عندما تهزم الصدور العارية المدافع ورصاص المرتزقة متفجرة (تسمى جولاطينة) أعدها للتجهيز ووضعها إلى جواره، وألقى بأسطوانتي غاز صندوق سيارته الخلفي. اقترب بكل جرأة إلى الهدف، وقبل كيلومتر واحد توقف وأخرج مصحفه وقرأ بعضا من الآيات وتابع طريقه، وبكل قوة أنزل كرسي القيادة إلى الخلف واندفع بالعربة ثم أشعل الفتيل، فاقتحمت السيارة الباب الأول فانهمر الرصاص وأصيب ولم يتوقف، استمر إلى أن وصل إلى الباب الثاني، فانفجرت المتفجرات وتسببت أسطوانات الغاز في انفجار أضخم، دمّر البوابة الثانية وحطّم برج المراقبة الذي يعتليه المرتزقة الأفارقة. تلك القصة لم تكن مشهدا من فيلم سينمائي خيالي، ولكنها مشهد من بسالة ونضال البطل الليبي المهدي محمد المهدي زيو، صاحب أول عملية فدائية في ثورة 17 فبراير، قرر أن يضحي لتعيش بلاده، وينهي أسطورة كانت تعرف بكتيبة ''الفضيل'' الأمنية. العمل البطولي للشهيد الزيو الذي يرجع إليه أهالي بنغازي الفضل في تعجيل فتح الكتيبة وإنهاء أسطورة واحد من أقذر المواقع الإجرامية في العالم، كما يصفها أصحاب الأرض. معركة ''كتيبة الفضيل'' واحدة من أضخم المعارك الحربية التي دارت رحاها بين إرادة الشعب الحر والقوات الأمنية العسكرية، بإدارة العقيد القذافي وعبد الله السنوسي، القصة من النهاية إلى البداية سقط القذافي. أما البداية كانت مباني مبهمة ومنطقة يحظر السير بجوارها أو الاقتراب منها، ومعسكر أمني كبير يقع على عدة أفدنة، قال لنا أهالي بنغازي إن القذافي قرر إغلاق أحد أهم وأكبر شوارع المدينة وتحويلها إلى معسكر للأمن الداخلي المسؤول الأول عن حماية وقمع الليبيين. إبراهيم مهندس ليبي شاب تولى مسؤولية إرشادنا داخل الكتيبة، كان من ضمن الشباب مقتحمي الكتيبة وقال لنا: ''الكتائب الأمنية الموالية للعقيد استخدمت جميع الأسلحة، كلاشنيكوف وذخائر حارقة وأف أم وسلاح 5 ,14 ومضاد الطائرات 23 مم وجميعها ضد الطائرات والدبابات، وشباب الثورة على الجانب الآخر، كانت صدورهم العارية مدرعاتهم والسكاكين هي القاذفات.. توقع أن ينتصر المرتزقة، غير أنه لم يتوقع أن يحمل أحفاد عمر المختار أهم وأخطر الأسلحة في الوجود ''الإرادة والإيمان''، تلك رؤية إبراهيم ومثله شهود عيان كثيرون. اسم الفضيل بوعمر يعود إلى السيد الفضيل بوعمر الأوجلي، أحد السواعد القوية للشيخ المجاهد عمر المختار، يعرفه الناس بلقب الفضيل بوحوا، وهو قائد معركة الأثرون (السفية) الشهيرة، واستشهد في وادي السفية قرب الأثرون في 20 سبتمبر .1930 وكان الشيخ فضيل قائدا عسكريا لقبيلتي العبيدات والحاسة بمنطقة درنة. بل إنه هو الذي قام بتلاوة شروط المجاهدين أمام بادوليو، ذلك التاريخ المشرف للاسم، أضاف علية أحفاده شرفا آخر لمقاومة الطغيان والظلم الليبي في القرن الواحد والعشرين، قلعة الموت ''الفضيل بوعمر'' تم بناؤها منذ سنوات بعيدة ولا يدخل فيها إلا المغضوب عليهم أو المؤمنون بحمد ومجد القذافي من اللجان الثورية، والمؤمن بحمده ومجده لم يكونوا في حاجة إلى تهديد الجماهير فقط.. تلك الكتائب لا تعرف أي شيء في الدنيا غير حماية القذافي، لا هي بالجيش ولا بالشرطة، ولا تتعجب عندما