التقيت منذ أيام بصديق قارب سن التقاعد، له أربعة أبناء، منهم الجامعيون، إطار متوسط ''لا يمشي على الذهب''، لكنه ''مستور'' كما يقولون. عندما سألته عن أحواله أخبرني بأنه يجري اتصالات من أجل وظيفة في الخارج. تعجبت من ذلك وسألته عن السبب، على اعتبار أننا لم نعد في سن يسمح لنا بالمغامرة في الخارج ودون ضمانات، فرد علي بعبارة واحدة: ''أغامر لأنني خائف على مستقبل أولادي، أريد تهريبهم''. نعلم جميعا أن أبناء أغلب مسؤولينا يدرسون في الخارج، ويبنون مستقبلهم هناك، وإذا عاد أحدهم فإنه يجد المنصب في انتظاره أو يدخل مجال المال والأعمال من بابه الواسع. وإذا كان هذا الأمر قد أصبح ''نورمال''، على حد تعبير شبابنا الذي يستعمل هذه الكلمة في كل مقام ومقال، لأن النفوذ والإمكانيات والامتيازات التي يستفيد منها هؤلاء المسؤولون، بطرق شرعية وغير شرعية، تسمح لهم بذلك، فإنه يصبح خطيرا عندما يتعلق الأمر بالطبقة المتوسطة التي لا تتوفر على الإمكانيات، وبالتالي فهو ''اختيار مفروض'' عليها، ويطرح تساؤلات كثيرة تستوقف أولي الأمر منا. والواقع أن الصديق المذكور لا يشكل استثناء، بل إن الكثير من الإطارات المتوسطة وحتى محدودة الدخل، أصبحت تفكر في ''تهريب'' أبنائها للتكوين في الخارج وبناء مستقبلهم هناك، ولو كان ذلك ''بشد الحزام'' إلى أقصى درجة، لتوفير الحد الأدنى من الأموال اللازمة لذلك. لقد أصبح هاجس الخوف يستولي على الأولياء بمجرد وصول أبنائهم إلى الطور الثانوي، بسبب فقدان الثقة في منظومتنا التكوينية، وفي مبدأ تكافؤ الفرص. وأكثر من ذلك، لأنهم يدركون أن الكفاءة هي آخر معيار يعتد به في التوظيف والتكليف بالمسؤوليات وحتى الحصول على منصب عمل. عندما تعم الفوضى جامعاتنا وتتخذ القرارات بصفة ارتجالية، وتعطي الوزارة وعودا بفتح فروع وتخصصات ثم تخلف، ويحدث التزوير في مسابقات ''الماجستير'' وتتسرب الأسئلة، ويكون على رأس قائمة الناجحين أبناء بعض المسؤولين والأساتذة دون وجه حق، طبيعي أن يفقد الطالب ثقته في المنظومة التكوينية ويفكر في الدراسة في الخارج. عندما يتخرج الطبيب أو المهندس بامتياز ويبقى لسنوات في بطالة، طبيعي أن يبحث عن مجتمع آخر يستغل قدراته ويثمنها ويفتح له آفاق المستقبل. وإذا لم تتغير هذه الحال، فإن نزيف ''الهربة'' سيتفاقم. [email protected]