أضحت ظاهرة تلفت انتباه أي شخص متجول عبر شوارع العاصمة خاصة منها الأحياء الشعبية، هم أطفال تتراوح أعمارهم بين السادسة والخامسة عشرة يرتدون ملابس رثة تملؤها الأوساخ ، تجدهم يبحثون في أكوام النفايات ومنهم من يطرق أبواب كل العمارات ، وآخرون ينادون بأعلى صوت طلبا لفتات رغيف قديم ليتمكنوا في الأخير من شراء لقمة تسد رمقهم وعائلاتهم. تفشت هذه الظاهرة وتفاقمت بسرعة كبيرة نتيجة الفقر والبطالة وتردي الأوضاع الاجتماعية ، التي أجبرت العديد من العائلات في إرسال أبنائها الذين لاتتعدى أعمارهم الخامسة عشرة سنة إلى العائلات الميسورة لجمع ما تبقى من الخبز القديم، فتجدهم يلفون الأحياء والشوارع ويطرقون أبواب العمارات للحصول على الخبز اليابس ، بغية جمع دنانير قليلة تسكت بطونهم الجائعة. يقصدون الأحياء والعمارات بحثا عن الخبز اليابس في جولة قادت ''الحوار'' لبعض الأحياء الشعبية للاقتراب أكثر من الظاهرة والغوص في يوميات هؤلاء الأطفال المضطهدين، تحدثنا مع السيدة ''حورية'' قاطنة بإحدى عمارات برج البحري ، والتي قالت في هذا الخصوص: ''لقد ألفنا كل يوم وفي مطلع الساعات الأولى من الفجر يصحو حينا على صيحات هؤلاء الأطفال يهتفون بأعلى صوتهم: ''يا لي عندو خبز يابس'' حتى تحولت هذه العبارات إلى أنشودة يبدعون في تلحينها كل صباح مشرق فما يكون منا سوى إلقاء من النوافذ أكياس الخبز اليابس الذي نتصدق به عليهم لعله يساعدهم في جمع المال عند بيعه بشكل أو بآخر''. أما فتيحة ربة بيت وتقطن في نفس الحي فتقول: ''لقد أضحى هذا المشهد يطبع يومياتنا ، ويتكرر يوميا، خاصة في الآونة الأخيرة حتى أصبحت ظاهرة تقتحم الأسرة الجزائرية ، وفي ظل غياب مسؤولية الأهالي وصمت الجهات الوصية تعرف هذه الأخيرة تفاقما خطيرا يهدد كيان المجتمع ويخلق الآفات الاجتماعية ، ويجعل هؤلاء الأطفال ضحايا وعرضة لعدة انتهاكات ومخاطر تهدد حياتهم دون حماية من أي شخص''. بيع الخبز اليابس لأصحاب الماشية لكسب قوت اليوم ولمعرفة خلفيات هذه الآفة والتحري عن مصير هذا الخبز، ولمن يعطونه وكم هي الأجور التي يتقاضاها هؤلاء الأطفال، اقتربنا من أحدهم يدعى ''حسان'' 11 سنة القاطن بحي ''الباطوار'' كان يبدو على ملامحه التعب والشقاء، يرتدي ملابس قديمة ومهترئة لا تحميه من قساوة البرد ، أجاب عن أسئلتنا قائلا: ''في الحقيقة أقوم بهذا العمل بشكل يومي بعدما انقطعت عن الدراسة ، لعدم تمكني من دفع تكاليف الدراسة من أدوات مدرسية وكتب وغيرها، إضافة إلى أننا ستة أطفال نعمل كلنا في نفس المهنة ، لمساعدة أمي المريضة وأبي المتقاعد، الذي لا يكفيه راتبه لسد كل طلباتنا، لذا أمرنا بالعمل والاتكال على أنفسنا لكسب لقمة العيش، وهذا الخبز الذي نجمعه نبيعه لأصحاب المواشي بمبلغ مالي قدره 003دج''. أما عن فتحي وجمال التوأمان اللذان وجدناهما يجران عربة حديدية محملة بأكياس الخبز اليابس، الذي جمعاه خلال رحلتهما الشاقة، فلم يتكلما معنا بسهولة ، بل بعد عناء طويل ، ومحاولات متكررة أجابا ''نحن نقوم بجمع الخبز لمساعدة أمنا التي تعبت من الديون ، وطلب مساعدة الأقارب والجيران لنا ، وكذلك الوقوف بجانب أبي العاطل عن العمل ، الذي لم يعد في استطاعته تحمل المسؤولية لوحده ، خاصة بعد إصابته بمرض الربو ، فنحن نعيش في الشاليهات ونعاني من الفقر والعوز ، ولسنا الوحيدين الذين نتخبط في هذه المشاكل بل هناك أطفال آخرين تتشابه ظروفهم بظروفنا ، تجدهم يتسابقون يتهافتون على أكوام الخبز التي يرميها بعض المواطنين لاقتنائها وبيعها كأحد سبل العيش''. وتبقى هذه الشريحة الحساسة تعاني في صمت في ظل هذا الوضع المأساوي الذي دفع بأسر فقيرة ومعوزة تحجز في حق الطفولة وترغمها عن التخلي عن أبسط شيء عندهم كمثل حقهم في اللعب والتعليم فالطفل في أيامنا هذه أصبح مسؤولا عن أسرة بأكملها في وقت غابت فيه مسؤولية الآباء ، وكم هي الأمثلة كثيرة ومنتشرة في أرجاء البلاد ممن يعيشون تحت رحمة الظروف وقساوة المعيشة ، وكم هم الكثيرون الذين رفضوا الإدلاء بشهادتهم بل أبوا إلا أن ينتظروا التفاتة من السلطات المعنية لمساعدتهم في عيش حياة عادية كبقية أقرانهم.