تعرف أن الجيش في ليبيا لا يمتلك الدبابات والأسلحة الثقيلة. منذ وصولنا إلى بنغازي والأحاديث حول الفضيل كثيرة، قصة معركة العزة ''الفضيل'' بدأت مع أحداث الاحتجاجات البنغازية بعد القبض على فتحي التربل، محامي أهالي المقتولين في سجن أبو سليم، تظاهر الأهالي سلميا للمطالبة بالإفراج عنه، وكان ذلك أمام مديرية الأمن في بنغازي، فرد عليهم أفراد الأمن بالرمي بالرصاص الحي من المديرية، والتي تبعد بحوالي 2 كلم خارج المدينة. وتحرك الأهالي إلى الداخل وانضم إليهم الجماهير ووصلوا إلى مبنى محكمة بنغازي، فانضم المحامون للمسيرة واعتصموا بمحكمة بنغازي، ودعا الشباب إلى إعلان الاعتصام داخل المحكمة لحين الإفراج عن التربل في ذكرى الاعتداء على الشباب الليبي، عندما تظاهروا أمام سفارة إيطاليا احتجاجا على الرسوم المسيئة للرسول في ,2007 وبعدها بدأ الاعتصام ورفع سقف المطالب إلى وجود دستور وإطلاق الحريات وفتح التحقيق في قضية سجن أبو سليم، والتي راح ضحيتها نحو 1200 سجين إسلامي، وإعلان النتائج ومحاسبة المسؤولين. وعاد المتظاهرون للتظاهر مرة أخرى أمام المديرية، ووقعت اشتباكات عنيفة أيضا، وانتقلت بعدها إلى اشتباك مع القوات داخل الكتيبة. قبل الدخول للكتيبة توقفنا عند مركز شرطة البركة، القسم صورة من الدمار، استخدمه الثوار كقاعدة لهم، جدرانه لم تشفع لمن احتموا به ولم تصمد أمام قذائف الأربي جي التي اخترقته، بالإضافة إلى مئات الطلقات من مضاد الطائرات والرصاص الحارق الخارق. شاهدته واقفا أمام القسم، يساعد زملاءه في دهن القسم، مرة أخرى قال لي إنه كان شاهد عيان على ما حدث ونقل عددا من المصابين والشهداء إلى المستشفيات. محمد راشد بدأ الحديث ولكنه امتنع عن الكلام وتوقف.. فور أن بدأ يقص تذكر زملاءه الذين قتلوا أو أصيبوا، أكد أن الشباب لم يكن في نيته الهجوم على الكتيبة، ولكن إطلاق النار انهال عليهم فور مرورهم بالقرب منها، ونزول المرتزقة ذوي القبعات الصفراء إلى الشارع ساهم أيضا في الدفع إلى إنهاء وجود تلك البؤرة الإجرامية. رفض محمد أن يسمي الكتيبة باسم الفضيل، وقال الفضيل كان مجاهدا لا يطلق على كتيبة إرهابية.. هي كتيبة الإرهاب ولا شيء آخر. وقص علينا ما حدث داخل القسم قبل أن يتوقف عن السرد وقال: كنا ندخل إلى الميدان نهتف أن المظاهرة سلمية، وندد باستخدام الرصاص ضدنا في يوم 19 فبراير، فما كان من الجنود إلا أن أطلقوا النار بكثافة، فاحتمى البعض بقسم الشرطة ''البركة'' المواجه للكتيبة، فانهال الجنود من الداخل بالصواريخ ومضادات الطائرات، فرفض المتظاهرون الهروب، فجاء الجميع بسيارة الشهيد المهدي تخترق الجموع لتفجر البوابات، واندفع الكثير من الشباب في محاولة اختراق أخرى. واحتشد أكثر من بلدوزر وبدأوا فى تحطيم الأسوار حتى أطلق على أحد البلدوزرات صاروخ، أحرقه الآن السائق، كان قد انتهى من كسر السور، إلى أن استولى المتظاهرون على بعض الدبابات من أحد المعسكرات القديمة خارج المدينة، وجاءت قوات الصاعقة القادمة من أبو عطني والمتحالفة مع الشعب وأعلنت انضمامها إلى الثورة وحاصرت معسكر كتيبة الفضيل قبل أن يستسلم الجنود. انتقلنا عبر الكتيبة التي