس وعدد معتبر من البلدان الإسلامية، أي البلدان حيث يعادل فيها رجل واحد ثقل المجتمع برمته، وحيث لوبياته تعبث بمصالح وطن بأكمله. في حالة معاوية والجزائر الحيل المستعملة كانت نفسها: المكر، التزوير، الفساد والقمع، لكن ماذا نقول عن تونس حيث لا يوجد التزوير، ولا تضمن السلطة العسكرية الحماية لأحد، وحيث يوجد حقيقة المجتمع المدني؟، ألم يكن في كل هذا البلد سوى قايد السبسي ونجله لضمان الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية؟، ألم يسقط كل من حسني مبارك والقذافي وعلي عبد الله صالح ويمضي النظام في سوريا إلى المصير نفس للأسباب ذاتها؟
و كأن هناك لغز يختبأ خلف مواقف الديمقراطيين والتقدميين التي تبدو عادية إلى أن يكشفوا عن وجه غير منتظر، مفاجئ ومنافي لمعتقداتهم التي يتظاهرون بها ولخطاباتهم الأولى، وكأن الطاغية والزعيم الروحي تخفّيا في أبهى حلة تبعث على الاطمئنان إلى أن يتمكنا من الحكم و يكشفا عن حقيقتهما.
من الصعب تبرير وجود بوتفليقة وقايد السبسي في رئاسة بلدين فتيين، وقد تسببا في مشكل مزدوج: "فلا الشيخوخة رغم "حكمتها" وعت و لا الشبيبة رغم "قوتها" استطاعت"، لو عكسنا معنى المثل الفرنسي. من الخطأ أن نعتقد أنه في سن الالتزام الفكري والسياسي سيتحرر الشخص من كل تأثير موروث ليثبت أنه سيد أفكاره، ماهي إلا أفكار وهمية: " نحن لا نحمل الأفكار، بل نجسدها" كما كتب اورتيغا أي غاست (Ortega y Gasset) في" الأفكار والمعتقدات".
يعتقد المسلمون "الاجتماعيون" أنهم محصنون من الأخطاء التي يلام عليها أتباع النظام الثيوقراطي لكنهم لا يتوانون عن حمل "بردة الخلافة"، وهذا ما اكتشفناه مع التجربة التونسية. لم يكن مؤكدا أين كان علينا أن نبحث و ننقب أو نتفحص كي نجد إجابات التساؤلات حول أصل الأخطاء المتكررة دون توقف في العالم العربي-الإسلامي الذي لا نعرف ماذا يدبر في عمق نفسيته المزدوجة، ونجهل كنه اضطرابه، إلا أن العلم (علم التخلق l'épigénétique) أثبت مؤخرا ما كنا عليه منذ أمد بعيد وكان مجرد تخمين، فالأفكار تتسرب وتتداخل مع المعلومة الوراثية، مع المكتسب و تحوله إلى فطرة مع مرور الزمن.
لابد من إعادة حال المسلمين المقلوب إلى نصابه، كما يجب إعادة القرآن إلى أصله لأنه لن يقنع أي عقل سليم أن الله أنزله بترتيب معين ثم يكلف بالنهاية الملك جبريل أن يطالب الرسول بتغييره رأسا على عقب حتى تصبح أول سورة أنزلت والتي تحوي الآية:"اقرأ باسم ربك الذي خلق" في الترتيب 96، و ما قبل الأخيرة التي تضمنت الآية :"اليوم أكملت لكم دينكم.." في المرتبة التاسعة. بقيت ثلاث سور فقط من أصل 114 في ترتيب نزولها الأصلي كما في الحالي، ومع هذا التغيير ليس الترتيب فقط هو ما تغير لكن معاني القرآن أيضا.
ماذا كانت النتيجة؟ أٌغلق على الإسلام في كل الميادين (الفكرية، الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية والدولية) ويدمر المسلمون أنفسهم بأنفسهم على مرآى من العالم المسالم. ولا ننسى تجربة بلدنا السباقة في هذا المجال، إذ فقدت فيها 200000 من أبنائها، حيث كان كل الضحايا سنيين مالكيين و دفنوا جميعا في مقابر واحدة. يتقاتل المسلمون السنة و الشيعة فيما بينهم بوتيرة أفظع من الماضي نظرا للأسلحة المتطورة التي بحوزتهم مقارنة بالرمح والسيف الذي استعملوه في العصور الغابرة.
