هل تعرف من هو أكبر عدو للإنسان؟ بقلم: هشام موفق مداد الحلقة 1: وضع مراد رجله اليمنى على شماله، بعد ألم خفيف بدأ يدب أسفل ظهره.. فقد قضى الساعة الماضية يتذكر والده الذي توفي من أسبوع بوباء كورونا المستجد، ولأول مرة يجد مراد نفسه من غير أب في أول أيام رمضان.. استرجع الابن ذو الثلاثين عاما كيف كان يرافق والده إلى الحراش صباح كل جمعة، ليطوفوا بأسواقها المغطاة والمفتوحة، ويجوبوا سوقي الخردة والمواشي، ويختموا جولتهم بأخذ قهوة المدينة المعروفة مع السلام على أصحاب والده القدامى، قبل أن يقفلوا راجعين للبيت يستعدون لصلاة الجمعة.. لكنه اليوم غير موجود معه هنا في الساحة المركزية للمدينة.. لا يوجد غير الحمام المعتاد على مكانه، وصوت النافورة يكسرها تارة زقزقات متقطعة هنا وهناك، وصوت محرك سيارات تستغل رفع الحظر.. على الأريكة، أرجع مراد قفاه للخلف، واستسلم لنوبة بكاء صامتة لا تسمع من صوته غير شهقات متقطعة.. ليس سهلا على شخص صاحب والده لعقود ثلاثة، ثم يفقده في جائحة أقلبت رأس الدنيا بكاملها.. لم ينتبه مراد للوقت إلا على صوت رخيم: “وليدي.. وليدي”.. اعتدل بسرعة ومسح عيناه، وأجاب “اسمح لي ابابا”.. “ماعليهش وليدي.. نقدر نقعد قدامك؟”، سأل العجوز.. “طبعا طبعا.. تفضل.. أنا أصلا كنت رايح”.. رد مراد جلس العجوز على شمال مراد، فتنحى الشاب قليلا إلى جانبه الأيمن احتراما لمسافة 1 متر المنصوح بها، وأعاد لبس كمامته.. لكنه انتابه إحساس غريب.. كأنه أنس، أو ارتياح لهذا الغريب.. فأخذ يماطل في تحضير نفسه للانصراف.. “الهاتف هنا.. مفتاح السيارة هنا.. محفظة النقود هنا.. معقم اليد هنا”.. إلا أن العجوز باغته: “هل تعرف من هو أكبر عدو للإنسان؟”.. التفت مراد للشيخ: “عفوا؟”.. رد العجوز: “سمعتني.. ما رأيك؟” استغرب الشاب مثل هذا السؤال من شخص لا يعرفه.. لكنه مع هذا الشعور وجد أنه يرتاح أكثر لهذا الغريب.. سرح يتفرس تقاسيم وجهه.. قبعة بيري تعلو وجها سمحا لا شراسة فيه.. خدود لا منفوخة ولا ممصوصة، تختلجها بعض تجاعيد زمن طويل.. وعين بنية بين دافئة وحادة.. لكن الملفت هو سمت ورهبة تغطي كل ذلك.. “ما بك؟”.. قطع العجوز شرود الشاب.. “ألا تعرف من عدوك؟”.. رد مراد “آ آ.. لا.. أنا.. أردت القول”.. قاطعه العجوز، وقال مال له أكثر تجاه أذنه “صوتك الداخلي، وما تقوله لك نفسك أكبر عدو لك”.. قالها العجوز وقد عاد ليتكئ على الأريكة يقطع خبزا صغيرا يطعمه الحمام.. أطرق مراد برهة.. لكنه شعر باستفزاز.. “ماذا يظن نفسه؟ بوعريفو؟ لماذا يطرح عليّ هذا السؤال؟ ماذا يعرف عن شعور الإنسان حين يفقد عزيزا؟ أصلا وين يعرف جدي هذا يجي يفتي عليا مع صباح ربي؟”.. هم مراد يغادر.. قام ولم ينبس ببنت شفه.. لكن العجوز سأله: “هل تعرف ماذا قال الرجل لزوجته حين تخاصما وظنت أنه يراها سمينة؟”.. “لا” رد مراد بجفاء أقرب للامبالاة.. “قال لها أنت لو كنت في الهند لكانوا وضعوك إلها وعبدوك”.. أردف العجوز “هي ظنت أنه يمدحها، لكن اللعوب كان يقصد تشبيهها ببقرة”..ضحك مراد ومعه الشيخ للحظات.. ثم بادر يسأله “ما العبرة من القصة؟”.. – “لا شيء.. أردت فقط أن أكسر الجليد في حديثنا، لأخبرك عما يمكن أن يفعله حديث نفسك بك”.. …يتبع