فعلا يمكن القول اليوم بأن الساحة السياسية تركت ل ''دراري السياسة'' أو ربما أعطيت عنوة لهم. وأنه لمنع ''المحترفين'' من دخولها عُمد إلى فتح الباب ل ''تعددية'' ليست وهمية فقط بل فاسدة ومفسدة. ليست السياسة عندنا، حتى الآن، سوى ''لعبة'' وأن الأحزاب، في الغالب، ''تلعب'' دورا أو ''تحتل'' هوية، ولا تقوم بفعل سياسي. قبل نهاية السنة الماضية كانت وسائل الإعلام تتحدث عن أربع تشكيلات جديدة تنتظر الاعتماد، وهي حزب الحرية والعدالة وجبهة التنمية والعدالة وجبهة التغيير والحركة الشعبية، ثم ظهر أنها أكثر من 20 تنظيما. إن التشجيع على هذا ''التفتيت السياسي'' قد يكون نابعا من ''تكتيك سلطوي'' وهو فعل يعطي انطباعا قويا أن منع التغيير هو المقصود. والدليل هو ''تاج'' تفتيت من جهة و''تجميع'' من جهة أخرى. وواضح أن كثرة الأحزاب، والتي فاق عددها اليوم الخمسين حزبا على ما يبدو، لا يمكن أن تعبّر عن مساحات ديمقراطية إضافية. كما أن كثرة الصحف اليومية، والتي فاقت 130 يومية، لا تعبّر لا عن مزيد من الحرية ولا حتى عن أفكار وآراء ولا حتى عن مصالح مختلفة. ف ''التورم'' حالة مرضية حتى وإن أوهم الناظر إليه أنه عافية. وهو ما قد يجعل السلطة أو بعض مستشاريها وبعض المختصين في المناورة والتكتيك - تتوهم أنها تدير الأمر باقتدار، بل وبنجاح لأنها تمكنت من تخطي فترة ''الانتفاضات العربية'' بسلام. وقد لا يعود ذلك في الواقع لأي عبقرية سياسية بقدر ما يعود لحاسي مسعود. الظاهرة قد تكون تعبيرا عن ''مغص'' سياسي عنيف وليس تعبيرا حتى عن توثّب نخبوي باتجاه تحسين أداء العمل السياسي. لأنه مقابل هذا ''التورم'' ليس هناك لا نقاش سياسي ولا جدل ولا تدافع آراء ولا أفكار. لا يمكن للأسف لمثل هذه الممارسات أن تؤدي إلى تجاوز '' أزمة السياسي'' أو '' أزمة السياسة'' ولا لتجاوز أزمة السلطة بقدر ما توهم السلطة أو بعض أطرافها أنها وجدت ''الحل السحري''! إذا كانت هناك جهات تعتبر أن مثل هذه الممارسات يمكن أن تمثل ''بديلا سياسيا'' أو يمكن أن تنتج ما يقف إلى ما لا نهاية في وجه ديناميكية تغيير، فذلك أمر لا بد من التنبيه إلى أن ثمنه قد يكون كبيرا جدا على الجميع. لا يمكن تشكيل ساحة سياسية بقرار ولكن يمكن عرقلة قيام هذه الساحة السياسية بقرار. يمكن بقرار نشر فيروس يجعل الساحة موبؤة ويجعلها غير ذات فعالية. ويبدو لي أن ذلك يحدث بشكل من الأشكال. إن استناد السلطة لتنظيمات وهمية أو قائمة على المنافع والمصالح الريعية فقط هو مشكلة أخرى للدولة وللبلاد وليس للسلطة فقط. ينبغي الملاحظة أن الجزائر ليست جاهزة لقيام ''نظام المصالح'' بامتداداته السياسية، لأنه لا يملك فكرة تأسيسية ولا أي مبرر ذي مصداقية، على حساب ''نظام العواطف'' وثورة نوفمبر التي أسّستْهُ، و''الكيمياء السياسية'' الحالية ليست فقط ''كيمياء'' قابلة للتفجير بل هي '' كيمياء'' بمكونات فاسدة وانفجارها سيكون أخطر. إن أي مواجهة اليوم بين ''نظام المصالح'' و''نظام العواطف'' محفوف بالكثير من المخاطر وأي هيمنة للمصالح وحدها أو فرضها قصريا بفعل سلطوي أو بتحالف متداخل، داخلي خارجي، في ظرف عالمي متسم بالتأزم وبدوافع ''التغيير''، سيشكل تلاعبا لا تحمد عقباه. هل الخروج من هذا الوضع ما زال ممكنا؟ لا أعتقد. وعلى كل من يقف، سلطة أو جماعة سلطوية أو أصحاب نفوذ، في وجه الخروج من هذا الوضع، أن يقدّر مخاطر فعله وتبعاته. تبعا لهذا ينبغي أن ننبري اليوم، ليس للإقناع أن التغيير ضروري وممكن، بل ينبغي أن ننبري لشيء أساسي وهو: على الذي يمنع التغيير، حماية لمصلحة سلطوية أو مادية أو غيرها، أن يتحمل المسؤولية. وأول هؤلاء طبعا وأساسا السلطة القائمة.