ألا نستحي من كلمة "التعفن" التي تعني في معناها الحقيقي" التعرض للتفسخ بفعل البكتيريا"، و في معناها المجازي"الانحطاط التدريجي"؟، إذن فحالتنا يصدق فيها التحلل بمعناه الطبي لأن التعفن المقصود هنا هو تلك الحالة المرضية للنسيج الاجتماعي، كما هو الوضع في العالم الإسلامي، الناتج عن التأثير طويل المدى لل"أفكار الميتة"، و "الأفكار القاتلة" كما يصفها مالك بن نبي، البعيدة عن الواقع و التي لا صدى لها في العالم المعاصر، و لا يتعلق الأمر فقط بالأفكار المتطرفة المحسوبة على التعصب أو المصنفة دون أي تردد تحت الراية السوداء للإسلاموية من "فصيلة داعش"، بل أيضا وخاصة ب "الأفكار الميتة" التي لازالت تدرس في المؤسسات المرموقة كالأزهر. الأولى هي كالورم الخبيث وتعتبر الوليدة الشرعية للثانية التي تصنف ورما حميدا، إذن فإحداها حامل سلبي للفيروس والثانية ناقلة فعالة له.
ولماذا علينا أن نهاب كلمات ك" الإصلاح "؟ لابد من التصميم عليه إذا لم نرد التحلل تحت التأثير المؤذي للأفكار الميتة والتفكير النمطي الذي تشكل منذ قرون. تقارن الأفكار بالميكروبات من وقت باستور(Pasteur).التغلب على التعفن لا يتأتى إلا بالفوز في معركة الإصلاح الفكري والسياسي، برفع التحدي لتحقيق توافقنا مع مقاصد العلم، الإنسانية و التاريخ. هذا هو أساسا المعنى الأصلي ل"الجهاد": الانتصار على جمودنا، على ضغط التقاليد علينا، و على استعباد "العلم" غير النافع الذي حذّر منه الرسول، والتحرر من الخوف ومن الشعور بالذنب والذي يستعمله العلماء والدعاة كحجج أساسية وأدوات بيداغوجية.
ما أحاول القيام به من خلال مسعاي هذ، في وقت يشهد تراجعا أخلاقيا وتضييقا فكريا وإرهابا لا مثيل له في تاريخ العالم الإسلامي، هو تحليل الأحداث الملموسة والسلوكيات الظاهرة، البحث عن مصادر الأفكار التي تلهمها والتحذير منها، و في المقابل طرح تصور للإسلام يتجلى من خلال تعريف جديد للمسلم يختلف عن تعريفه التقليدي، هذا الأخير الذي يجسده غالبية مسلمي اليوم ويتعارض مع التوجه العام للإنسانية.
مهاجمة الإسلامويين لا يعني مهاجمة المسلمين، لكن لابد من التنويه إلى أن الإسلامويين يعتبرون استثناء في أرض الإسلام بل أقلية من الممكن أن تتحول إلى أغلبية تحت تأثير الأفكار المستلهمة مما أصفه إجمالا "العلم القديم"، معرفة دينية و"فقه" مبني على تفاسير للقران تجاوزها الزمن، بل وأصبح عائقا في وجه مصالح المسلمين أنفسهم.