أصبحت مزارا سياحيا وطنيا لأبناء بنغازي، الأطفال والنساء والشيوخ الجميع يدخل إليها ويلتقط الصور التذكارية حول الدبابات التي غنمها الثوار الليبيون، بالرغم من أن تلك الكتيبة نفسها كان يمنع المرور بجانبها. أول مشهد للداخل إلى الكتيبة المنتهية الدبابة والكاسحات (البلدوزر) المعطلة قرب الأسوار، عرفنا أنها كانت محاولات من الشباب الليبي لتحطيم أسوار الكتيبة، كما فعل الشهيد المهدي، تحولت تلك القلعة المحصنة التي تحمي مئات الجنود بأدواتهم ومعداتهم الثقيلة إلى معرض للغنائم والرسوم الكاريكاتورية، والهتافات المنددة بالعقيد. كما أنها أصبحت حائط شرف تكتب عليه أسماء الشهداء، فهنا كان محمد وهناك أحمد وحسين، والمناطق كانت حاضرة، فاستشهد بطل البراك وشهيد الحدائق، الرائحة مازلت حاضرة، دخان وبارود. وقد أحس في بعض المرات برائحة الدم منتشرة في المكان، إلا أن مرشدنا داخل الكتيبة، المهندس إبراهيم، أكد أن رائحة الحرية تغطي على رائحة الدم والبارود. أكملنا حركتنا وشاهدنا حجم الحرق والأماكن التي تحولت إلى اللون الأسود. فهنا تحت المنصة كان القذافي يجلس ويستعرض قوة كتائبه الأمنية، واليوم تحولت المنصة إلى كومة من السواد.. جميع المشاهد تشير إلى مقدار الغضب، فلا يوجد مبنى واحد لم يتم حرقة سوى خزان المياه والمسجد. ودخلنا إلى المسجد لنصلي، وصعدنا أعلاه فرأينا الجرافات تحفر الأرض، تحدثنا مع الشباب وعرفنا أنهم يبحثون عن السجون تحت الأرض، سمع الشباب أصوات ساكنيها بعد دخولهم واقتحامهم الكتيبة في 20 فبراير الماضي. السجون في الكتيبة نوعان: الأول ذو بوابة حديدية وبه فتحتان فقط يدخل منهما الهواء. والثاني للقتل تحت الأرض، بلا أي فتحة تهوية، فقط فتحة أعلى السجن كالخندق يرمى فيها السجين. شاب ليبي رفض ذكر اسمه قال إنه كان ضمن المتظاهرين الذين ساهموا في اقتحام الكتيبة، وأكد أنهم أخرجوا من داخل السجون العشرات من الجنود الليبيين من أبناء بنغازي الذين رفضوا إطلاق النار على إخوانهم، ورفضوا أيضا الانصياع للأوامر، وعندها طلب منهم عبد الله السنوسي تسليم سلاحهم ورمى بهم في السجن، وألقى عليهم التراب، وبعدها رشه بالماء ليكون صلبا ولم ينقذهم إلا اقتحام الكتيبة. وأخرج خلال الأيام القليلة الماضية السلالم ذات الدرجات العديدة، والظلام الشديد لم يمنع السجناء داخل سجنهم من التوثيق لأيامهم السوداء بأسماء وعناوين ورسومات، وأيضا تواريخ لم يعرف الناس مصير من كتبوها ولكنها ستظل للأبد رمزا على القمع، ومازال البحث جاريا عن أنفاق وسجون أخرى، فالجميع يسأل عن عبد الله السنوسي، أين اختفى، وكيف خرج من بنغازي إلى طرابلس. فالسنوسي، رجل المخابرات السابق وعميل القذافي، تطوع لمساعدة الساعدي، نجل القذافي، قائد كتيبة الفضيل، وحرره من محاولة الأسر، ونقلته فرقة أمنية جوا إلى خارج المدينة. الكتيبة كبيرة للغاية ولكن أبرز ما فيها مقر إقامة العقيد القذافي، مبنى راق جدا ومزين بالنقوش، نعم هو الآن أسود بعد حرقة، إلا أن ملامح الرفاهية داخله واضحة، سلالم من كل جانب بشكل دائري، وواجهة زجاجية، ويقال إنه يتوقع أن يكون هناك أنفاق داخل المبنى، ولكن مازال هناك بحث...