لقد فرض الله سهما من أسهم الزكاة الثمانية، يذهب إلى فئة سمّاها:" المؤلفة قلوبهم "، جاء في سورة التوبة: " إنّما الصّدقات للفقراء والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلّفة قلوبهم، وفي الرّقاب، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السّبيل ، فريضة من الله، والله عليم حكيم". و"المؤلّفة قلوبهم " قوم من كبار رؤساء العشائر، وسادات قومهم، وكبرائهم ، من أصحاب التأثير الواسع، فهم مطاعون في أقوامهم، فقد كان منهم قادة سياسيون كبار لهم حضورهم القوي في دار النّدوة وكلمتهم مسموعة كأبي سفيان بن حرب، وكان منهم شعراء كبار، يجمعون صفة القيادة لعشيرتهم، والتأثير الإعلامي الواسع بشعرهم، من مثل العباس بن مرداس، فقد كان شاعرا فذا، وشجاعا مقداما، وكان منهم قادة ديبلوماسيون بارعون في فن المفاوضات، من مثل سهيل بن عمرو، الذي قاد مفاوضات قريش في صلح الحديبية، وكان منهم قادة حرب أهل دربة ومهارة، من مثل صفوان بن أمية، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس. جميع هؤلاء أسلموا على ضعف، وهم أهل تأثير كبير في قومهم ، فظلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يمارس معهم فنون الاستيعاب، يطمئنهم أنّ الإسلام لن ينقص من قدرهم ومنزلتهم، ولم يأت لتصفية مواقع نفوذهم، ولا لتجريدهم من المال، بل ظل النبي يعطيهم من المال والغنائم وهم أغنياء حتى أتخمهم. جاملهم النبيّ صلى الله عليهم بالكلمة الطيبة، فقال: " من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن "، جاملهم بكثرة العفو عنهم، رغم كثرة أخطائهم وسوء أدبهم، كل ذلك رجاء استمالة قلوبهم وطمأنتهم، حتى يدخل الإيمان في قلوبهم، وأملا في التأثير في أقوامهم وهم يشاهدون هذه الروائع في المعاملة بالحسنى، فغالبا ما كان الكبراء حاجزا بين قومهم وبين الإسلام، فكانت نظرة النبي صلى الله عليه وسلم البعيدة، هو كسر الحواجز التي تمنع مرور كلمات الدعوة إلى قلوب الناس، فقد كان هؤلاء الحمقى مطاعين في قومهم بسبب ثقافة القبيلة القديمة، وكان النبي يشير إلى أحدهم بهذا الوصف " الأحمق المطاع "، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يمارس فنون تحييد الشرّ وعزله، ومنعه من تكوين أيّ عصبة، فقد قال صراحة: " والله إني لأشتري ألسنة قوم "، يشتريهم بالإحسان، رجاء تحييدهم، أو تقليل شرّهم، وذلك من فنون الحكمة التي أوتيها الأنبياء " ويعلّمهم الكتاب والحكمة ". ثم هؤلاء " المؤلفة قلوبهم " متداخلة أنسابهم وصلاتهم الرحمية مع النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه، فحكيم بن حزام هو ابن أخ خديجة رضي الله عنها، والحارث بن هشام ابن عم خالد بن الوليد، فأراد النبيّ صلى الله عليه وسلم توجيها من ربه أن يمتّن نسيج شبكة العلاقات الاجتماعية ويمنع خرقها بمبررات الحروب القبلية التي كانت تندلع في الجاهلية دائما انتصارا لشرف القبيلة ودفاعا عنها مخطئة أو مصيبة، كما قال شاعرهم : وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد فإذا كان منهج الإسلام يجيز التنازل بنصيب من مال الزكاة لصالح الأغنياء، رجاء تأليف قلوبهم وتحييدهم، ومنع شرّهم، وتمتين صلتهم بأمتهم ودينهم، فكيف لا نؤسّس من هذه الفكرة رؤية لتمتين السلم الداخلي، وممارسة المجاملة بالكلمة الحقة، رجاء كسب قلوب القادة والمؤثرين وأصحاب النفوذ، فالحكمة التي يقوم بها الملك ويدوم، قائمة على تمتين الصف الداخلي، وكسب رؤوس الأقوام، والمؤثرين من الإعلاميين والديبلوماسيين، والساسة والمفكّرين، وأصحاب الأموال وأهل الفنّ والإنتاج السنيمائي، أحيانا كسبهم وتليين العلاقة معهم والاقتراب منهم أكثر، وأحيانا أخرى تحييدهم وتقليل شرّهم واندفاعهم. الدعوة ما لم تملك الحكمة لن ترزق رشادة في الرؤية، ولا في حسن السير والتعامل مع الواقع ومتغيراته ومؤثراته، وتظل في استعلاء إلى أن تكسر، أو في اختباب وسرية إلى أن تطمر. إنّ كسب قلوب الناس منهج إسلامي فنّ يتقنه الكبار، ولا يتحقّق بالعزلة أو الاستعلاء، كما لا يتحقق بقلوب تفيض حقدا على الناس، ولا بعقول مشلولة لا تحسن إدارة المعارك، فهي مجبولة على تصنيف الناس، وفتح حروب داخلية لا تنتهي، وفتح جبهات واسعة، مع العجز الفادح عن دفع الشرّ الذي يُستفزّ أو يستثار في كل وقت وحين من رؤوس جهال، وما هكذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم سيّد المعلّمين.