أنا لا أقصد أن الإسلام القرآني قد تجاوزه الزمن بل أؤكد جليا أن الإضافات البشرية للمعطيات الإلهية هي المفلسة بل وأصبحت تتعارض مع روح القرآن والسنة النبوية إذا ما جردناها من التحريفات التي شوهتها. بالعودة إلى حقائق الماضي والحاضر، أحاول أن أثبت أن المنهجية التي أسسها "السلف" (القدامى وتابعيهم) لم تكن صالحة بل وأصبحت سلاحا يشهر في وجه الإسلام نفسه، خاصة وأنه لم يجدد نفسه على الأقل مرة في القرن كما كان يرجو ذلك النبي محمد(ص)، هذا اللغز الذي لم يحل إلا مرة واحدة و بالوسائل ومستوى المعارف وظروف المرحلة، فيما بين القرن التاسع والخامس عشر، لكنه لم يستطع تجاوز مرحلة العولمة و لم يتمكن من فتح الطريق في وجه المسلمين نحو الألفية الثالثة.
أنا لا أنادي بضرورة العودة إلى المعتزلة، بل العمل على أكثر مما ذهبوا إليه لأن المعارف في عصرنا الحالي هي أكبر و أقرب ألف مرة إلى الحقيقة الفيزيائية العلمية والميثافيزيقية من تلك التي توفرت في عصرهم و في جميع الميادين، بما فيها المجال الديني بمعناه المجرد. أكبر خطأ ارتكبه السلف هو رفعهم لشهادتهم، تجاربهم، فهمهم للإسلام، للإله، للكون، لسبب الوجود، للدين وللإنسان إلى مرتبة "الوحي الثاني" و كأنها امتداد للوحي الذي توقف عدة أشهر قبل وفاة النبي، و سواء كان هذا التصرف عن سوء أو حسن نية فليس هذا هو المهم، بل الأهم هو استدراك ما يمكن استدراكه بإصلاح الضرر والحيلولة دون تفاقمه إلى أخطار قاتلة. من أين نبدأ؟، هل من إصلاح فهمنا للإسلام، أم من الإصلاحات السياسية؟، من العبث التوجه للإصلاح السياسي مع النفسية الحالية للمسلم، لابد من تغييرها هي أولا. و لأن تشكيلها كان بواسطة الدين، بالنظرة المقلوبة للإسلام من بداياته، هل علينا البدء من نقطة البداية، أم من نقطة الوصول؟، لن يموت المسلمون وقد قارب عددهم 1.3 مليار نسمة، فجأة و دفعة واحدة، لكن يمكن أن يتحللوا تدريجيا كنتيجة حتمية لحروبهم الأهلية، للعجز الاقتصادي، للجهل وللأمراض، إذا لم يصلحوا أنفسهم بأنفسهم، ستوصد الدول الأخرى الباب في وجههم بل وتطردهم حتى من تلك التي استقروا بها.
لن يتأتى حل مشكل الإسلام والمسلمين من العلماء القدامى أوالحاليين، بل من تصور ينشأ خارج المؤسسات التقليدية والكتب التي تدرس" العلم القديم". سينبثق من اجتهاد مستقل، حديث في أساليبه و معارفه مزود بإرادة قوية لخدمة الإسلام القرآني حتى و إن كان على حساب الإسلام التاريخي المبني على الفهم الخاطئ للعلم الديني القديم. هذا العمل لم يقم به أحد من قبل، بالرغم من الجهود التي تبذل هنا و هناك، بما فيها محاولات في بلدنا، ممن ينادون بإصلاح ضروري، وإن كان مؤلما ككل مخاض عسير لأن من دون تحقيقه خلال السنوات القليلة القادمة و من طرف دول لا أفراد، فسيواجه الإسلام مصير الأساطير الإغريقية القديمة. …يتبع " حمل قلمه منذ سبعينيات القرن الماضي، فكتب عن الجزائر الإسلام والعالم، مثَّل الثلاثةُ انشغالا حيويا لديه فاجتهد و لازال، يطرح الإشكاليات بمختلف أبعادها و يبحث عن الحلول الناجعة، إنه السياسي والمفكر نور الدين بوكروح، والذي يعرض من خلال هذه الصفحة كل يومي أحد و خميس أفكارا تسعى إلى تغيير تصوُّرنا للوجود، وتهدف إلى عقد مصالحة للمسلمين مع ذواتهم و مع الآخر، خاصة و نحن مقبلون على مرحلة ستشهد ثورات إقتصادية، فكرية و علميّة على الصعيد المحلي والعالمي".