د.رضوان شافو (أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الوادي) لا يختلف اثنان بأن الثورة الجزائرية تعتبر من أعظم ثورات القرن العشرين، لكونها حققت معجزة عسكرية ضد فرنسا الاستعمارية والتي كانت تعتبر آنذاك من أعتى القوى الاستعمارية العالمية، والشيء الذي يزيدها عظمة هو أن الحلف الأطلسي الداعم للحركات الإمبريالية وقف عاجزا أمام قوة وصلابة أفراد الجيش التحرير الوطني، ولم يستطع إنقاد هيبة فرنسا الذي مُرِّغ شرفها في التراب وجعلها مثل النعامة التي تخفي رأسها في التراب خوفا من عدوها. فأمام انتصارات الثورة الجزائرية ما كان على فرنسا الا التفكير في وسائل جنونية لا تخطر على عقل بشر ولا حجر في الدنيا من اجل القضاء على الثورة الجزائرية باستخدام كل الوسائل المتاحة والمحرمة دوليا، فجاءت عملية" السَد القاتل " أو "الموت القاتل" القائمةعلى عزل الثورة عن الخارج وخنقها من الداخل ظناً منها بأنها ستقطع الدعم العسكري واللوجستيكي عن الثوار، وذلك بمنع الإمدادات التي كانت تأتي من الخارج، وذلك بإقامة الأسلاك الشائكة عبر حدودها الشرقية والغربية والتي تصل الى ما يقارب 14500 كلم2، مع زرعها بالألغام المضادة للأفراد والجماعات، بمقدار 35 الف لغم في 11 كلم2، ومن مختلف الأنواع والاحجام، ومنطلق هذه الفكرة يعود الى الجنرال فانكسامvanuxem الذي حاول تطبيق هذه الفكرة في حرب الفيتنام سنة 1954، الا أن تغير المعادلة العسكرية لصالح الفيتناميين بقيادة الجنرال جياب حالت دون تطبيق هذه الفكرة على ارض الواقع. فمع مجيء الجنرال ديغول على رأس الجمهورية الخامسة سنة 1958، لقيت الفكرة تجسيدا على أرض الواقع، وهذا في اطار سياسته الشاملة الرامية الى القضاء على الثورة التحريرية والحفاظ على الجزائر فرنسية، وذلك من خلال خطي شال وموريس المكهربين والملغمين على الحدود الشرقية والغربية، وتعتبر سنتا 1958 و1959 من اخطرالمراحل التي عرفت فيها الثورة تضييقاً وحصاراً كبيرين أمام الترسانة العسكرية والتكنولوجية التي سخرتها الادارة الاستعمارية، إلا أن الارادة الإلهية كانت مع دعاة وأنصار الحرية والتحرر من الاستقلال واسترجاع السيادة الوطنية التي اغتصبت من الشعب الجزائري سنة 1830، واستطاعت الحنكة العسكرية للقيادة الثورية ان تتعامل مع عملية "السد القاتل" بإمكانيات بسيطة، وعزيمة وارادة فولاذية، واستطاعت ان تقطع الاسلاك الشائكة وان تمسح الكثير من الالغام المضادة للأفراد والجماعات عبر الأشرطة الحدودية الشرقية والغربية، وان تكبد القوات الفرنسية مرة اخرى هزيمة ضد تكنولوجياتها وهندستها العسكرية باقل التكاليف مقابل الخسارة المالية والبشرية التي سخرتها الادارة الاستعمارية لعملية السد القاتل، مما جعل فرنسا ترضخ لشروط القيادة الثورية بالتفاوض من اجل الحرية والاستقلال والذي تحقق في 5 جويلية 1962، بفضل تضحيات المجاهدين وقوافل الشهداء. بعد أكثر من 54 سنة من الاستقلال خرج الاستعمار الفرنسي من بلادنا، لكن الامه ومآسيه بقيت تلاحق الجزائريين في كل مكان، فمخلفات عملية "السد القاتل" لازالت تحصد الارواح والحيوانات من خلال بقايا الالغام الاستعمارية التي بقيت منتشرة عبر الاشرطة الحدودية، وحرمت الجزائريين من استغلال اكثر من 2000 هكتار من الاراضي الزراعية، وكبدت من الضحايا ما يزيد عن 7300 ضحية منهم 4830 خلال الثورة التحريرية، و2470 ضحية بعد الاستقلال حسب التصريحات الاخيرة لنائب وزير الدفاع الوطني الفريق قايد صالح يوم الاثنين 18 سبتمبر خلال عملية اشرافه على التدمير العلني للمخزون المتبقي من الالغام الاستعمارية المضادة للأفراد بمنطقة حاسي بحبح بالجلفة بالناحية العسكرية الاولى والذي تزامن مع الذكرى 20 لاتفاقية اوتاوا. وعلى الرغم من مخلفات مأساة "السد القاتل"، إلا أن الدولة الجزائرية لم تدخر جهدا في تضميد جراح الجزائريين ومواساة المعاقين والمعطوبين منذ الاستقلال بقيادة افراد الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني، وذلك تطبيقا لما جاء في دستور 1963 والذي ينص في احدى مواده على تطهير ومسح بقايا الالغام الاستعمارية، واستمرت عملية مسح الالغام بوسائل تقليدية بسيطة الى غاية سنة 2000، حينما وقعت الجزائر على اتفاقية اوتاوا أو كما تعرف"باتفاقية حضر الالغام"، والتي عقدت بكندا سنة 1997، ودخلت حيزالتنفيذ والتجسيد سنة 1999. وتشير بيانات وزارة الدفاع الوطني المعلن عنها، والتي كان اخرها في شهر ديسمبر 2016 بأن عملية مسح الالغام الاستعمارية قد انتهت نهائيا، والتي تمت عبر مرحلتين، الأولى ما بين 1963-1988، والثانية ما بين 2004- 2017، وتعتبر المرحلة الثانية هي الانجح بكثير مقارنة بالمرحلة الاولى وذلك لتوفر الاجهزة المتطورة في المسح والتفكيك، وبفضل التكوين العالي للوحدات المتخصصة لأفراد الجيش الشعبي الوطني في نزع وتدمير الالغام، وكانت خلاصة القول والفعل بان تكللت جهود افرد الجيش الوطني الشعبي في إزالة هذه الألغام وتدميرها وطمأنة الجزائريين من مخاطرها، ونجاحه في وفائه والتزامه بتعهداته الدولية وفقا لمعاهدة اوتاوا، غير أن الكابوس المرعب الذي سيبقى يؤرق الجزائريين هو القنابل والقذائف التي رميت من الطائرات في المناطق الجبلية ولم تنفجر، وفيما إذا كانت هناك ألغام تنقلت من مكان إلى مكان بعيدا عن موقعها المحدد في الخرائط الجغرافية للألغام الاستعمارية بفعل عوامل الطبيعة. وتتمة لجهود حماة الوطن في تطهير البلاد من الالغام الاستعمارية فإن الجزائر تعتبر من بين الدول الرائدة في التكفل بضحايا الالغام من خلال تعويض المعاقين والمعطوبين بمنحة مالية تقدر بخمسة آلاف دينار جزائري، مقارنة بدول اخرى كانت قد وقعت على اتفاقية اوتاوا، غير أن مأساة"السد القاتل" ستبقى وصمة عار في جبين من نادى يوما ما بقيم الديمقراطية والحرية، وستبقى ايضاً جريمة استعمارية ضد الشعب الجزائري التي لا تسقط بالتقادم، وستبقى أيضاَ لعنة المعاناة الاجتماعية لضحايا الألغام تلاحق جلاديهم.