لعبت أحزاب ومؤسسات الحركة الوطنية دورا حاسما متدرجا منذ نشأتها في سنة 1912وإلى غاية اندلاع الثورة في أول نوفمير 1954، في توعية وتعبئة الجماهير معنويا ونفسيا وثقافيا وسياسيا، وإيقاظها روحيا وتجنيد طلائعها الأكثر التزاما واستعدادا والانطلاق في التكوين العسكري تحضيرا لمواجهة الاحتلال باللغة الأكثر فعالية والأساليب الأعلى مردودية. وذلك ابتداء من 16 فيفري 1947 التاريخ الذي تأسست فيه المنظمة الخاصة التي كان يقودها 10 قادة، الرئيس محمد بلوزداد، ونائب سياسي مكلف بالتنظيم حسين آيت أحمد، وستة رؤساء مناطق، ومدرب عسكري ورئيسا مصلحتين: الأولى للاستعلامات والثانية للهندسة العسكرية. بعد تولي حسين آيت أحمد مهمة رئاسة التنظيم العسكري الوليد في 13 نوفمبر 1947، استهلك جل وقته بمعية رفاقه في جمع الأسلحة والمتفجرات وأدوات الحرب وإعداد برامج التكوين العسكري وتشكيل الوحدات المصغرة وضبط شروط الانضمام إليه والإشراف على تدريب أعضائه عسكريا ومعنويا وبدنيا في كامل التراب الوطني. أما مواضيع التكوين العسكري فكانت تشمل: مبادئ حرب العصابات، أي طرق نصب الكمائن وشروط اختيار مواقعها المناسبة، وأساليب شن الإغارات، وكيفية فك وتركيب الأسلحة، واستعمالها التكتيكي، وفن استخدام الخرائط العسكرية، وفلسفة الهجومات السريعة، والمسير لمسافات طويلة عبر الجبال والتضاريس الصعبة، وقواعد حرب المدن، وتقنيات زرع الألغام وغلق الطرق...الخ. علما أن التدريب كان ينفذ عبر دورات قصيرة تدوم الواحدة 15 يوما، تلقن فيها للمجندين المختارين دروس نظرية وعملية حول فنون حرب العصابات، وبالأماكن البعيدة عن أنظار أجهزة الأمن للعدو بالقرى المعزولة والجبال النائية. مستمدة من مضامين الكتاب المرجعي للمنظمة الخاصة المعد من طرف حسين آيت أحمد وجيلالي بلحاج. فيما يتعلق بالتقسيم الجغرافي للتراب الوطني آنذاك فكان يتكون من 6 مقاطعات يرأسها المسؤولون الجهويون، وتتفرع كل مقاطعة إلى مناطق ونواح وقسمات. وتقوم الهيكلة التنظيمية القاعدية على أساس: نصف فوج الذي يتكون من قائد وفردين، ويشكل نصفا فوجين جماعة عدد أفرادها .7 وتتشكل الفرقة من جماعتين وقائد أي 15 فردا. وقد بلغ العدد الإجمالي لأعضاء المنظمة الخاصة حسب شهادة القائد الثاني للتنظيم العسكري حسين آيت أحمد في نهاية سنة 1949 حدود 2000 مجند، وارتفع العدد في أوائل سنة 1954 إلى 3000 مقاتل هم من أشعل لهيب الثورة في 1 نوفمبر 1954 عبر أكثر من 80 عملية عسكرية غطت كامل التراب الوطني. نفذ فرسان أول نوفمبر 5 عمليات بمدينة بغلية وعمليتين بمدينة سيدي داود تحت إشراف زعموم محمد وفالمي أمحمد. بعد إنجاز عمليات الحرق والتصفية الجسدية والقطع، انسحب الثوار سالمين إلى نقطة إعادة التجمع أين التقى بهم قائد الناحية وأخبرهم بأن ما قاموا به من هجومات ضد مؤسسات العدو في قراهم هو نفس ما نفذه إخوانهم في الجهاد بجميع مناطق الكفاح بكامل التراب الوطني، إنها ثورة مسلحة شاملة، وأن الجزائر من الآن فصاعدا تعتبر خارج دائرة الاحتلال الفرنسي، وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وما ضاع حق وراءه طالب. أسباب المعركة عرف يوم 11 ديسمبر 54 إنجاز مهمة جهادية من طرف فالمي أمحمد والحداد رزقي وعبديش محفوظ وقاسيمي محمد ومحمد بن محمود وعيبدة السعيد وكريم محمد وشعباني رابح وعباس محمد وإيدير علي وشيخ محمد، تجسدت في إشعال الثوار النار وحرق الجرارات والعتاد الفلاحي الموجود بحظيرة SAP مؤسسة الدعم الفلاحي والبيولوجي بقرية بن شود. انسحب بعدها الثوار البالغ عددهم 11 فردا على جناح السرعة نحو مرتفعات جبل بوبراك المنيعة المكسوة بالأشجار الكثيفة المرتفعة عن سطح البحر ب594 متر، قصد إعادة التجمع والاستراحة والاختفاء بالذوبان في تضاريس الجبل، ريثما تهدأ الأوضاع وحتى تتوضح تطورات الأحداث ويتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. غير أنهم علموا بأن قوات العدو تنوي تمشيط الجبل بحثا عنهم. وبناء على ذلك قرر القائد فالمي إخلاء المنطقة والانسحاب إلى قرية شرابة للنجاة وتجنب الاصطدام مع قوة معادية متفوقة، وإرسال دورية تتكون من كريم محمد وشعباني رابح، كلفهما باستقدام الأسلحة والذخائر والملابس من قاعدة الإمداد المتواجدة بمرتفعات سيدي علي بوناب وانتظار قدومهما هنالك. وكذا عقد اجتماع خاطف لتخطيط تنفيذ عمليات جديدة بغرض تصعيد الضغط على القوات الفرنسية، بنشر لهيب الثورة أفقيا وتعميم اللا أمن في كامل تراب القسم قبيل التوجه إلى غابة ميزرانة للتموقع والإقامة المؤقتة هنالك. ولكن عملية عبور الثوار لوادي سباو متجهين شطر شرابة، انكشفت دون أن يتفطنوا لذلك، حيث شوهدوا من طرف بعض السكان وأحد حراس مركز التكوين ببغلية كان يؤدي دورية الحراسة الليلية، فانتشر الخبر بسرعة فائقة كسريان النار في الهشيم حتى وصل إلى سمع شيخ قرية مشتى علال. عند بلوغهم شرابة أجبروا على تمديد إقامتهم بها في انتظار قدوم المبعوثين: كريم وشعباني لأنهما تأخرا عن الوصول في الموعد المحدد محملين بالإمدادات عكس ما خطط له القائد فالمي، مما عرض فوج المجاهدين المتكون من 9 أفراد في يوم 21 ديسمبر 1954 لعملية تجسس حاك خيوطها العميل علواش شيخ مشتى علال. ونفذها المخبر بويحياوي يحي ابن قائد عرش بني ثور، أصله من شرابة ويقيم بأولاد خداش، ضد جماعة الثوار المجتمعين بمخبأ بمنزل أسرة الحداد رزقي بشرابة إحدى قرى عرش بني ثور. تمثلت المكيدة في استدراجه للمجاهد بونخلة السعيد بهدف الحصول منه من حيث لا يدري على تأكيد الخبر المتداول لدى سكان المنطقة، ومضمونه تواجد جماعة من الثوار بشرابة بمخبأ في دار عائلة الحداد. وعندما تيقن ضمنيا من صحته، أخبر بويحياوي شيخ فرقة مشتى علال علواش محمد الصغير، الذي قام بدوره وعلى جناح السرعة بتقديم وشايته للسلطات الفرنسية بدلس التي ترابط بها وحدات عسكرية بثلاث ثكنات. وصف تضاريس أرض المعركة تتميز طبيعة تضاريس أرض منطقة شرابة ووادي هلال مسرح المعركة بأنها أراض متكسرة ذات منحنيات متعرجة، تتخللها منحدرات عديدة وجداول متفرعة، ضعيفة الغطاء النباتي، تتواجد بها تلال متوسطة العلو، معظم أراضيها زراعية قابلة لمرور الدبابات والمصفحات، ومداشرها منتشرة بأماكن متوسطة الارتفاع. فقرية مشتى علال المجاورة لشرابة تتعالى عن سطح البحر ب413 متر، وشرابة ب350 متر، وأولاد خداش ب115 متر، وبن حمزة ب106 متر. أما المرتفعات المحيطة بالموقع الذي كان يعتصم به المجاهدون، فتكثر بها النتؤات الأرضية ،تسيطر من حيث الرؤية على المناطق المتاخمة لها. فهضبة سيدي عيسى التي تعتبر أعلى نقطة بعرش بني ثور، حيث يصل ارتفاع قمتها 558 متر، وهو المكان الذي كان محل اختيار من طرف قادة المنظمة الخاصة بالقبائل السفلى مركزا مفضلا، آمنا للاجتماع دوريا بأعضاء التنظيم العسكري الناشطين بالمنطقة قبل الثورة. وفيما يتعلق بمدينة تاورقة فعلوها يبلغ 460 متر، ومشارف 351 متر، وما قرية شرابة المجاورة لوادي هلال والمطلة عليه، فيعد موقعها حصنا طبيعيا اتخذه القادة: كريم بلقاسم وعمر أوعمران وزعموم محمد وفالمي امحمد مركزا لتدريب المجندين بالمنظمة الخاصة، الناشطون بالجزء الأسفل من القبائل الكبرى قبيل اندلاع الثورة، نظرا لصعوبة الوصول إليها وبعدها عن أنظار أعوان أجهزة أمن العدو. أما وادي هلال الذي كانت ضفافه مسرحا للمعركة التي نحن بصدد تحليل أحداثها، فيشق المنطقة من الشرق إلى الغرب بدءا من منبعه في دويرة صبحي بأعالي شرابة، عرضه يتراوح بين 20 و30 مترا، وعمقه بين 3 إلى 7 أمتار، يجري به الماء غزيرا في فصلي الشتاء والربيع فقط، تصب مياهه بوادي سباو بين قرية بن حمزة ومدينة بغلية. تنبت وتغطي حوافه أشجار كثيفة من أصناف مختلفة كالطرفة والصفصاف والدفلة والخروب والزيتون والعليق والشلمون والقصب، وتمتد إلى مسافات تصل إلى 3 كلم طولا. بناء على ما تقدم ذكره، يمكن القول إن المكان الاضطراري الذي تواجد به المجاهدون ال9 تشوبه نقاط ضعف تكتيكية فادحة، كعدم توفر مسالك مموهة تسمح بالانسحاب الآمن في حالة الحصار، وقربه من قرى مأهولة بالسكان، وضعف الغطاء النباتي الذي لا يساعد على الحد من الرؤية الجوية والبرية لقوات العدو. قضت مجموعة المجاهدين ليلتها بمنزل عائلة الحداد، وقبل بزوغ أول ضوء أخبرهم صاحب المخبأ، الحداد رابح، بأن قوات العدو تحاصر المنطقة، فانسحبوا فورا إلى ضفاف وادي هلال ذات الأشجار الكثيفة قصد إبعاد تهمة الإيواء عن صاحب المنزل. وتتنفيذ إجراءات فورية وأعمال سريعة أولية تمثلت في: التمركز بالأماكن المحمية من رصاص العدو البري والجوي، تسمح برصد ومراقبة تحركات وتقدم قوات العدو من جميع الاتجاهات، لتفادي المفاجأة، والتي تمكنهم من الاستخدام الفعال لأسلحتهم، والتمويه والاختفاء الجيد، وتقدير مسافة الرمي بدقة، وتعيين الأهداف ورؤيتها بوضوح، والتوظيف الصحيح لتضاريس الوادي لصالحهم، والاستعداد لمواجهة الحصار وخوض معركة غير متكافئة فرضت عليهم، لم يخططوا ويحضروا لها مسبقا، تسبب فيها الخونة الذين حذرنا من مكائدهم الشنيعة مفكر الجزائر العظيم ابن باديس بتوصيته الصائبة ''فاقطع جذور الخائنين فمنهم كل العطب''. سير مراحل المعركة بعد أن تناهى إلى مسامع العدو تواجد الثوار بشرابة بناء على وشاية علواش، انقلب الوضع التكتيكي رأسا على عقب، بعد إعلان قيادته الطوارئ وتعبئة قوات عسكرية من مختلف صنوف الأسلحة من طيران ومشاة محمولة ودبابات ومدفعية، أمرتها بالتحرك من قواعدها المتواجدة بالبليدة وتيزي وزو وتادميت ودلس وعفير. والتقرب من المنطقة التي ستدور على أديم أراضيها معركة ضارية، أي قرية شرابة ووادي هلال، وتطويقها بسرعة وإحكام بواسطة قوات بلغ تعدادها 5000 مقاتل من المشاة المحمولة على متن 200 عربة عسكرية و62 دبابة، وعدة بطاريات من مدفعية الميدان ذات الرمي المباشر، وعدة بطاريات من مدفعية الهاون للرمي المقوس، وطائرات الاستطلاع. كل هذا الحشد من أجل تشكيل كماشة وحصار ومقاتلة 9 مجاهدين حاملين أسلحة عسكرية نارية قديمة الصنع ومزودين ببنادق صيد. بحيث كان على كل ثائر أن يواجه لوحده أكثر من 555 مقاتل فرنسي نظامي، علما أن قوانين حرب العصابات تؤكد بأن المكافح العصابي الواحد يستطيع محاربة 9 مقاتلين نظاميين والانتصار عليهم. وأن قوته المعنوية تتفوق على المحارب الكلاسيكي بثلاث مرات، كما أن المدافع الواحد من الثوار بإمكانه التغلب على 5 مقاتلين نظاميين مهاجمين. ولم يذكر علم الحرب اللامتماثلة أبدا لا بالتصريح ولا بالتلميح، أن المقاتل العصابي الواحد في استطاعته قهر أو صد أو الانتصار على 555 مقاتل نظامي مدعمين بالطيران والدبابات والمدفعية والهاون. زحفت قوات العدو نحو المنطقة ليلا كالجراد المبثوث لتطويقها من كل الاتجاهات، وخوض معركة ضد الثوار، منطلقة كما ذكر آنفا من البليدة وتيزي وزو وتادميت ودلس وعفير. فالقوات القادمة من البليدة اقتربت من أرض المعركة عبر محورين (أنظر الخريطة): - الأول عبر قرية تازروت في اتجاه ديار آل جمعة المطلة على قرية شرابة ووادي هلال، مشكلة خط هجومها عند السفوح المقابلة لوادي هلال. - الثاني كان عبر قرية الدارالبيضاء، وكونت خط هجومها على حواف الطريق الرابط بين تاورقة وبغلية، وغرب تاورقة بأرض تسمى سيدي فرج. mohamedramdani.com